أجد بي ميلا إلي قراءة التاريخ الإسلامي في موسوعاته الكبري، ومظانه الأولي مثل «تاريخ الرسل والملوك» للإمام الطبري، «الكامل..» لابن الأثير، «مروج الذهب» للمسعودي، «البداية والنهاية» لابن كثير وتاريخ اليعقوبي، وهي كتب كبيرة يقع الواحد منها في أجزاء كثيرة باستثناء الكتاب الأخير، وسر ميلي إلي هذه الكتب الضخام، هو اشتمالها إلي جانب الحوادث السياسية والعسكرية علي حكايات عجيبة، وقصص شائقة، وأشعار حكيمة، ونوادر أدبية، وهي لطائف تخفف من عبوس الأحداث، وجهامة الحروب، وبإيجاز مادة ملينة في الكتاب، مشوقة إلي القراءة، وقد تخلص المؤرخون المحدثون من هذه الحكايا والعجائب والفكاهات حرصا منهم علي أن تأتي إلينا كتبهم جافة: ملتزمة ب«المنهج». ومن كتب التاريخ المصري المهمة «النجوم الزاهرة.. » لابن تغري بردي الاتابكي وكان عالما بوقائع التاريخ، والحروب، والفتن، وأخبار الأعلام، كما كان عارفا بالأدب، وأسلوبه سهل مرسل منبسط، وقد أورد فيما أورد من كتابه الزاخر السالف ذكره: قصة «اتفاق» التي عشقها واقترن بها ثلاثة ملوك اخوة من أسرة قلاوون، علاوة علي وزير ختمت به أيامها الحافلة، وهي من الحكايات العجيبة، وقد استعنت في سرد واقعاتها بكتاب آخر هو «الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة» لابن حجر العسقلاني، فقد أورد لها ترجمة وعدها من أعيان القرن الثامن الهجري، وهو شرف فوق مستوي طموحاتها، لكن قد يحظي بالشهرة الواسعة في الحياة من لا يستحقها. الملك الصالح إسماعيل واتفاق جارية سوداء أو حالكة السواد علي حد قول ابن تغري بردي، وكانت نشأتها في مدينة بلبيس عند امرأة من أهل الغناء، وقد اشترتها امرأة قاهرية من سيدتها بأقل من أربعمائة درهم، وكانت من أهل المغاني، وكان من عادة كثير من النخاسين في ذلك الزمن وقبله اختيار مجموعة من الجواري وارسالهن إلي بيوت الغناء ليتعلمن علي الأساتذة المشهود لهم بالكفاية في هذا المجال، وكانت الجارية تتعلم الغناء، والألحان، والعزف، وبذلك تكون غالية الثمن، عالية القيمة، وهذا ما فعلته السيدة القاهرية التي اشترت «اتفاق» فقد بعثت بها إلي موسيقي مشهور هو عيد علي العجمي ليعلمها الأصوات والألحان، وقد أظهرت اتفاق حسن الاستعداد، فتعلمت ومهرت في الموسيقي والغناء، وحينئذ رأت سيدتها أن تقدمها للبيت السلطاني ليكون النفع من ورائها أكثر. والمغنية من مغنياتنا عندما تؤدي أمام خليفة أو ملك أو حاكم، فإنها تسخر ملكاتها الفنية، ومفاتنها الجسدية، لتنشيط جوارحه، وإثارة مشاعره، وتحريك رغباته، وتظل تلاعبه بأصواتها اللينة والقوية، وترهف في عواطفه، وتستغويه وتستدنيه حتي يعلق قلبه بها، وتنال المني، والذي جري قديما بين حبابة والخليفة يزيد بن عبدالملك، وفريدة والخليفة الواثق، ومحبوبة والخليفة المتوكل هو عين ما قلناه من تسليط مواهبهن علي أفئدة الحكام أثناء الغناء، وإثارة الشوق والهوي فيهم، وحيوات الجواري المغنيات مليئة بحكايات العشق مع الحكام. وذهبت «اتفاق» إلي البيت السلطاني، وكان فيه الملك الصالح إسماعيل (حكم في الفترة من 743 إلي 746 ه) ابن السلطان الملك الناصر ناصر الدين محمد بن السلطان الملك المنصور قلاوون، وكان هذا السلطان