يكاد يجمع المرشحون للرئاسة في عرض برامجهم بوسائل الإعلام المختلفة علي استمرار نهج "الاقتصاد الحر والسوق الحرة" كنظام اقتصادي يواكب النظام السياسي الليبرالي المقترح منهم. أي استمرار نهج التخلف والتبعية الذي آل إلي إفقار الشعب المصري في جملته ونهب ثرواته من قبل الطبقة الرأسمالية الحاكمة - والتي مازالت حاكمة رغم الإطاحة ببعض رءوسها - والذي تضمنت الإرادة الشعبية لثورة 25 يناير إنهاءه، وهو ما يعني مصادرة الثورة والالتفاف عليها والإصرار علي بقاء الطبقات الشعبية أسيرة الفقر والعوز. إنها التنمية الرأسمالية التابعة. فما هذه التنمية؟ وما أساسها التاريخي ومضمونها الاقتصادي والاجتماعي؟ أساس تاريخي أدي التوسع الاستعماري في القرن التاسع عشر إلي تحويل جزء كبير من فائض القيمة - أي ذلك النصيب من ناتج العمل الذي يزيد عما هو ضروري لإعادة تكوين قوة العمل - من المجتمعات المسيطر عليها إلي المجتمعات المسيطرة، وذلك عن طريق إخضاع تطور البلاد المستعمرة لاحتياجات سياسة رأس المال العالمي من خلال إدماج هذه البلاد في نظام التقسيم الدولي غير المتكافئ للعمل، فمثلا تكونت فيها ملكيات زراعية كبيرة تنتج من أجل السوق العالمية مواد خام كما حدث في عصر محمد علي حيث تم إدخال زراعة القطن كمحصول نقدي يصدر إلي مصانع النسيج في بريطانيا المستعمرة، وكما استمر بعد ذلك تحت أشكال أخري مختلفة، والنتيجة الأساسية لهذا التقسيم الدولي أن تحويل فائض القيمة خفَّف شدة الاستغلال الرأسمالي المباشر في الدول المتقدمة بينما زاد في الاستغلال الرأسمالي المباشر وغير المباشر للعمال والفلاحين في البلدان المسيطر عليها. وعلي ذلك راحت الطبقة العاملة في بلدان المراكز الرأسمالية تقبل وضعها وتكتفي بزيادات أجورها المستمرة الموازية للزيادة المستمرة في الدخل القومي. أما في بلدان المستعمرات وأشباه المستعمرات فقد قُفلت أبواب المستقبل أمام أغلبية هذه الشعوب التي رأت ظروفها المادية لا تتحسن بل تتدهور، وهو ما نلمسه الآن في مصر حيث يتم الحديث عن ارتفاع معدل التنمية من جانب وتدهور الأحوال المعيشية للشعب من جانب آخر. خلق اشتداد الاستغلال الرأسمالي هذا ظروفا مواتية (مجرد ظروف تحتاج التفعيل) لثورة الشعب، وبما أن هذا الاشتداد في الاستغلال صاحبه نفي للحقوق السياسية (حق تشكيل الأحزاب والنقابات والحريات السياسية دون قيود أو شروط) فإن أغلبية الشعب من المضارين من الاستغلال الرأسمالي المحلي المتحالف مع الاستغلال الرأسمالي العالمي أخذت في الازدياد. وبما أن بلادنا مثل كثير من البلاد المسيطر عليها تتشكل من طبقة فلاحية كبيرة وشريحة واسعة من الحرفيين وصغار التجار وطبقة عاملة غير مُسيسة بالقدر الكافي لإنضاج ثوريتها فإن طابع نضال هذه الطبقات لم يأخذ طابعا اشتراكيا حاسما. في الرأسماليات المركزية هناك توافق بين نمو قطاع الإنتاج للاستهلاك وقطاع إنتاج وسائل الإنتاج يسمح بزيادة الأجور الحقيقية للعمال موازية لزيادة إنتاجية العمل وزيادة الدخل القومي، لكن نمط التصنيع في بلادنا - والبلاد المماثلة - لم يحدث هذا التوافق بسبب أن التنمية تجد سوقها أولا في تصدير ما تطلبه منها البلدان المتقدمة وثانيا في توسيع سوق الاستهلاك للأقلية المستفيدة من هذه التنمية المشوهة، وبذلك لم ينتج نمط تصنيع بلادنا توافقا بين إنتاج سلع الاستهلاك وبين إنتاج وسائل الإنتاج التي استمرت في حوزة الدول الإمبريالية