بدأت معركة الاعتراف بالدولة الفلسطينية في الأممالمتحدة، لكنها لم تنته بعد، ويبدو أن الأمر سيحتاج الي بعض الوقت وكثير من الاصرار والتماسك العربي، بسبب التحيز الامريكي الفاضح لاسرائيل، وبسبب انشغال كثير من الدول العربية بشئونها الداخلية، سواء لمواجهة الثورات الشعبية في بعضها، او لمنع اندلاعها في البعض الآخر. بدأت واشنطن عقوباتها بحق الرئيس الفلسطيني محمود عباس مبكرا، فجاء قرار خصم 200 مليون دولار من المساعدات المقدمة الي السلطة الفلسطينية، كعقاب اولي لتوجهه الي الأممالمتحدة رغم اعتراض وانف الامريكيين والاسرائيليين، الذين آثروا لعبة اضاعة الوقت تحت عنوان وهمي اسمه "السعي الي استئناف المفاوضات"، انتقالا لوهم أكبر وآخر هو "المفاوضات نفسها"، لأنها لا تؤدي الي شيء. لكن العقاب الأكبر علي ما يبدو يسير في طريق الاطاحة بسلطة أبومازن، في إطار خطة امريكية، يمكن الوقوف علي بعض ملامحها، من خلال مد واشنطن لجسور التقارب مع الحركات الاسلامية التي اصبحت علي وشك لعب ادوار مهمة في قيادة بلادها. وتقول مصادر استخباراتية إسرائيلية إن عودة مدير المكتب السياسي لحركة حماس، خالد مشعل، إلي الأردن، جاء بضغوط أمريكية بعد رفض مصر نقل قيادة حماس من دمشق إلي القاهرة، ووصفت الأمر بأنه عقاب أمريكي للرئيس الفلسطيني محمود عباس، بعد توجهه إلي الأممالمتحدة لانتزاع اعتراف بالدولة الفلسطينية. رغم ما أعلنته وكالة الأنباء الأردنية "بترا"، الاسبوع الماضي، أن الحديث يجري عن السماح لمشعل بزيارة أمه المريضة، التي تتلقي العلاج بأحد المستشفيات، إلا أن مصادر إسرائيلية قالت إن ذلك لا يتسق مع قطع العلاقات بين المملكة الهاشمية وحركة حماس، منذ طرد مشعل من الأردن عام 1999 . قالت المصادر التي نسبت معلوماتها إلي تقارير استخباراتية إن الموافقة الأردنية جاءت نتاج ضغوط من الولاياتالمتحدةالأمريكية علي العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، وان الهدف الحقيقي من الزيارة هو إجراء مباحثات مع مسئولين أردنيين حول عودة قيادة حماس من دمشق إلي الأردن. وأضافت المصادر أن العاهل الأردني يعترض علي هذه الخطوة، إلا أن واشنطن نجحت في إقناع السعودية بالضغط عليه للموافقة، بعد أن رفضت مصر بشكل نهائي، في النصف الأول من سبتمبر الماضي، انتقال مكتب حماس من دمشق إلي القاهرة. المحور السوري وأوضحت المصادر ان مباحثات بهذا الشأن جرت في مصر طوال النصف الثاني من شهر أغسطس الماضي، أثناء زيارة خالد مشعل للقاهرة، وقالت إن المجلس العسكري كان ميالا للموافقة بهدف توجيه ضربة للمحور السوري الإيراني في المنطقة، لكن الموقف المصري تغير في بداية سبتمبر لثلاثة أسباب: الأول هو وقوع أزمة حادة بين الإخوان المسلمين وإيران، ولم يشأ المجلس العسكري - بحسب المصادر الإسرائيلية - إدخال عنصر موال لإيران إلي القاهرة في هذا التوقيت. والسبب الثاني هو توتر العلاقات بين المجلس العسكري وحركة حماس في قطاع غزة، بسبب سيطرة مجموعات عسكرية تابعة لحماس علي مناطق بشمال سيناء، وتزايد عمليات تهريب السلاح إلي حماس من ليبيا، عبر مصر وسيناء. أما السبب الثالث فهو نجاح الرئيس السوري بشار الأسد في قمع الثورة الشعبية في بلاده، وبالتالي رغبة مصر، كغيرها من الدول، في عدم وجود توتر في العلاقات معه. قال مسئولون في واشنطن إن الرئيس الأمريكي باراك أوباما يصر علي دعم حماس لنقل مكتبها من دمشق لعدة أسباب، من بينها أن مغادرة حماس لدمشق سيمثل ضربة إضافية تنال من نظام بشار الأسد، وتفقده قوة التأثير علي الملف الفلسطيني، فضلا عن أن الانتقال إلي الأردن يعني إضعاف علاقات الحركة الفلسطينية مع إيران وحزب الله. وأضافوا أن الرئيس الأمريكي يرغب في طمأنة "الإخوان المسلمين" في مصر، والتي تعد حماس فرعا لها، ونقل رسالة إليهم مفادها انه يراعي مصالحهم، بالإضافة إلي الرغبة في معاقبة "ابو مازن". ولم يتم الإعلان عن موعد زيارة مشعل إلي الأردن، والتي تعد الثانية له منذ طرده وآخرين من قيادات حركة حماس، وإغلاق مكتب حماس في العاصمة