في الصورة الكاريكاتيرية التي رسمها أحد الرسامين الأمريكيين خلال فترة الحروب الأهلية في كل من الصومال ويوغوسلافيا القديمة والجمهوريات الآسيوية للاتحاد السوفيتي السابق أبرز صورة الشعوب وهي تتصارع وتتقاتل بالأيدي وبالرشاشات والبلط والسيوف والخناجر بينما جلس الرأسماليون العالميون موحدين مبتسمين يرسمون الخرائط ويدخنون السيجار ويجمعون الأموال في غرف مجالس إدارتهم. هذا هو الواقع العالمي الذي نعيشه والذي تثبته تلك الأحداث التي جرت ولاتزال تجري في العالم منذ انتهاء الحرب الباردة ولا شك أن هذه الصورة الكاريكاتيرية الدالة تشير إلي التناقض الحاد الذي يشطر العالم إلي قسمين غير متكافئين الشمال بأضوائه وثرواته وتقدمه التكنولوجي المبهر - حيث التجمعات الدولية الاقتصادية العملاقة التي تنتقل بأعمالها وأنشطتها حيثما تتوافر الظروف المثلي لنموها وأرباحها فتوحد الأسواق وتزيل الحواجز وتتحكم في مفاتيح التقدم التكنولوجي وتفرض العولمة قانونا والنصف الآخر من الصورة يشير إلي الجنوب حيث المواقع الأكثر فقرا والأقل قدرة علي المواجهة والتي امتلكت بحكم تراثها التاريخي تركة هائلة من الهموم السياسية والاجتماعية لم تمكنها من مواجهة تحديات مرحلة ما بعد الاستقلال السياسي وتعيش أغلبها علي الزراعة القديمة أو الصناعة البدائية وبالتالي لم يتحقق لها التراكم الرأسمالي الذي يسمح لها بتجاوز دائرة التخلف والاستنزاف ولذلك ظلت تنتظر القادمين من الشمال من أجل الاستثمار وزيادة الدخل القومي والتحرر من أسر التبعية الفقر والإفقار المتواصل. يقول المهاتما غاندي إن الفقر هو أسوأ أشكال العنف كما يضيف هو شيء منه أن الحرية الحقيقية هي تلك التي تؤدي إلي التحرر من الفقر وإذا كان الأول قد خاض أنبل عملية نضال سلمية ضد المستعمر البريطاني وتولي الثاني قيادة ملحمة النضال التاريخية للشعب الفيتنامي ضد فرنسا ثم الولاياتالمتحدة فإن كليهما اتفق علي أن الاستقلال عن قوة الاحتلال الأجنبية لا يكفي لتحقيق الحرية والتحرر وإنما يتم تحقيقهما بالخلاص من الفقر. وتشير التقارير الدولية إلي الثالوث الخطير الذي يحاصر شعوب العالم الثالث ويجعل 90% من أبنائه محرومين تماما من ممارسة حقهم الطبيعي في المشاركة السياسية والاقتصادية ويتشكل هذا الثالوث من القوانين التفصيل لأصحاب النفوذ والبيروقراطية وسوء توزيع الثروة فعلي امتداد هذا العالم الجنوبي توجد فوارق رهيبة بين الطبقات داخل المجتمع الواحد، هناك تحيز مشين في نظم حيازة الأرض لصالح الأغنياء، في مصر مثلا مازال 20% يسيطرون علي 70% من الأراضي الأمر الذي أدي إلي زيادة العجز في الميزان التجاري وبالتالي زيادة المديونية الخارجية وزيادة أعباء خدمتها، هذا بالإضافة إلي إهدار القلة المسيطرة سياسيا للفوائض الاقتصادية المتاحة في أوجه انفاق استهلاكية. اختلاط التقارير إذا كان الفقر يعد مشكلة عالمية وظاهرة اجتماعية متعددة الأبعاد والتأثيرات ولا يكاد يخلو منها مجتمع رأسمالي أو نام مع تفاوت حجمها وطبيعتها والفئات المتضررة منها، ففي مصر تطغي فوضي الإحصاءات فالحقيقة غائبة بين التناقض في الإحصاءات والاختلاف في إسناد المعطيات واختلاط التقارير. فقد عرض جودت الملط رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات أمام مجلس الشعب (أبريل 2010) تقريرا عن الحساب الختامي لموازنة الدولة 2008/2009 حيث أشار إلي ارتفاع معدلات الفقر في مصر إلي 4.23% مقارنة ب 20% في موازنة 2007/2008 وفقا لتقرير التنمية البشرية الصادر عن الأممالمتحدة. وأكد الملط أن تقرير التنمية البشرية وضع مصر في المرتبة 123 من بين 182 من أكثر دول العام فقرا بينما وضعها في تقرير الفقر في المرتبة 82 خلال عام 2009، وأظهر التقرير أن السكان الذين يعيشون أدني من خط الفقر ويراوح دخلهم ما بين دولار وربع الدولار في اليوم يشكلون 27% علي