«مجمع البحوث الإسلامية» اتخذ قرارا بإرسال خطاب للمجلس العسكري يطالب فيه باتخاذ قرار لوقف عرض مسلسل «الحسن والحسين» لما يحتوي عليه من مخالفة للشريعة الإسلامية «جريدة التحرير بتاريخ 29 يوليو 2011» ولم يقدم المجمع «الدليل الشرعي» الذي يستند إليه في هذا المنع، والحقيقة أن منع تجسيد الأنبياء «والصحابة والمبشرين بالجنة وآل البيت» لا يوجد نص شرعي به، وليس ثمة رأي فقهي قديم في المسألة، إلا أن العلماء المعاصرين قرروا هذا المنع لأسباب قدروها باجتهادهم، ربما يوضحها الكاتب الإسلامي «فهمي هويدي» بقوله: «إن نماذج الأنبياء (عليهم جميعا صلوات الله وسلامه) ينبغي أن يحتفظ لها بصورتها المثالية في الاذهان، بحيث يظل النبي الحامل لكلمة الله رسالته في مكان النجم الهادي والمضيء في الوعي والضمير، ويظل الأنبياء شموسا تشرق علي الناس دائما من علٍ بإضاءات القيم والتعاليم التي بشروا بها، وهو إطار يخدش - لا ريب - إذا تقمص النبي شخص ما في سياق عمل فني ما فبدا علي ما ينبغي أن يكون عليه الأنبياء من سمو وطهر وورع، ثم قدر لهذا الشخص ذاته أن يلعب أدواراً أخري في أعمال فنية تظهره مرة مهرجا، ومرة أخري شريرا ومجرما، وفي مرة ثالثة ماجنا وعابثا أو معتوها ولئن حدث ذلك فقل لي بربك ألا يؤثر حينئذ علي صورة النبي في الوجدان العام، وألا ينال من توقير الأنبياء والرسل في نهاية المطاف»؟ أ.ه طريق الاجتهاد ومن حيث إن المنع كان باجتهاد بشري «وليس بنص شرعي» يظل الطريق مفتوحا لأي اجتهاد جديد. أقول: إننا نخشي أن هذه الصورة الغيبية التي ترسم للأنبياء والرسل في الوجدان العام قد ترفعهم فوق البشر، وقد يؤدي ذلك إلي بعض المزالق. أولا: موضوع الأسوة «القدوة»: فقد قضي الله سبحانه أن يكون الرسول قدوة لأتباعه، قال تعالي: «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة»، وهذا يستلزم أن يكون الرسول بشرا مثل المرسل إليهم هكذا كان الرسل السابقون وهكذا كان خاتم المرسلين، ودليل ذلك قوله تعالي: «وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم» وقوله عز وجل «وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق»، وقال لنبينا الكريم: «قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي» نعم هم بشر علي خلق عظيم، ومعصومون من الخطأ في تبليغ الرسالة فقط، لكن فيما عدا ذلك يظل النبي بشرا يخطئ ويصيب في اختياراته اليومية، وقد نبه الله إلي بعض أخطاء الأنبياء، وانظروا في القرآن إلي قصة «آدم» و«يونس» و«موسي»، وصحح - سبحانه - لمحمد «صلي الله عليه وسلم» بعض اجتهاداته واثبت ذلك في القرآن الكريم، بل إن بعض الأنبياء كاد ينزلق، ف«يوسف» الصديق (عليه السلام) همت به امرأة العزيز وهمّ بها لولا أن رأي برهان ربه، وكان ضغط الغواية عليه شديدا حتي استنجد بربه قائلا: «وإلاّ تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين». جواز الخطأ وما نحسب الحق «سبحانه» قد ركز علي بشرية الأنبياء، وعلي جواز الخطأ عليهم إلا ليبث في اتباعهم الاقناع بامكانية الاقتداء بهم، لأنهم لو كانوا فوق البشر لقال الاتباع: وكيف لنا أن نقتدي بهذا النجم العالي أو نتأسي بهذا الرمز الذي لا يطال، وعندئذ تنهدم فكرة الأسوة من أساسها. تهاويل التقديس ثانيا: المنزلق الثاني - إذا