بصفة أساسية. هذا النموذج المشوه للتنمية لم يخلق ربطا بين الأجور الحقيقية للعمال والأجراء والدخول الحقيقية للفلاحين وبين إنتاجية العمل، بل إن التصنيع ارتبط بزيادة دخول الفئات العليا وهي دخول مخصصة للاستهلاك الترفي في أغلبها وليس لتراكم رأس المال، ومن هنا أيضا التفاوت المتزايد في توزيع الدخول. جذر هذا التباين هو علاقة التبعية التي تربط البنية الاجتماعية المسيطر عليها بالبنية الاجتماعية المسيطرة مع ملاحظة أن علاقة التبعية تنتقل من أشكال قديمة إلي أشكال جديدة مثل التبعية التكنولوجية والثقافية والاتصالات والإعلام والقروض وغير ذلك. - قامت الثورات الوطنية في البلاد التابعة بقيادة البرجوازية معادية للاستعمار والطبقات المحلية الحليفة للاستعمار دون أن تقود هذه الثورات الطبقات الشعبية بل مع قمعها، فألغت هذه الثورات في أغلبها حكم كبار ملاك الأرض والبرجوازية الكومبرادورية القديمة (التجارية والمالية أساسا) وهي الطبقات المحلية الحاكمة المتمشية مع التقسيم الدولي القديم للعمل وحل محلها - بفضل هذه الثورات البرجوازية المبتورة - نظم برجوازية حديثة نسبيا دخلت التقسيم الجديد للعمل، ولذلك كان مسموحا بقيامها من قبل رأس المال الاحتكاري الإمبريالي إلا من بعض المشاغبات والتحفظات، ودخلت هذه الثورات في نطاق التنمية التابعة تحت شعارات وطنية مزيفة. يأتي تزييفها من عدم إحداثها قطيعة مع الاستعمار ورأس المال الإمبريالي هذا، وتسير بعض دول الجنوب المعتمدة لمشروع التنمية التابعة للتوجه لدول المركز بتحسين شروط تعاملها مقترحة تقسيما جديدا للعمل يساعد علي "نجاح" مسيرة تصنيعها الموجه للتصدير إلي المراكز يعتمد علي منطق "الميزات المقارنة" علي أساس أن هذه الصناعات المقترح قيامها علي أراضيها برأسمال إمبريالي يستفيد من ميزة الأجور المنخفضة وكذلك من غزارة الموارد الطبيعية الرخيصة لديها وذلك عن طريق 1- رفع أسعار الصادرات التقليدية من مواد خام وغيرها بهدف تحقيق موارد إضافية لتمويل تصنيعها واستيراد وسائل الإنتاج اللازمة لإتمام مشروع تصنيعها 2- تسهيل حصولها علي التكنولوجيا اللازمة لتحقيق المشروع بخفض أسعار وسائل الإنتاج المستوردة، وهذا المشروع ليس مناقضا في جوهره لمنطق التوسع في إطار النظام الرأسمالي العالمي بل بالعكس هو مشروع يدخل في منطق تعميق اندماج الدول التابعة في هذا النظام. وهو بالتالي محكوم عليه بالفشل في التحرر من علاقة التبعية والسؤال لماذا؟ البرجوازيون لا يحكمون لأن الطبقة البرجوازية الحاكمة في أغلب بلدان الجنوب تكونت ومازالت مستمرة في حكم بلادنا في ظل السيطرة الاستعمارية وبذلك كانت مصالحها مرتبطة بالمصالح الاستعمارية وهي بالتالي لا يمكن أن تقود حركة تحرر وطني حقيقي. وهذه الطبقة لم تقم بالثورة البرجوازية علي شاكلة الثورات البرجوازية في أوروبا والتي كانت في جوهرها ثورة فلاحين تصفي النظام الإقطاعي في الريف وتحل محله نظاما زراعيا رأسماليا يعتمد علي طبقة من أغنياء الفلاحين. أما السبيل غير الثوري الذي سلكته برجوازيتنا فما هو إلا تحويل الطبقة الإقطاعية القديمة أو كبار ملاك الأرض شبه الإقطاعيين نفسها إلي طبقة ملاك رأسماليين زراعيين كبار منخرطة في النظام الرأسمالي العالمي كشريك غير متساو، مصلحتها في استمرار التقسيم الدولي للعمل غير المتكافئ رغم سعيها لتحسين شروط تبعيتها. في ظل هذا التطور أخذت دينامية الأجر والأشكال