شغوفا باللهو والطرب، محبا لأصحاب الملاهي، وكان الخدم والطواشية في أيامه يتصرفون في شئون المملكة، وإلي جانب ذلك كان يهوي الجواري السود، فلما دخلت «اتفاق» قصره لاءمت مشاربه، وناسبت ذوقه في حب السود، وبخاصة عندما سمعها، وأظهر إعجابه بها باعطائها واسرافه في العطاء، واتخذها محظية له (أي ذات حظوة عنده) وأقامت بالقلعة، ومكنت لها الأيام، ووطدت قدمها، وذلك عندما انجبت ولدا ذكرا، وقد قابل السلطان هذا الحادث السعيد بالبشر والفرح، وأقام الحفلات الحافلة بقاعة الدهيشة، وأشعر المصريين أن مليكهم انجب ولي العهد، وبذلك صارت «اتفاق» أم ولد لا تباع ولا تهدي، وتصير بعد وفاة زوجها حرة، وكثير من أبناء الجواري تولوا الحكم في الإسلام، ولا شك أنها غدت كوكب لبيت القلاووني. الملك الكامل شعبان ومرض الملك الصالح إسماعيل ومات، وخلفه في الحكم اخوه السلطان الملك الكامل سيف الدين شعبان (حكم في الفترة من 746- 747 ه حوالي سنة وشهرين) كان شغوفا باتفاق العوادة زوجة أخيه، فما إن مات أخوه حتي اقترن بها، وعمل علي إسعادها. وكان الملك الكامل شعبان متزوجا من بنت الأمير بكتمر الساقي، فطلقها وتزوج باختها، وانجب منها ولدا ذكرا سرعان ما ادركه الردي، ثم ولدت له اتفاق ولدا ذكرا اسماه شاهنشاه، وسر به سرورا زائدا، وأقام له الأفراح سبعة أيام، أما اتفاق فقد اقبلت عليها الدنيا، وجدد السرور نفسها، وأغدق عليها السلطان و«عمل لها دائر بيت طوله اثنتان وأربعون ذراعا، وعرضه ست أذرع، دخل فيه خمسة وتسعون ألف دينار مصرية، وذلك خارج عن البشخاناة (الكلة أو الناموسية) والمخاد والمساند، وكان لها أربعون بذلة ثياب مرصعة بالجواهر، وستة عشر مقعد زركش، وثمانون مقنعة فيها ما قيمته عشرون ألف درهم، وأشياء غير ذلك». الملك المظفر حاجي وهكذا أفاض الملك الكامل علي اتفاق سرورا ورضي، وجعل أيامها جميلة مستطابة، وكان يمكن أن ترفل في ملابسها الموشاة بالحجر الكريم والذهب الثمين زمنا أطول، إلا أن السلطان الكامل كان ظالما قاسيا غبيا سفاكا للدماء، مما أثار عليه أمراء المماليك، وحكام الاقاليم، وبعد قتال مرير بين الجانبين تمكن الثائرون من القبض علي الملك، والزج به في السجن، تم بعد ذلك قتله، وتولي السلطنة من بعده أخوه الملك المظفر زين الدين حاجي المعروف بأمير حاج في مستهل جمادي الآخرة 747 ه، وظل في الحكم حتي شهر رمضان 748 ه أي سنة وثلاثة أشهر. وقد أمر الملك المظفر عند توليه السلطة بإنزال أم الملك الكامل وحريمه من القلعة، فانزلهن ومعهن «اتفاق»، وصودرت ممتلكاتهن، إلا أن الملك المظفر عاد بعد ذلك وأمر بارجاعها إلي أربابها. ولم يطل بقاء «اتفاق» خارج القلعة، فبعد شهور قلائل أمر الملك بعودة «اتفاق» إلي القلعة، فطلعت مع جواريها وخدامها، وتزوجها المظفر في الخفاء وعقد له عليها شهاب الدين أحمد بن يحيي الجوجري (نسبة إلي قرية جوجر التابعة لمركز طلخا)، وكان زفافه عليها في نفس الليلة، وفرش تحت قدمي «اتفاق» ستين شقة أطلس، ونثر عليها الذهب، ثم أمسكت بعودها وعزفت عليه، وانثال غناؤها، وابتهج السلطان، وأنعم عليها بأربعة فصوص وست لؤلؤات ثمنها أربعة آلاف جنيه، علي ما يقول ابن تغري. وقد كان لافراط السلطان