غابت بشرية الرسل وسط تهاويل التقديس - أن يفتن الاتباع بالرسول - فيشغلون بالرسول عن الرسالة، ويظلون يرفعون منزلته من الحب والتقدير، إلي التعظيم، إلي التقديس، إلي التأليه، وقد حدث ذلك من اتباع «المسيح»، ويحدث لنا- نحن اتباع محمد - شيء قريب من ذلك، وعليه بعض الإشارات: 1- انشغلنا أكثر بشخص الرسول، والأخبار التي رويت عنه، وجعلنا نقلده في المظهر والمأكل والملبس، وأغفلنا الرسالة «كتاب الله القرآن العظيم» بما فيه من أوامر ونواه «إن الله يأمر بالعدل والإحسان وايتاء ذي القربي وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي». 2- سمعت بأذني «المؤذنين» في القرية يختمون الأذان بالصلاة علي النبي، ومن الصيغ التي يهتفون بها: «الصلاة والسلام عليك يا نور عرش الله، فكيف ذلك والله - عز وجل - نور السموات والأرض؟! 3- ما سمعته من خطيب الجمعة وهو يتلو خطبته من ورق منقول من كتب تراثية فقال: «إن البقعة التي تضم جسد النبي هي أشرف بقعة في الوجود بما في ذلك العرش والكرسي»! ولما راجعته بعد الصلاة قال: هي مكتوبة كده! واحترت بين الكتاب المتجاوز والخطيب المقلد، وكان الله مع المتلقين! 4- ماورد في كتاب «التذكرة في أحوال الموتي وأمور الآخرة» للإمام القرطبي» حول ما حكاه «الطبري» عن فرقة أنها قالت في تفسير آية: «عسي أن يبعثك ربك مقاما محمودا» إن «المقام المحمود» هو: أن يجلس الله محمدا معه علي كرسيه»! تلك إشارات تشير إلي الاقتراب من دائرة الشرك، وما أحسب الله تعالي: قد أكد علي بشرية الرسل والأنبياء إلا ليدرأ مثل هذه الفتنة، ويحمي المؤمنين من أنفسهم، وإن النفس لأمارة بالسوء! وجدان المتفرج هذا من ناحية، ومن ناحية أخري نحن لسنا مع الرأي القائل بأن صورة النبي إذا تقمصها شخص ما في سياق عمل فني ما، ثم قدر لهذا الشخص ذاته أن يلعب أدوارا أخري تظهره شريرا أو مهرجا أو ماجنا، فإن ذلك سوف يؤثر علي صورة النبي في الوجدان العام وينال من توقير الأنبياء والرسل، لسنا مع هذا الرأي لأن كل صورة تستقر بذاتها في وجدان المتفرج وكل شخصية تأخذ موضعها الخاص في ذاكرته، وأنا أحكم من واقع خبرتي الشخصية، وما استشعره تجاه هذه الشخوص المختلفة التي يمثلها ممثل واحد، فإني حين استدعي من ذاكرتي - مثلا- شخصية: «صلاح الدين الأيوبي» الذي جسده الممثل: «أحمد مظهر» يحضر إلي مخيلتي «صلاح الدين» بكل شجاعته وكبريائه وشهامته، ولا يؤثر عليها دور «أحمد مظهر» الشرير الماجن في فيلم «الطريق المسدود» أو شخصية سائق القطار غليظ القلب الذي تقمصها في فيلم «غصن الزيتون». كما أن صورة المجاهد الليبي «عمر المختار» بتضحيته ووقاره وإنسانيته التي قدمها الممثل العالمي «انتوني كوين» لم تؤثر عليها بأي حال شخصية المليونير المنطلق في فيلم «أوناسيس» أو المرح السكير في فيلم «فيفا زاباتا» اللتين قدمهما. إن كل شخصية - كما قلنا - تأخذ مكانها في الذاكرة، وتظل منغزلة تماما عن الآخري. وفي نهاية الحديث عن الأنبياء اعترف لكم بأن فيلم «حياة المسيح» الذي توزعه الكنيسة، شاهدته والعائلة، وأثر فينا تأثيرا بالغا ذلك الممثل الذي جسد شخص «المسيح» برقته ودماثة إيمانه، لقد جعلنا نقترب من المسيح الإنسان، نحب الخير والبر فيه، ونحب السماحة التي عاش بها، وأحسب أنه لن يؤثر علي هذه الصورة