الأخري لعائد العمل (مثل دخول الحرفيين) تتجه اتجاهات مختلفة في المراكز والأطراف، فحينما أخذ الأجر في المراكز يرتفع ظل الأجر وعوائد العمل في الأطراف ثابتا أو لا يتطور بتطور أرباح الملاك، وأصبحت "آمال" البرجوازيات التابعة الحاكمة في بلوغ "الكمال" البرجوازي مستحيلة، وأصبح "التخلف" يعني استحالة تجانس النظام الاقتصادي العالمي، وبقائه بين قطبية مراكز وأطراف، وأصبح الخروج من هذا المأزق يتطلب الخروج من نطاق "النظام الرأسمالي العالمي" الذي يضع هذه البلاد في موقع الأطراف واعتماد تنمية مستقلة عن المراكز معتمدة علي الذات يقيمها حلف طبقي وطني شعبي بقيادة الطبقة العاملة وفقراء الفلاحين وكل الأجراء الآخرين. إن التصنيع الذي تنشده البرجوازية الحاكمة التابعة للرأسمالية العالمية ومنظماتها في بلادنا يوجه جزء كبير منه وفقا لنموذج الاستهلاك الغربي المتقدم وهي صناعات كثيفة رأس المال للغاية الأمر الذي يرتب الاقتراض الخارجي المشروط والضغوط المترتبة علي الديون الخارجية، كما أنها تُصنِّع كل ما ثقل وزنه وقلَّت قيمته من منتجات لا يحتاج إنتاجها لأي تقدم تقني كبير. كما أن دورها في إنتاجه قد لا يتجاوز التجميع للأجزاء المستوردة، فمصر لم تنتج حتي الآن ليس الطائرة وإنما السيارة أو قاطرات السكة الحديد. كما أن الفهم البرجوازي الكومرادوري للتصنيع هو إنشاء مشروعات "مربحة" مهما كانت عدم أهميتها للتنمية. أما الفهم الوطني الشعبي فهو إنشاء مجموعة متكاملة من الفروع الصناعية علي نمط ما هو موجود في البلدان المتقدمة. وبالتالي فالتصحيح الضروري هو إعادة النظر في العلاقة الظالمة بين الريف والمدينة وبين الزراعة والصناعة والتي هي أساس مشكلة التفاوت في توزيع الدخل. هذا التصحيح يتماشي مع احتياجات التحالف الوطني الشعبي للعمال والفلاحين وأولويات احتياجاته الغذائية الرئيسية (قمح - أرز - ذرة - بطاطس - عدس - فول - زيت - سكر ..) قبل الفاكهة مثلا وداخل الفاكهة البرتقال والجوافة والبلح قبل الفراولة والكنتالوب والتفاح واحتياجاته السلعية الصناعية الأساسية الأخري مع إعادة النظر في علاقة الأسعار وعوائد العمل، الأمر الذي يتطلب التدخل لصالح هذه الطبقات الشعبية بحيث نصل إلي قدر مناسب من المساواة في توزيع الدخل بين الفلاحين والعمال وصغار ومتوسطي الموظفين والحرفيين وباقي الفئات الاجتماعية الأخري التي تستحوذ علي مجمل الدخل القومي وسيترتب علي هذه السياسات الجذرية وقف الإسراف في الإنفاق الحكومي متمثلا في نهب كبار المسئولين والموظفين لمخصصات الأجور في الميزانية تحت شعارنا الذي لن نمل من طرحه "الحد الأقصي أولا" والتبذير في الاحتفالات العامة ومواكب الرؤساء والوزراء ومخصصاتهم ونفقات الأمن (الشرطة والجيش) المبالغ فيها، وستؤدي العدالة في توزيع الدخول إلي تغيير شكل الطلب علي مختلف السلع الضرورية يختلف عن شكل الطلب الكلي الراهن. الخلاصة: التنمية سلطة سياسية قبل أن تكون قرارات فنية. حيث لن تصبح مصر - طبقا للسياسات السابقة علي الثورة والحالية - مثل إيطاليا في تطورها الاقتصادي بعد عشر سنوات، كما صرح بذلك يوسف بطرس غالي وزير المالية السابق في صحف 30/9/2010 . أو أن مصر يمكن أن تدرج ضمن العشرين دولة الأولي اقتصاديا علي العالم في ظرف عقد واحد كما يدعي أغلب مرشحي الرئاسة لأن هذه التصريحات تدخل في باب الكوميديا السوداء أو التضليل والنصب المعاقب عليه جنائيا.