منذ ما يقرب من نصف القرن و«نبيل عبدالحميد» يواصل مسيرته الإبداعية في القصة القصيرة والرواية في دأب وإصرار وإخلاص نادر. وقد تعرفت عليه في منتصف الستينات عن طريق صديقنا الحبيب الغائب عنا والحاضر فينا ما بقي في صدورنا نفس يتردد- وهو ضياء الشرقاوي (1938- 1977) الذي اختطفه الموت منا ومن الحياة الأدبية والثقافية في بلادنا وهو في أوج تألقه القصصي والنقدي المتجدد والزاخر بتجاربه الرائدة، وقد أتاحت الصداقة الحميمة التي جمعت بيني وبين نبيل عبدالحميد بعري المحبة والمودة الخالصة أن أتابع بعض إنتاجه المبكر، سواء في ذلك قصصه القصيرة مثل: مجموعته الأولي «مسافة بن الوجه والقناع» وروايته البديعة «حافة الفردوس» وتصادف بعد ذلك أن غبت عن الوطن أكثر من أربعة عشر عامًا قضيتها في العمل معارًا لجامعة صنعاء، ثم جامعة الكويت.. فانقطعت متابعتي لأعمال الصديق العزيز وبقية الأصدقاء إلا فيما ندر. ملاحظات وانطباعات شرفني وأسعدني- بعد لقائين في نادي القصة نوقشت فيهما مجموعة قصصية بصديق آخر ومجموعة أخيرة لي- بإهدائي مجموعتيه القصصيتين الأخيرتين اللتين استمتعت بهما غاية الاستمتاع (وهما الأشياء علي غصن أخضر.. 2001) و(هشاشة عقول.. 2005) ومع أني لست ناقدًا أدبيًا بالمعني الدقيق للنقد الأدبي، بل ولم أعد نفسي لمهمة النقد علي الإطلاق (علي الرغم من قيامي طوال العقود الخمسة الأخيرة بعشرات الدراسات في الأدب الغربي- لاسيما الألماني- والشعر العالمي) فسوف أقدم بعض الملاحظات والانطباعات السريعة التي خرجت بها من صحبتي للمجموعتين المذكورتين، ويشرفني أن أجملها في السطور التالية مع علمي بأنها عابرة وشديدة التواضع: - يتميز نبيل عبدالحميد، شأنه في هذا شأن معظم كتاب جيل الستينات بأنه يكتب ويفكر بالصورة الحسية، لا من خلال اللفظ واللغة البليغة كما هو الحال مع الأجيال السابقة (علي الأقل في معظم الأحوال ولا أبري نفسي!) إنه يرسم بمنتهي الدقة صور شخصياته ويقف وقفات مطولة عند ملامح وجوهها وتفاصيلها الجسدية الخارجية ودقائق الأشياء والموجودات في المكان المحيط بها وداخل تيار الأحداث التي تجري لها أو تقع حولها، وتكون هذه الشخصيات في الغالب «استثنائية» أو شاذة من الناحية النفسية والعقلية أو الخلقية، ولكنها تحمل دلالات مهمة علي تيارات سلوكية وأنماط اجتماعية جدت علي المجتمع المصري خلال العقود الخمسة الأخيرة بفعل التغيرات الاقتصادية والاجتماعية الهائلة، والتناقضات الفادحة بين الطبقات الفقيرة إلي حد الجوع أحيانًا كثيرة، وطبقة واحدة تملك كل شيء وتتمتع بكل شيء ولا تكاد تتذكر «الآخرين» إلا في القليل النادر، من هذه الشخصيات الشاذة ذات الرأس الأكرت النافر (من مجموعة الأشياء علي غصن، ص11) الذي يثير في أذهاننا قضية التحرش بالنساء وجرائم الاغتصاب التي باغتت المجتمع المصري المحافظ وأرقت أصحاب الضمائر فيه كما أقضت مضاجع الآباء طوال العقدين الأخيرين.. كذلك تجد شخصيات أخري تتسم بشذوذ نفسي وعقلي مع طموح خيالي حالم إلي تحقيق المستحيل، مثل شخصية الشاب الذي حاول- في واقعة مشهورة تحدثت عنها الصحف في حينها- أن يحلق بجناحيه ويرتفع إلي السماء من فوق برج القاهرة وقيل في ذلك الحين إنها كانت محاولة انتحار أثارت الأشجان علي حظ الشباب الضائع والضال بين العبث والمخدرات من ناحية أو التطرف والهوس الديني من ناحية أخري (قصة عصر الجوارح من مجموعته السابقة الذكر ص 27 وما بعدها). فساد المجتمع وفي كثير من القصص يرصد الكاتب نماذج أخري من الشذوذ الذي ترتب علي الاضطراب الاقتصادي والاجتماعي منذ بداية الانفتاح الفاسد (راجع قصة