أبدا أي أدوار أخري يلعبها هذا الممثل، فقد أخذ «المسيح» مكانه في الوجدان وانتهي الأمر. ثم نتحدث عن «الصحابة» - الممنوع ظهورهم في الأعمال الدرامية - فتقول: إنهم بشر مثل بقية البشر، منهم الصالح ومنهم الطالح، ومنهم المؤمن والمنافق «تذكر رواية الصحابي الذي كان يقاتل مع رسول الله، وقتل وقال عنه الرسول: «إنه في النار في بردة غلها، أي بسبب عباءة اختلسها من الغنائم، والذين يحتجون باستثناء الصحابة بأية «رضي الله عنهم ورضوا عنه «نقول لهم إن نفس الصيغة نزلت في الصادقين من المسلمين (المائدة 119)، ونزلت في الذين آمنوا وعملوا الصالحات (البينة 7،8). اتجاه عاطفي ولا فرق - فيما أري بين صحابي وأي مسلم في عصرنا، فإن الصحابي سمع القرآن من النبي «صلي الله عليه وسلم» أو من صحابي آخر، والمسلم المعاصر يسمع القرآن من قارئ أو يقرأ في المصحف، والفيصل في طاعة ما قرأ وسمع هذا وذاك ما جاء بالقرآن من أوامر ونواه، فمن يطع يدخل الجنة بمشيئة الله،أكثر من ذلك أقول ما أخبرنا كتاب الله من أن من يطع الله والرسول يصعد إلي عليا الجان فقال تعالي ومن يطع الله ورسوله فأوالئك من الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا» (النساء 69) أي أن «المسلم» الطائع ليس فقط مع «الصحابة» بل مع «الأنبياء».. فهل بعد هذه الآية يستطيع أحد أن يقول: إن الصحابة طبقة خاصة لها امتياز وحصانة تمنع الحديث عنهم، وتجسيدهم بل حتي نقدهم؟ لكن بعض الفقهاء يقدمون المرويات «ظنية الورود عن الرسول» علي الآيات القرآنية (قطعية الورود عن الرسول» وقد يكون هذا الاتجاه العاطفي نابعا من العشق الشديد لرسول الله لكن ذلك لا ينبغي أن يجعلنا نغفل عن حقائق القرآن. موقعة الجمل بل إنك تستطيع أن تأخذ من حوادث التاريخ ما يؤيد أن الصحابة «ومنهم المبشرون بالجنة» كانوا رجالا يصيبون ويخطئون، واختلف بعضهم مع بعض، وقاتل بعضهم البعض، وخذ كمثال علي ذلك«واقعة الجمل» إبان الفتنة الكبري كان علي رأس أحد الجيشين «علي بن أبي طالب» (رضي الله عنه) وهو من المبشرين بالجنة، وعلي رأس الجيش الآخر «طلحة بن عبيد الله» و«الزبير بن العوام» وهما من المبشرين بالجنة، وتقاتلوا وقتل «طلحة» و«الزبير» في هذه الواقعة، فكيف يتقاتل المبشرون بالجنة بعضهم مع بعض؟ إن الخلاف حين يصل بين طرفين إلي حد رفع السلاح فإن ذلك يدل علي فرق شاسع بينهما في المنطلقات الفكرية، فمن كان علي الحق ومن كان علي الباطل، وكلهم مبشرون بالجنة، وكلهم من رسول الله ملتمس؟ واقفز من عصر الصحابة إلي عصر اليوم، وإلي ما حدث من التيار الإسلامي في ميدان التحرير يوم الجمعة 29 يوليو، وأقول: إن ما أدي إلي تقاتل الصحابة ما كان إلا بسبب دخول السياسة في الدين لأن دين الصحابة لا تشوبه شائبة، لكن انظر إلي خطورة السياسة، فإذا كان لها هذا الأثر علي المسلمين الأوائل فماذا سيكون أثرها علي الأواخر، الذين شاب تدينهم الكثير من الشوائب؟! واهتف بقول الإمام «محمد عبده» «أعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن معني السياسة، ومن كل حرف يلفظ من كلمة السياسة، ومن كل خيال يخطر ببالي من السياسة، ومن كل أرض تذكر فيها السياسة، ومن كل شخص يتكلم أو يتعلم، أويجن أو يعقل في السياسة، ومن مساس ويسوس ودسائس ومسوس»! ولك الله يا مصر