السينما المستقلة.. أفلام مدهشة بميزانيات قليلية فيلم «حاوي» يحاول مقاومه تيارات السينما التجارية التقليدية، ويسبح ضد التيار مع غيره من المتحمسين لسينما المستقلة أو البديلة ويجدون فيها الوسيلة الوحيدة للخروج من أزمة السينما ، وهم في ذلك محقون الفيلم قصيدة شعر مرئية، في عشق مدينة الإسكندرية وناسها وبقايا ملامحها التي طمسها القبح والتخلف وتغير حال الناس! ولا أعرف إن كان «البطوط» من مواليد الإسكندرية مثل «شاهين»،أم إنه متيم بها لإنها تستحق أن يقع في حبها أبطال الفيلم مجموعه من الفنانين الذين لا تعرف أسماءهم، وبعضهم يقف أمام الكاميرا للمرة الأولي ، وربما تكون الوحيدة التي نعرفها جيداً من بين هؤلاء هي الفنانة حنان يوسف لن تفقد إحساسك بالمتعة والشجن وإنت تتابع هذا الكم من الشخصيات الإنسانية التي تشترك في أداء معزوفة سينمائية بديعة الحاجة أم الاختراع، والعقول المبتكرة تستطيع أن تجد أكثر من طريق للخروج من الأزمة أو الازمات، وقد اصبحت السينما المستقلة التي يطلق عليها البعض السينما البديلة هي المخرج الوحيد أمام مجموعة من السينمائيين للخروج من سيطرة شركات الانتاج التي تسيطر علي سوق السينما، ومن باب الدهشة أن الافلام التي طافت مهرجانات السينما في العام الماضي وحققت قدرا كبيرا من النجاح تنتمي إلي تيار السينما المستقلة، التي تقدم افلاما مدهشة بميزانيات ضعيفة تصل احيانا إلي أقل من أجر واحد من نجوم الصف الاول في السينما التجارية! الفيلم الأول إذا كان من الصعب أن نحكم علي أي مخرج جديد من فيلمه الاول، فإن المنطق يجبرنا أن ننتظر حتي يقدم ثاني أفلامه، فلم يكن فيلم «الغيرة القاتلة» مؤشرا منطقيا للحكم علي موهبة المخرج الراحل عاطف الطيب، ولا فيلم "سنة اولي نصب" مناسبا للحكم علي موهبة المخرجة كاملة ابو ذكري! وقد يكون نجاح الفيلم الاول مثل بيضة الديك، أي صدفة مستحيل أن تتكرر هذا إن حدثت في الاصل، ولكن الشهادة لله أن فيلم «عين شمس» كان يؤكد اننا أمام مخرج صاحب فكر مختلف هو إبراهيم البطوط الذي صادف حالة قصوي من التعنت مع رقابة علي أبوشادي، التي كادت تذبح تجربته، لولا أن الفيلم دافع نفسه واستطاع أن يفرض وجوده وينتزع الاعجاب بعد عرضه في عدة مهرجانات عالمية ومحلية! وجاء ثاني أفلامه "حاوي" ليؤكد أنه صاحب اتجاه ورسالة فنية وأنه عازم أن يفرض اتجاهه السينمائي رغم أنف السينما التجارية والمهيمنين عليها! يؤكد إبراهيم بطوط أنه يستطيع أن ينتج افلاما منطلقا من ميزانية "زيرو"، أي بأقل قدر من الاموال حيث يعتمد علي مجموعة من اصحاب المواهب البكر في شتي المجالات، فريق من الهواة وعشاق السينما لا يملكون إلا الموهبة والحماس يمكن أن يكونوا تيارا متدفقا ينقذ صناعة السينما من ركودها القاتل! ولكن الرياح لاتسير دائما وفق ما تشتهي السفن، فالجمهور المصري المكبل بذوق فني متواضع لا يقبل علي تلك النوعية من الافلام التي تخلو من النجوم