رائحة الشواء ضمن مجموعته هشاشة عقول ص 59 وما بعدها) أو الشخصيات التي لجأت لارتكاب الجرائم البشعة التي لا عهد للمجتمع المصري العائش منذ الفراعنة في حمي القيم والتقاليد العريقة التي حافظت طوال تاريخه علي تماسكه وتراحم أفراده حتي فتح عيونه فجأة علي تلك الجرائم البشعة التي لا عهد له بها (راجع قصة «خرم الإبرة» ضمن مجموعة هشاشة عقول، ص 43) وهناك قصص أخري تسلط الضوء الكاشف لجوانب الضعف الأخلاقي الذي يدفع رئيس العمل للطمع في مرءوسته الجميلة واستغلال ظروفه الاجتماعية والاقتصادية الصعبة (راجع قصتي رجال تتكسر أمام الحائط المثقوب، والأشياء علي غصن أخضر) وقد يصل الطمع والجشع إلي حد لا يتوقعه أحد يعش في عالمنا ومنطقتنا المتدينة، وأعني بذلك التجارة في جثث الموتي وبيعها لبعض الأطباء أو طلاب الطب مقابل أسعار مرتفعة (راجع قصة «دورة الانتباه» علي سبيل المثال في المجموعة الأخيرة) ولكن صد الجرائم والمجرمين- مهما تم في جو كابوسي أو لا معقول- لم يمنع الكاتب من رصد نماذج أخري جديرة بالتعاطف معها لفرط إنسانيتها وعجزها بسبب النزعات الأنانية والمادية التي طغت علي المجتمع في العقود الأخيرة- فهذه هي الأم العاجزة التي يريد أبناؤها وبناتها أن يتخلوا عن تحمل مسئوليتها ويدخلوها بيت المسنين (قصة واحدة نكل نفسها، من مجموعة هشاشة عقول، ص 19-30) أو قص المرأة المتسلطة المستبدة، زوجة لواء الشرطة المعدوم الشخصية إذا طغيانها، هذه المرأة التي استبعد ابنة البواب الطفلة مستغلة فقرها وبؤس والديها (قصة «مسألة إنسانية» من نفس المجموعة الأخيرة ص 105). واقعية نقدية ويطول بنا الاستطراد لو حاولنا تتبع ما ترصده عن الكاتب النافذ إلي آفات المجتمع ومصائبه التي جدت عليه في زمن الفساد والاضطراب والعشوائية، فالأمثلة السابقة تؤكد ارتباط الكاتب بمجتمعه وأهله، وحرصه علي أداء رسالته الأخلاقية في الإطار الفني والجمالي اللائق بها، وإثبات أنه من أصحاب الضمير الذين يحملون أمانة الكتابة وينهضون بمسئولياتها الإنسانية والأخلاقية والجمالية في وقت واحد- وكل هذا يؤكد- إن لم أكن مخطئًا- أنه ينتمي لتيار الواقعية النقدية في الأدب، دون أن تمنعه هذه الواقعية الملتزمة المسئولية من الاهتمام بجوانب فنية مستحدثة والإفادة من بعض عناصرها كما نجد في قصة «هشاشة عقول» من المجموعة التي تحمل نفس العنوان، ص 31 وبعدها.. وهي القصة التي تستفيد من عالم أدب «الخيال العلمي» استفادة واضحة. لكن هذه الواقعية النقدية لا تمنع الكاتب من رصد البراءة والنقاء والصفاء في عيون الأطفال بجانب تسجيله الدقيق للجرائم والرذائل والنقائص التي ترتبت علي الانهيار الاقتصادي القيمي. وقد استوقفتني قصتان رائعتان غاية الروعة تعبران عن النزعة الشاعرية التي لم تستطع النزعة النقدية القاسية أن تحجب أضواءها أو تخمد ضحكاتها الطاهرة (راجع قصتي: ضحكة الأسد في المجموعة القصصية التي تحمل هذا الاسم ولم أستطع نسيانها بعد عقود من قراءتي لها.. وكذلك قصة صوت العصفور وقصة تسنيم من الأشياء علي غصن أخضر..) وألاحظ أخيرًا أن الكاتب- كما هو متوقع منه- لم يكن لينسي قضيتنا الكبري أو الأخري جرحنا الأشد إيلامًا، وهو قضية أرضنا المحتلة وشعبنا المستلب المنهوب والمغدور به سواء من دولة الإرهاب الصهيونية أو من بعض أبنائه المضلين (راجع قصتيه في مجموعة هشاشة عقول: مبرو وهبتك نفسها وعيون حجرية). وأخيرًا: فلم تكن هذه سوي ملاحظات قارئ محب لا ناقد متخصص وهي في الوقت نفسه انطباعات صديق مر بتجربة الكتابة عن تجارب صديقه التي أحيت فيه مشاعر الإعجاب المتجدد وتمنياته بالتوفيق الدائم.