عاش حياة الصعلكة مبكراً منذ كان طفلاً صغيراً.. عاني الأمرين و«دوخته» الحياة حتي صار مبدعاً.. كانت كل مهمته ان يأخذ الأفلام المصورة ويرسلها إلي المطبعة وهو لم يتعد العقد الأول من عمره.. لم يكن أحد يتخيل ان هذا الصبي سيصبح بعد سنوات قليلة من عمالقة التصوير في مصر والوطن العربي. وبعد أن رحل شيخ المصورين تاركاً خلفه صوراً وحكايات وذكريات جمعته بعظماء المشاهير: أم كلثوم وعبدالحليم وعبدالوهاب وسعاد حسني والعقاد ومحمد حسنين هيكل وتوفيق الحكيم. سنوات طويلة عاشها فاروق إبراهيم سجل بعدسته أحداثاً سياسية كبيرة هزت مصر، فرافق الرؤساء محمد نجيب وعبدالناصر والسادات وحتي مبارك. وفي حواره هذا حكي فاروق كيف عاش في أروقة صاحبة الجلالة وعبر كلماته هذه لا أستطيع ان أقول إن هذا هو حواره الأخير إلي الصحافة لكني أكاد أجزم انه حوار جاء من القلب. حدثنا عن بدايتك؟ - بدأت حكاياتي منذ 60 عاماً أي عندما كان عمري 12 عاماً، انفصل فيها والدي عن والدتي وعشت وأمي في حي «تحت الربع» بالمغربلين، وبالرغم من قسوة الحياة وشظف العيش، لم أكن طفلا عادياً، فلطالما كنت سببا لصداع مزمن لأمي، كانت شقاوتي وشغبي سراً دائماً لشقائها، وحتي المدرسة لم تكن تطأ قدماي أبوابها، كنت أتلذذ «بالزوغان» منها، فلم يكن التعليم له وجود في قاموسي الطفولي لدرجة ان أمي هددتني بإيداعي «الإصلاحية» لأتعلم الأدب، وسرعان ما هربت حافي القدمين من المنزل لبيت خالي، وكان يعمل «مطبعجبي» بجريدة «المصري» آنذاك»، واقنعني بالعودة وعدت فعلاً، وفي صباح اليوم التالي فوجئت أني بلا حذاء فكيف سأذهب إلي المدرسة بدون حذاء، والطريف ان خالي أعارني حذائه بعد ان حشاه بورق الجرائد، ومنذ تلك اللحظة بدأت الصحافة تتسلسل إلي حياتي، فأنا أعتبر نفسي «شربت الصحافة من رجلي»، فكنت بعد المدرسة أذهب إلي الجريدة لخالي، وعند وصولي طلب مني الخواجة زخاري رئيس قسم التصوير ان اشتري له علبة سجائر، ولم أكن أعلم هويته حينها، وبعد ان اشتريت له السجائر دخلت مكتبه فوجدت صور المشاهير كيوسف وهبي وليلي مراد ومحمود المليجي وغيرهم، وتبادر لذهني أن أسأله إذا كان بامكاني ان أقابل هؤلاء المشاهير وجها لوجه، فقال لي: «لو بتشتغل زينا هتشوفهم» ومنذ تلك اللحظة نما بداخلي أول بذرة حب لفن التصوير، فبريق تلك الشخصيات أسرني ودفعني لأسعي كي أراهم عن قرب. وبدأت العمل كساعي في مكتب الخواجة، وكنت امسح المعمل وأنظف المكاتب مقابل خمس تعريفات يومياً، وبعد رحيل المصورين كنت أتدرب علي التصوير من كاميراتهم حتي أتعرف علي عالم التصوير المثير. كيف جاء عملك بالصحافة؟ - لم يدم الحال حتي أغلقت جريدة «المصري» عام 1953، مما اضطر الخواجة إلي إنشاء وكالة تصوير خاصة به، وطلب مني العمل معه، فوافقت وفي رحلة ذهابي وإيابي للوكالة كنت أمر علي مبني دار «أخبار اليوم» ولكم حلمت بالعمل فيها. ودارت الأيام وتنقلت من مكان لآخر، فعملت بجريدة «بناء الوطن» التي كانت تصدرها رئاسة الجمهورية، وقمت بتصوير مجموعة صور بعنوان «من أجل هؤلاء» وأثارت تلك الصور جدلاً كبيراً، ورآها الرئيس السادات وأعجبته، فأمر لي بمكافأة نصف شهر تقديراً لقيمة تلك الصور، وكانت بمثابة وسام شرف توج صدري. وحصلت علي التوجيهية والتحقت بكلية الفنون التطبيقية، لكني ما لبثت حتي فصلت من الكلية في العام الثالث بسبب إعارتي زملائي لبعض الصور في مشاريع تخرجهم مما أغضب عميد الكلية وتم فصلي، يومها ضاقت بي الأرض بما رحبت فذهبت إلي المقابر ومنذ تلك اللحظة قررت أنه لن يعيقني أي صعوبة مهما كانت. بعدها بدأت أحضر صالون عباس العقاد الأدبي، فهذا الرجل علمني الكثير، ونمت بداخلي أولي بذور الشموخ والكبرياء، فالعقاد أهم مرحلة من مراحل حياتي تعلمت منها الرجولة والمثابرة. وفي عام 1960 تحقق حلمي وعملت بدار «أخبار اليوم» التي لطالما حلمت بها كعروس جميلة تتوج حبي، ولم أصدق عندما وافق الأستاذ مصطفي أمين علي توظيفي مصوراً للجريدة، وشاء القدر ان تحدث محاكمة مصطفي أمين الشهيرة التي اتهم فيها بالتجسس، واضطررت إلي تصويره في المحكمة وكنت خائفاً من أن اقترب منه، إلا أنني وجدته يصرخ من قفص الاتهام ويقول «صور يا فاروق صور» ونشرت الصور في «الأخبار» صباح اليوم التالي بمناشت يتصدر الصفحة الأولي، وأعتقدت انه سيغضب مني عندما يراها، لكنه أرسل لي محاميه يشكرني علي تلك الصور، وقال لي بعدها «لولا هذه الصور ماكان الناس ليتعاطفوا معي». متي كانت أول مرة أمسكت فيها الكاميرا؟ وما أول صورة التقطتها؟ - كان ذلك في عام 1952 بعد أن رحل المصورون إلي بيوتهم أثناء عملي بالوكالة، شبت مظاهرة كبيرة بشارع القصر العيني، وقام المتظاهرون بقلب «الترام» فكانت أولي صوري هي صورة «الترام المقلوب». ما أقرب الأماكن التي سافرت إليها لقلبك؟ - ليس هناك مكان بالتحديد، لكن «الصحبة» هي التي تفرض جمال المكان لكن بالطبع كانت المغرب هي الأقرب بسبب ملازمتي الدائمة لعبدالحليم وهو إنسان جميل قريب للقلب والروح، أحبه الكثيرون وكان صديقاً مقرباً للملك الحسن وقتها. من أجمل وجه التقطته عدستك وأقبح وجه؟ - أجمل ما صورت هو وجه السندريلا سعاد حسني، فوجهها يجذب الكاميرا، وتليها نادية لطفي، أما أقبح ما صورت هو وجه رئيسة الوزراء الإسرائيلية السابقة جولدا مائير فقد كانت الأقبح علي الإطلاق. ما أقرب الصور لقلبك؟ - عام 1964 صورت فتاة ريفية من شبين الكوم، فكانت تقطف القطن، ولم يقتصر الأمر علي الصورة لأني أحببت الفتاة من كل قلبي فجمالها دفعني لتصويرها، وبعدها رحت أتقدم للزواج بها لكن أهلها رفضوا! ما أصعب صورة التقطتها وحققت بها سبقاً صحفياً؟ - كانت صور «تشومبي» رئيس الكونغو، الذي جاء لحضور مؤتمر قمة إفريقيا، حيث ظللت أربع ليال في حديقة قصر العروبة الذي مكث فيه، وبالفعل كنت الوحيد الذي التقط صورته. ما الصورة التي خجلت من تصويرها؟ - أرفض تصوير أي صورة خادشة للحياء ولها علاقة بالآداب. من المصور الذي تري فيه فاروق إبراهيم الآن؟ - أري نفسي في عيون 3000 مصور صحفي مصري، كما أنهم يعتبرونني الأب الروحي لهم واطلقوا علي «شيخ المصورين». ما الصورة التي رفضت تصويرها؟ - رفضت بشدة تصوير الرئيس السادات وهو يؤدي السلام الوطني للعلم الإسرائيلي. ما الذي يدفعك لتصوير صورة بعينها؟ - الروح، فأنا لا أجيد تصوير المناظر الطبيعية، وانما أبحث دائما عن الصورة التي تطل منها «حدوتة» وتنطق منها حكاية، فالتصوير ليس علماً وانما موهبة. ما الصورة التي عانيت في تصويرها؟ - بالتأكيد كانت صور حرب أكتوبر، ففي 22 أكتوبر قامت القوات الإسرائيلية بالهجوم علي الجيش المصري، كنت حينها علي القنطرة وبحثت عن مكان اختبيء فيه، فرميت نفسي أسفل دبابة ظناً مني أنها مخبأ جيد، لكنه كان هدفاً واضحاً لتقصفه الطائرات، ورآني أحد الجنود وقتها وأمرني بالخروج، وسبحان الله نجاني من موت محقق، وبعد خروجي بلحظات، قصفت الدبابة وتطايرت شظاياها لتصيب ذلك الجندي وبترت يداه. أنت كنت مصوراً ورفيقاً دائماً للرؤساء المصريين.. ماذا عن تلك الصور؟ - كنت مصوراً لرؤساء مصر الأربعة منذ نهاية عهد محمد نجيب وعبدالناصر والسادات وحتي مبارك، فعبدالناصر كان صانعاً للصورة ويخلق لها قيمة بقوته وشموخه ونظرة عينيه الثاقبتين، أما السادات فكان عاشقاً للتصوير، وقد التقطت له صوراً في أدق تفاصيل حياته، سواء في بيته أو عمله، أما مبارك فكان يحب الصور الطبيعية خاصة مع الأطفال. من كان الأقرب لك بينهم؟ - الرئيس السادات قطعاً.. ما الصورة التي سببت لك أزمة؟ - صورة لأم كلثوم في إحدي حفلاتها في باريس علي مسرح الأولومبيا، وصعد أحد الجماهير ليحيها وقبل قدميها، وتدخل الأمن لمنعه وسحبوه للنزول إلا أنه أمسك بقدمي أم كلثوم فسقطت معه علي خشبة المسرح، وعندما نشرت الصورة في «أخبار اليوم»، استدعتني أم كلثوم، وسألتني عن الصورة فقلت لها أنني لم أصورها، وفجأة زارها السفير المصري في منزلها وهنأني علي تلك الصورة، حينها نظرت لي أم كلثوم نظرة لا أستطيع نسيانها وطردتني، وأخبرتني أنها غضبت مني ليس لأنني صورتها لكن لأنني كذبت عليها. ما الصورة التي أبكتك؟ - صورة دفن عبدالحليم، وموكب جنازة أم كلثوم. ما أطرف المواقف التي واجهتك؟ - أطرف ما تعرضت له كان في أحد حفلات المغرب، عندما فوجئت بامرأة مغربية تركض نحوي وتحتضني بقوة وقالت لي: «يا رشدي يا رشدي»، بالطبع كانت تقصد الفنان محمد رشدي وبالرغم من أني أخبرتها بأني لست هو، ظلت متمسكة بي وقالت «أنت محمد رشدي، ليش بتنكر حالك؟». .. وأخيراً.. ما الذي لا يعرفه أحد عن فاروق إبراهيم؟ - بصراحة.. هذا كلام أقوله لأول مرة، أنا أكتب الآن، ذكرياتي مع الرئيسين الراحلين عبدالناصر والسادات وللعملاقين عبدالحليم وأم كلثوم.