غيب الموت الشاعرة الستينية وفاء وجدي بعد رحلة طويلة من الإبداع والمعاناة قدمت خلالها عددا من الدواوين والمسرحيات الشعرية من أهمها «ماذا تعني الغربة» 1967 و«الرؤية من فوق الجرح» 1973 و«الحب في زماننا» 1975 و«ميراث الزمن المرتد» 1990، رسائل حميمة إلي الله، ومسرحية «بيسان والأبواب السبعة» 1984، عرف القارئ هذه الشاعرة في منتصف الستينات من خلال قصائدها التي كانت تنشرها في مجلة الشعر ومجلة المجلة وغيرها من الصحف وعبر حضورها في المنتديات والملتقيات الشعرية والأدبية والثقافية، تخرجت في المعهد العالي للفنون المسرحية بأكاديمية الفنون ولا شك ان دراستها لفن الدراما قد ترك بعض الملامح الدرامية علي سمات قصيدتها فقد استخدمت الحوار والشخصيات في قصائدها الغنائية وتدور تجاربها في أعمالها الأولي حول الحب والطبيعة والقضايا الوطنية والقومية ثم تطورت رؤيتها بعد ذلك لتميل إلي البحث عن الذات في سياق روحي قبل ان تتوغل في التجربة الصوفية التي أسلمت نفسها لها في مراحل حياتها الأخيرة تقترب رؤيتها في مجملها إلي الأفق الرومانسي الذي يشارف حدود الواقعية وبعض الجوانب الرمزية. تميل في شعرها إلي استخدام لغة بسيطة سهلة ويبدو في أسلوبها في المرحلة الأولي وتأثر الشاعرة بتجربة وأسلوب صلاح عبدالصبور ونازك الملائكة، تتضح في تجاربها ملامح الأنثي الشرقية التي تعاني محاصرة وجودها وحريتها المحدودة وهي تعبر عن قضايا المرأة الشرقية والعربية من خلال تركيزها علي همومها الذاتية وتطلعها إلي الانطلاق والحرية وعناق الطبيعة، تأثرت وفاء وجدي في كثير من قصائدها بملامح الرؤية الوطنية والسياسية التي كانت سائدة في الستينات فهي تؤمن بالعدالة الاجتماعية والحرية والاستقلال الوطني وتقف في وجه الاستبداد والعدوان ولديها اهتمام بالقضية الفلسطينية وغيرها من القضايا العربية التي كانت تدور في فلك الإيمان بقضية الوحدة العربية والاعتزاز بهذه القومية مع تطلع إلي الآفاق الإنسانية من خلال ثقافة عصرية وعناصر من التراث العربي القديم. أغنية للبحر تنتمي الشاعرة وفاء وجدي إلي مدينة بورسعيد حيث موطن جذورها وأسرتها وكان والدها وجدي شبانة شاعرا ينتمي إلي المدرسة الكلاسيكية، تأثرت الشاعرة بالطبيعة الخاصة بمدينتها حيث نري صورة البحر ومن هنا تأتي مفردات بعض قصائدها مرتبطة بهذا المعلم الهائل من معالم الطبيعة ويتضح هذا في قصيدتها «أغنية للبحر»، وكأن البحر يتجاوز فكرة المكان إلي فكرة الحياة بأحلامها وطموحاتها. تقول الشاعرة وفاء وجدي في هذه القصيدة من ديوانها «ماذا تعني الغربة»: - سفينتي أطلقتها- من بعدما دشنتها بعمري الذي مضي- وبعدما تركت في أعماقها بقية السنين- ان كان لي بقية انفقت في بناء هذه السفينة أخشاب غابتي التي تحجرت وكنت قد سويت من فوقها الغصون- جميع ما ادخرته من الجليد- وحينما أردت إطلاق السفينة رجعت كي أزيح أكوام الجليد، سفينتي تسير في غير اتجاه- تدور حول نفسها- فليس فيها مرشد، لكن بها بحارة ثلاثة- تخاصموا علي القيادة» إنها تشير بهذه السفينة إلي ذاتها أو إلي حياتها حيث تلهو بها اللجة الهوجاء ولم تفسر لنا طبيعة هؤلاء الربابنة الذين اختلفوا حول سفينتها، ثم تتناول تجربة بورسعيد التي واجهت العدوان الثلاثي في عام 1956 بشجاعة نادرة هزت الضمير العالمي وكشفت عن معدن الشعب المصري، وتصور وفاء وجدي أثر هذا العدوان علي مشاعر الأطفال وكانت هي في مرحلة أول الشباب أو أواخر الصبا حيث كانت تهزها مع أهلها وإخوتها هذه الغارات الوحشية التي كانت تشنها علي بورسعيد قوات بريطانيا وفرنسا وإسرائيل تقول وفاء وجدي متسائلة.. لِمَ جاؤوا بالأساطيل الرهيبة والعتاد الغادر الفتاك يا أمي الحبيبة؟ لِمَ جاؤوا يسرقون الشمس منا بشباك من غيوم؟ لم جاؤوا يطفئون النور في نفسي الوضيئة، لم جاؤوا يسحقون الزهر في دربي وأزهاري بريئة؟ لم جاؤوا»، ثم تصور بشاعة العدوان فتقول: «وسط هذا الليل كنا في الطريق- وبأيدينا بقايا من حريق - نصل سكين وخنجر- ورصاصات وحقد يتفجر، وعيون تزدري الدمع وبالضحكات تكفر، لا صراخ، لا أمين، لا دمي في الليل تحلم، لا شفاة تتكلم- إخوة لي لا يزالون نياما- وسط أنقاض الديار- دميتي باتت وقوداً أصبحت قطعة نار وأبي حامل مدفع وجحيم الثأر يرتع ووصايا غاليات من جدودي- منذ أوصوني بأن أحيا وأن أحمي الحياة»، نلمح بعض التأثر بالشاعرة العراقية نازك الملائكة. أمام المنحني في قصيدتها أمام المنحني تقول وفاء وجدي: ضاق الطريق بنا فدعنا نفترق وأمام أعيننا يطل المنحني/ وخطي محبتنا التي كانت شموخا واعتدادا/ ومني/ صارت ترنح بعد أن ضاق الطريق إلي مجاهل فرقة أوحت لنا أعماقنا أن نستبق. ثم تقول «ماذا تبقي للغريبين اللذين يضيق تحت خطاهما درب عتيق ماذا تبقي بعدما ضاق الطريق؟» ماذا تعني الغربة قصيدة حمل عنوانها ديوانها الأول، حيث تقول «الغربة أن يفترق الأحباب وهم أحباب/ ينتظرون ربيع الحب/ يحلم كل حبيب بجني موسمه الخلاب، لكن ما جدوي أن نعرف معني الغربة ومصير روديبوس. ينتظر وراء الهولة والأبواب. في ديوانها الأول تبحث الشاعرة وفاء عن ذاتها وعن معني وجودها وتتلمس طريقها إلي العالم عبر معالم الطبيعة وتجارب الحب وقضايا الوطن وتتطور رؤية الشاعرة وتجاربها في ديوانها «الحرث في البحر» الذي صدر في عام 1985 وهو الديوان الذي حصلت به الشاعرة علي جائزة الدولة التشجيعية. لقد اقتربت في هذا الديوان من الأعماق الدرامية للتجربة الإنسانية تسيطر الخيرة علي وجدان الشاعرة عندما تري الحب وكأنه حرث في البحر تقول: «تخطف قلبي هواك، فماذا تراني أنت؟ رأيت الضباب العتي يحاصر وجه النهار فلا الشعر شعر ولا الحب حب ولا أنت أنت. فهل نملك العود حين يكون الطريق بلا منتهي؟ وهل يملك العاشقون الرجوع إلي المبتدا؟ إذا كان بحر الهوي مالحا/ وكان الظمأ فادحا. فأي السبيلين نسلك حين يضيع الخيار؟ إذا ما حرثنا ببحر فأي عزاء فإن لم ترعنا الملوحة روعنا حرث ماء. وأي انتصار إذا كان سيفي يحارب طاحونة في الهواء؟» رؤية روحية في هذا الديوان بدأ التحول إلي الرؤية الروحية حيث تقول في قصيدة سكون: يا مولاي العارف طال التجوال وضاق الصدر هل ترشدنا عن حسن ختام الرحلة كيف يكون؟ أدركنا الأفراح وعانينا أحزان الحرمان وفقدان الصبر! أدركنا يا مولاي برشدك فطريق العزلة عزل. وطريق النفي موات وطريق الرغبة مر يا مولاي العارف/ أدرك قصري في بصري وقصوري في فهمي وأجبني كيف يكون الإغراق بحيثيات العقل نذيرا بجنون؟ لا آسي لضياع الأمس إني في لحظات ماتت فيها أطماع النفس. تلمس الشاعرة وجداننا وهي تتغني بحبها الأوحد، حيث تقول حين تكون بصدري كيف تكون رؤاك؟ كيف يكون شعوري؟ حين تحرك عينيك بنبض الحلم يسرع نبضي تتعلق عيناي بأهدابك، أستطلع ما يخفيه الغيب يسري في جسدي دفء طمأنينة النشوي أشعر اني فوق العالم/ أملك كل كنوز الأرض/ أملك كل ينابيع الحب» تتوغل رؤية الشاعرة في ديوانها «ميراث الزمن المرتد» في أعماق البعد الوطني والقوي وتتطور كذلك بنية قصائدها حيث يصبح البعد الدرامي جزءًا حيويا من عالمها الشعري، لقد رحلت الشاعرة وفاء وجدي بعد معاناة قاسية من مرض عضال. عاشت تحمل روحا تتطلع إلي المثل العليا والعدل الاجتماعي والكبرياء الوطنية والحرية، وربما أدركت مبكرا زيف هذا العالم فمالت إلي رحاب اليقين الروحي وإلي رياض التصوف بعيدا عن الجحيم الأرضي الذي غمر حياتنا بالألم، وسيظل إبداع وفاء وجدي شهادة شعرية صادقة علي عصرها وعلي تجاربها ورؤية جيل الستينات لقضايا الوطن والذات والوجود ورحم الله الشاعرة.