امتداد الفترة من 2000 إلي 2007 فبينما يمثل من يبلغ دخلهم دولارين في اليوم 4.18% وهناك 77% من سكان الريف المصري فقراء، وبدي التناقض في الإحصاءات عندما صرح وزير التنمية الاقتصادية عثمان محمد عثمان أن معدل الفقر تراجع إلي 19% عام 2009 من 23% عام 2002 وأن معدل الفقر في الريف المصري انخفض من 31% إلي 26% وفي الحضر من 13% إلي 6.8%، وأكد الوزير عثمان محمد عثمان أن النمو الاقتصادي المرتفع الذي حققته مصر ما بين 2005 - 2008 قد أدي إلي تمكين حوالي 8.1 مليون فقير من الخروج من معدلات الفقر المتعارف عليها، أما التقرير الاقتصادي الاستراتيجي الذي يرأسه أحمد النجار فهو يشير إلي وجود 5.20 مليون مصري يعانون من الفقر المدقع و8.35 مليون مصري يقل دخلهم اليومي عن دولارين، أما إذا أخذنا بحد الفقر في الولاياتالمتحدةالأمريكية (10 دولارات يوميا) فإن ذلك يعني أن 80% من المصريين يقعون تحت خط الفقر.. وتجمع التقارير الدولية علي رصد وإدانة مظاهر التدهور في الصحة والتعليم والبطالة والعمل في مصر، إذ تشير منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة «فاو» في تقريرها الصادر عن 2009 إلي معاناة 60% من الأسر المصرية من سوء التغذية نتيجة تدني الأجور ومستوي الدخل إضافة إلي ظاهرة الزواج المبكر للقاصرات هربا من الفقر، وأظهرت دراسة أعدتها وكالة بلومبرج الألمانية للأنباء عام 2009 عن احتلال مصر المركز السابع والخمسين من بين 60 دولة في معدلات التضخم العليا وارتفاع الأسعار واستفحال البطالة وتدهور مستوي الأجور وعدم تناسبها مع حركة الأسعار. وتتضارب إحصاءات البطالة في مصر ففي حين تؤكد وزارة القوي العاملة أنها لا تتجاوز 7% يفيد تقرير البنك الدولي أنها تجاوزت 22% وتشير منظمة العمل العربية أنها لا تقل عن 23% مما يشكل تهديدا مباشرا للأمن الاجتماعي والاقتصادي علما بأن مصر حصلت علي المركز 111 في الشفافية والنزاهة من 180 دولة. البدائل والاحتمالات لقد طرح عالم الاجتماع المصري د. سمير غنيم ثلاثة سيناريوهات عن مستقبل الفقر في مصر استنادا إلي بعض الدراسات المستقبلية التي أجريت علي المستويين العالمي والمحلي أولها السيناريو المرجعي، ويشير إلي القيام ببعض الإجراءات الحكومية للتخفيف من حدة الفقر تطبيقا لروشتة البنك الدولي مثل مشروعات الأسر المنتجة والقروض الصغيرة ورفع الحد الأدني للأجور وخلق فرص عمل جديدة للشباب وتحسين أحوال العشوائيات مع استمرار التمسك بمبدأ السوق الحر واستمرار الاعتماد علي مصادر الدخل القومي الريعية «السياحة - قناة السويس - البترول - تحويلات المصريين في الخارج»، ويشير هذا السيناريو إلي استمرار زيادة أعداد الفقراء وسوء أحوالهم مع ارتفاع التضخم وغلاء الأسعار وتدهور مستوي الصحة والتعليم والمواصلات والثقافة. استمرار هذا المشهد أفرز التداعيات الموضوعية التي أدت إلي السيناريو الثاني ويرصد د. سمير نعيم ملامحه بالتطبيق علي الواقع المجتمعي الراهن في مصر فيشير إلي الاستقطاب الجغرافي الناتج عن الاستقطاب الطبقي حيث أصبح للأثرياء في مصر مجتمعات سكنية خاصة تقع في مناطق نائية ومعزولة عن الكتل السكانية الفقيرة ومحاطة بأسوار عالية وحراس عتاة مما يعد ظاهرة اجتماعية غير مسبوقة في تاريخ مصر ويدل علي عدم إحساس الأثرياء بالأمان في ظل ازدياد أعداد الفقراء. أما السيناريو الثالث الذي أطلق عليه سمير أمين المفكر المصري العالمي «السوق المقنن» ويتحقق هذا السيناريو في حالة إدراك النخبة الحاكمة لمخاطر سيناريو القلاع الحصينة واضطرارها للخضوع للضغط الشعبي من ناحية والاستجابة لمحاولات التغيير السلمي الذي تتبناه الطلائع المستنيرة من النخب الثقافية والسياسية في مصر من ناحية أخري، وهذا السيناريو لن يؤدي إلي القضاء علي الفقر ولكنه يسعي إلي تضييق الفجوة بين الأغنياء والفقراء بالقدر الذي يسمح بانتقال مصر من