في حب «اتفاق» وانشغاله الزائد بها عن أمور المملكة أثر في المجتمع فقد تكلم في هذا الأمر الأمراء المماليك، وبلغ السلطان ذلك، فرغب في القبض علي عدد منهم، ولكن النائب حذره من مغبة هذا الفعل فأمسك عنه، وحتي يرأب الصدع أمر بإنزال ثلاث نساء من القلعة من بينهن اتفاق، بما عليهن من الثياب مع تجريدهن من الجواهر، وأن تقلع اتفاق عصابتها، وهذه العصبة بها مئة ألف دينار ذهب، وقد اشترك ثلاثة ملوك في اعدادها، وكان الناس قد تحدثوا كثيرا في شأن هذه العصبة، ولم يكن قرار انزال اتفاق نهائيا، وإنما كان لفترة يقتل فيها السلطان إعداءه، ثم تعود المسرات إلي القلعة، وبالفعل قتل عددا من المماليك، وهدد بذبح الآخرين، ولكن الأمراء المماليك لم يمكنوه من فعل شيء مهم، فقد اقتتلوا معه، وفر من أمامهم، وأمسكوا به وذبحوه. الوزير موفق الدين وانتهي هذا العهد، وتسلطن السلطان الملك الناصر حسن، وفي أيامه أخرجت اتفاق من القلعة، وقطعت رواتبها، وتزوجها الوزير موفق الدين هبة الله بن السعيد إبراهيم، وكان كاتبا، واختاره الملك الصالح صالح وزيرا، ويقول ابن حجر العسقلاني إن هذا الوزير رتب لها في السنة سبعمائة ألف درهم إلي أن مات عنها، وتنقلت بها الأحوال إلي أن ماتت. وقد أظهر ابن تغري بردي، أحد رواة هذه الحكاية، استغرابه لزواج ثلاثة ملوك من جارية سوداء، وقال: بعد اقترانها بالملك المظفر حاجي: «هذا ثالث سلطان» من أولاد ابن قلاوون تزوج بهذه الجارية السوداء، وحظيت عنده، فهذا من الغرائب علي أنها كانت سوداء حالكة لا مولدة، فإن كان من أجل ضربها بالعود وغنائها، فيمكن من تكون أعلي منها رتبة في ذلك، وتكون بارعة الجمال بالنسبة إلي هذه فسبحان المسخر». وصدق ابن تغري في قوله: «إنها من الغرائب» لأننا نعجز عن وضع تفسير لها، وكأنها حكاية قدرية أو من صنع القضاء والقدر، فكم عوادة أمهر منها وأجمل، فظلت تضرب علي عودها دون أن ينجذب إليها الأمراء والوزراء، كما أن ملوك «اتفاق» ليسوا عشاق جمال، وإنما عبيد شهواتهم. ومن يتأمل «اتفاق» في حكايتها يدرك أنها امرأة قوية قادرة علي مواجهة الشدائد، وتحمل الكوارث، فإن زوجها يموت، فتتزوج أخاه، فيقتل فتتزوج أخاه وتعزف علي عودها، فيقتل فتتزوج وزيرا، ولا يشعر متتبع الأحداث أنها حزنت وتأثرت، أو تعقدت في حياتها، أو تأزمت نفسها، بل تأتيه الأخبار بأنها ضربت علي العود وغنت في زواجها من الملك الأخير، وانحلت عقدة من لسانها، وهزجت وأعلنت عن طربها، أي غيرت جلدها، وفي كل حالة تتلون بلون جديد يلائمها، وهذا أعجب ما في الحكاية علي أنه ليست «اتفاق» هي المرأة الفريدة التي تزوجها ثلاثة أزواج من سلاطين البيت القلاووني، فإن هناك غيرها تعدد أزواجها في تتابع سريع، مثل: بنت الأمير بكتمر الساقي التي «أول من أعرس عليها آنوك ابن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، ومات أنوك عنها وهي بكر فتزوجها من بعده أخوه الملك المنصور أبوبكر، فقتل فتزوجها بعد الملك المنصور أخوه الملك الصالح إسماعيل، ومات عنها فتزوجها السلطان الملك الكامل شعبان، والفارق بين بنت بكتمر واتفاق، أن الأولي لها أب وأم، أما الثانية فمجهولة الهوية، أما الملوك فإنهم يفعلون ما شاءوا.