والمشهيات الفنية التقليدية، وهذا ما يدفع اصحاب السينما المستقلة للقتال علي كل الأصعدة وفي جميع الميادين وساحات القتال! قصيدة عشق فيلم «الحاوي» قصيدة شعر مرئية، في عشق مدينة الاسكندرية وناسها وبقايا ملامحها التي طمسها القبح والتخلف وتغير حال الناس! ولا أعرف إن كان المخرج إبراهيم البطوط من مواليد الاسكندرية مثل الراحل يوسف شاهين، أم أنه متيم بها لأنها تستحق أن يقع في حبها، فهي مدينة الآداب والفنون ومنارة الحضارة، علي امتداد التاريخ، ابطال فيلم «الحاوي»هم مجموعة من الفنانين الذين لا تعرف أسماؤهم، وبعضهم يقف امام الكاميرا للمرة الاولي، وربما تكون الوحيدة التي نعرفها جيدا من بين هؤلاء هي الفنانة حنان يوسف ! ومع ذلك فلن تفقد إحساسك بالمتعة والشجن وأنت تتابع هذا الكم من الشخصيات الانسانية التي تشترك في أداء معزوفة سينمائية بديعة هي «الحاوي»، و«الحاوي» هي أغنية الفيلم التي تحمل معانيها ترجمة لبعض شخصيات العمل وتقول كلماتها التي يؤديها الفريق الغنائي السكندري مسار إجباري" بقيت غاوي في عز الجرح أنا ماببكيش.. بقيت عارف أطلع من ضلوع الفقر لقمة عيش.. بقيت قادر أداري الدمعة جوايا مابينهاش.. بقيت راضي أنام رجليا مقلوبة كما الخفاش"وإذا كنت ممن يبحثون في السينما عن الحدوتة فقط، فلن تجد مبتغاك في فيلم «الحاوي»، الذي يقدم شخصيات إنسانية تتفاعل مع البيئة والظروف الاجتماعية المحيطة وتمثل كل منها حالة خاصة غير متكررة. العودة إلي الغربة بعض هذه الشخصيات هي مفتاحنا إلي قلب الحدث، الذي يبدأ بخروج يوسف"محمد السيد" من السجن بعد سنوات طوال قضاها بعيدا عن ابنته" ياسمين "الكفيفة، بمجرد خروجه يبحث عنها ويجدها في إحدي المدارس الخاصة "الجيزويت" تدرس الموسيقي وتشارك بالغناء ضمن فريق الكورال، وفي لقائهما الأول يغلب الصمت عليهما ثم يحتضن الرجل ابنته ويلوذ مرة اخري بالصمت عندما تسأله هل تنوي السفر مرة اخري أم ستبقي معي؟ ولكن يوسف يخفي عنها أسباب دخوله السجن، وماذا ينتظره بعد خروجه منه، فهو يحمل مستندات تشكل خطورة ما علي أحد المتنفذين، وأن هناك من يتابعه ويرصد تحركاته بمجرد خروجه من السجن استعدادا للانقضاض عليه وتصفيته! أما إبراهيم "إبراهيم البطوط" فهو الآخر يعود للاسكندرية بعد سنوات من الغربة، يبحث عن ابنته" آيه" أو بيري معتز مونتيرة الفيلم، وهي لا تعرف عنه شيئا وحرصت امها علي أن تخفي كل صورة، وما يمكن أن يذكرها به، إبراهيم يحاول أن يتواصل مع ابنته دون أن يفصح لها عن نفسه، يدعي انه يحتاجها مراسلة لقناة إخبارية ويمنحها كاميرا لتصور بها أهم الاحداث، ولكن مشاعر الفتاة تقودها للشك في كونه والدها، وحتي تتأكد من حقيقته تطلب منه نقودا وتخبره أنها حامل وفي حاجة لإجراء عملية، الرجل تنهمر دموعه ويشعر بعذاب شديد ويصر أن يصطحبها عيادة الطبيب ليكون جوارها اثناء إجراء العملية، وبعد أن يكشف عليها الطبيب يخبر والدها أن الفتاة ليست حاملا، وعندما تبدو عليه الدهشة، تقول له كنت فاكر اني مش حا أعرف؟ ومش حا أحس أنك أبويا؟ علاقات قديمة تدخل بنا كاميرا الفيلم إلي محل احذية لرجل من اصول اجنبية، لعله الوحيد من افراد اسرته الذي قرر البقاء في الاسكندرية بعد أن هاجر معظمهم إلي كندا، ولكنه متمسك بصنعته في تفصيل الأحذية وله زبائن يقصدونه بشكل خاص، وتربطه بهم علاقات قديمة تمتد لسنوات خلت، ومن هؤلاء "حنان يوسف "مدربة العزف علي البيانو التي اعتادت شراء أحذيتها من محله الصغير في حي العصافرة، ذلك المحل الذي لايزال يحتفظ بديكوره القديم ولم يجر عليه اي نوع من التعديلات، فظل يحمل رائحة ايام زمان! أما عم جعفر "شريف الدسوقي" فهو عربجي كارته، يعشق حصانه ليس لكونه مصدر رزقه ، ولكن لأنه عشرة العمر، يكاد عم جعفر يفقد صوابه، عندما يخبره الطبيب البيطري أن حصانه " ضرغام " مصاب بمرض في القلب ويحتاج إلي عملية لا تجري في مصر، ويرجو جعفر الطبيب أن يجد لضرغام اي علاج، وخوفا علي حياته لا يتركه يبيت في الأسطبل بل يصحبه إلي حجرته البسيطة ليكون امامه طوال الوقت، ويقرر الا يضع عليه أحمالاً أو يرهقه خوفا علي حياته، تكاد تكون علاقة جعفر وضرغام من اروع مشاهد الفيلم، وأكثرها لمساً للمشاعر وإثارة للشجون، أما شخصية الراقصة حنان "رينا عارف" فهي من اكثر شخصيات فيلم «حاوي» تفردا، فهي تعشق الرقص الشرقي وتحترفه، وتستمتع به، وتحاول أن تقنع الآخرين بمدي رقي هذا الفن، ولكنها تعاني طوال الوقت من نظرة الآخرين لها، وتقارن بينه وبين رقصة الفلامنكو الإسبانية ، التي لاتصم من يرقصها بالعار. لكن في ظل مجتمع مرتبك تفشل حنان دائما في فرض وجهة نظرها في أن الرقص الشرقي فن محترم، وليس وسيلة للاثارة الرخيصة، وتتعرض من اجل عشقها للرقص لمشاكل ومواقف مهينة خاصة عندما تذهب لقسم الشرطة للابلاغ عن حادث سرقة تعرضت له، ويعاملها الضابط باسلوب شديد الشراسة والتخلف وتجادله في انها جاءت شاكية وليست متهمة، ومع ذلك يعاملها مثل فتيات الآداب فالنساء من وجهة نظره لا يتخيرن عن بعضهن! تيارات تجارية فيلم «حاوي» يحاول مقاومة تيارات السينما التجارية التقليدية، ويسبح ضد التيار مع غيره من المتحمسين لسينما المستقلة أو البديلة ويجدون فيها الوسيلة الوحيدة للخروج من أزمة السينما، وهم في ذلك محقون، ويبقي أن الجمهور المصري الذي يعاني سوء مستوي الاستقبال للتجارب الفنية الجديدة، هو العائق الأساسي لانتشار أفلام السينما المستقلة، وحتي الآن لم يتم استقبال اي منها بالشكل اللائق فلم يصادف فيلم «ميكرفون» أو «عين شمس» أو «هليوبوليس» أو «حاوي» إقبالا جماهيرا يليق بقيمة تلك الأفلام التي حصدت جوائز في معظم المهرجانات التي شاركت فيها، والأمر يحتاج إلي نوع من الصبر والإلحاح في تقديم المزيد من تلك الأفلام التي تحترم قيمة الفن بغض النظر عن القيمة التجارية فهذا هو السبيل الوحيد للانتصار علي سينما القبح التي أفسدت أذواق الجماهير!