منظومة العالم الرابع «الدول المفعول بها» وانضمامها إلي دول العالم الثالث الفاعلة في المنظومة الرأسمالية العالمية. هذا السيناريو يتسم بقدر كبير من الواقعية المحاصرة بمعطيات وملابسات وتعقيدات الظروف المحلية والعالمية الراهنة إذ لا يتطلع إلي إمكانية إعادة توزيع الدخل القومي أو العالمي بما يكفل القضاء علي الفقر وليس مجرد تخفيف حدته، الأمر الذي سوف يغلق الأفق أمام طرح بدائل أو سيناريوهات أخري تستهدف إحداث تغييرات جذرية في منظومة العولمة الرأسمالية وتؤدي إلي تحجيم تداعياتها المأساوية علي شعوب الجنوب وفي قلبها مصر، ولكن خبرة التاريخ تؤكد أن استمرار الحال من المحال فالإضرابات والاعتصامات والاحتجاجات العمالية والمهنية قد يؤدي تراكمها واستمراريتها إلي بروز أفق مستقبلي يطرح آليات جديدة للتغيير. تشكيل الوعي تؤكد الدراسات علي أن وسائل الإعلام المقروء والمرئي والمسموع تلعب دورا مركزيا في تشكيل الوعي لدي الجمهور العام سواء في إطار تزويده بالمعلومات الصحيحة أو في تشكيل اتجاهاته ومواقفه تجاه قضايا وتحديات العصر وأيضا في تحديد الأولويات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، ولا شك أن ارتفاع معدلات الأمية وانتشار العوز الاقتصادي والجمود الاجتماعي في أغلب دول الجنوب يؤثر بصورة حاسمة علي مستوي أداء وفاعلية وسائل الإعلام في تشكيل الوعي المجتمعي في هذا الجزء من العالم. وهناك نموذجان رئيسيان يسيطران علي خريطة الاهتمام الإعلامي بقضايا الفقر والجوع في شمال العالم وجنوبه. يعتمد الأول علي الاهتمام الموسمي المؤقت المرتبط بالأزمات والنكبات المجتمعية والبيئية وغالبا ما يصاحبه نمط التغطية الإعلامية القائم علي الإثارة والاكتفاء بالجوانب الصارخة وتحاشي الإشارة إلي الأسباب الكامنة وراء النكبات علاوة علي انتهاء الاهتمام الإعلامي بانتهاء حدة الحدث وعدم الحرص علي متابعته أو تفسير آثاره، كذلك تخضع المعالجات الإعلامية لقضايا الفقر والجوع في إطار هذا النموذج لآليات المنافسة التي تفرضها السوق الإعلامية العولمية. الديون والبيئة وتتناول الصحافة المصرية قضايا الفقر في ثنايا القضايا الأخري مثل الديون والقروض ومشكلات البيئة والتسلح ومساعدات الدول الصناعية والمؤسسات المالية الدولية لإنقاذ الدول الفقيرة وتقارير صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. أما النموذج الثاني للاهتمام الإعلامي بقضايا الفقر والجوع فهو يعتمد علي النظرة المتكاملة لهذه القضايا سواء في علاقتها العضوية بالقضايا المجتمعية الأخري «السياسية والاقتصادية والثقافية» أو فيما تتميز به من سمات الاستمرارية وعدم الانقطاع مما يستلزم معالجات إعلامية تتسم بالشمول ولا تقتصر فقط علي الأزمات والمجاعات ويرتبط هذا النموذج بنمط التغطية الإعلامية ذات الطابع النقدي التربوي الذي يري أن نشر المعلومات الصحيحة عن الفقر والجوع ليس كافيا بل لابد من توعية الجمهور بحقوقه المجتمعية والمسئوليات المترتبة علي هذه الحقوق علاوة علي اهتمام وسائل الإعلام بمحاولة إشراك الجمهور في عملية تقييم الموضوعات التي تنشرها وتذيعها بحيث يسهم الجمهور المتلقي في تعديلها وتطويرها، ويتميز هذا النمط النقدي في معالجة قضايا الفقر والجوع بقدرة أصحابه من الصحفيين والإعلاميين علي تقديم رؤية نقدية لكشف كل أشكال التضليل الإعلامي التي يقدمها أنصار النموذج الأول، كذلك يمتلكون القدرة والإمكانيات المعرفية علي مواجهة ادعاءات الحكومات وأصحاب المصالح التجارية والاستثمارية الذين يحاولون تجميل وجه سياساتهم وممارساتهم الضارة بالاقتصاد الوطني والتي تستبعد مصالح وحقوق الفقراء. ويري أصحاب هذا الاتجاه أن استجابة الجمهور بالإسهام في حل مشكلات الفقر والإفقار يرتبط بمدي حصول هؤلاء علي حقوقهم المعيشية في العمل والسكن والتعليم والعلاج والمشاركة السياسية.