عمان، حيث سبق أن زارها لحضور جنازة والده في أغسطس 2009 . وإسرائيل أيضا اما علي الصعيد الاسرائيلي، فتبحث حكومة نتنياهو الوسائل الملائمة من وجهة نظرهم لمعاقبة ابو مازن، فوجه رؤساء 4 أحزاب في الكنيست خطابا إلي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الاسبوع الماضي، طالبوا فيه بضم أراضي من الضفة الغربية إلي إسرائيل، واتخاذ إجراءات ضد الفلسطينيين، عقابا لهم علي توجههم إلي الأممالمتحدة لانتزاع اعتراف بالدولة الفلسطينية. وطالب رؤساء "الليكود" و"الاتحاد القومي" و"شاس" و"البيت اليهودي" بضم تدريجي للمستوطنات اليهودية المقامة في الضفة الغربية وقطاع غزة إلي إسرائيل، ووقف تحويل الأموال إلي السلطة الفلسطينية، تنشيط البناء في المستوطنات، ومنع أي أعمال للبناء في البيوت والمنازل الفلسطينية بالمنطقة "ج"، وسحب البطاقات الممنوحة للشخصيات المهمة بالسلطة الفلسطينية، والتي كانت تسهل حركتهم بين إسرائيل والمناطق الفلسطينية. في المقابل، دعا باحثان إسرائيليان رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلي عدم معاقبة الفلسطينيين، وتعديل اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، والإعلان عن قبول مبادرة السلام العربية، واستغلال الظروف الحالية، عقب معركة الاعتراف بالدولة الفلسطينية في الأممالمتحدة، لتوطيد العلاقات مع مصر والسعودية والتفاوض مع الفلسطينيين. وقال الباحثان شلومو بروم وشمعون شتاين - في ورقة بحثية بمعهد دراسات الأمن الوطني، التابع لجامعة تل أبيب، إن ثمة فرصة ذهبية الآن، ينبغي علي إسرائيل استغلالها لتحسين علاقاتها بمحيطها الاستراتيجي في الشرق الأوسط، عبر طرح مبادرة سياسية تجني إسرائيل ثمارها في أربع ساحات، هي: مصر وفلسطين وتركيا والسعودية. دعا الباحثان إلي بلورة حوار استراتيجي بين مصر وإسرائيل، يتركز علي التغييرات المطلوبة في الملحق العسكري لاتفاقية كامب ديفيد، من أجل الحفاظ علي الأمن في سيناء، باعتباره مصلحة مشتركة للجانبين، وأشارا إلي أن الرأي العام المصري يتأثر بشدة بالتطورات الجارية علي الساحة الفلسطينية، مما يعظم من أهمية طرح مبادرة إسرائيلية لتحقيق السلام مع الفلسطينيين. توقع كل من "بروم"، الذي كان مديرا لوحدة التخطيط الاستراتيجي بشعبة التخطيط بهيئة الأركان العامة في الجيش الإسرائيلي، و"شتاين"، الذي كان نائبا لمدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية، لشئون شرق ووسط أوروبا، أن تنتهي معركة الأممالمتحدة إلي منح الفلسطينيين صفة "دولة مراقبة"، أي غير عضو، بالأممالمتحدة، وان تؤدي أزمة العلاقات الإسرائيلية مع مصر وتركيا، وتوتر العلاقات مع الأردن، إلي زيادة عزلة إسرائيل ووطأة الضغوط السياسية عليها، واندلاع مظاهرات تشهد أعمال عنف واسعة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. دعم دولي لذلك دعا الباحثان الإسرائيليان إلي بدء حوار مع الفلسطينيين حول مكانتهم الجديدة كدولة، والإجراءات اللازمة لاعتراف إسرائيل بها، بما يعد استئنافا للمفاوضات بطريقة أخري، وتوقعا ان يرحب الفلسطينيون بذلك، لدخولهم المفاوضات هذه المرة مسلحين بدعم دولي واسع. كما دعيا إلي الامتناع عن معاقبة الفلسطينيين علي توجههم إلي الأممالمتحدة، سواء بضم الكتل الاستيطانية إلي إسرائيل، أو الامتناع عن تحويل الأموال إليهم، حتي لا يثير ذلك مزيدا من الغضب الدولي علي إسرائيل، ويزيد الوضع السياسي تعقيدا، وأكدا أن إلحاق أي ضرر بالسلطة الفلسطينية يمثل ضررا للمصالح الإسرائيلية أيضا. ووصف الباحثان السعودية بأنها منزعجة للغاية من التطورات الجارية في الدول العربية وتطور البرنامج النووي الإيراني، مع ادعاء بوجود قاعدة للتعاون الواسع والتفاهم الاستراتيجي بين السعودية وإسرائيل. ودعا الباحثان بنيامين نتنياهو إلي الإعلان عن قبول مبادرة السلام العربية كأساس للمفاوضات بين الدول العربية وإسرائيل، ومنح فرصة لاستئناف المفاوضات مع الفلسطينيين، بما يمثل مبادرة إسرائيلية تكون لها تداعيات إقليمية ايجابية علي تل أبيب.