كان مطلب الدستور- وعبر تاريخ مصر الحديث والمعاصر- مطلباً أساسياً للمصريين. حيث عرفت الحياة السياسية المصرية الكثير من الاجتهادات التي دعت إلي احترام الدستور الذي اتفق عليه الشعب، وتفعيل مواده وحمايته من أي مساس أو اعتداء، مع إمكانية تعديله إذا تطلبت مصلحة الشعب ذلك. تعديل الدستور أمر جائز لم تكن مسألة تعديل الدستور مسألة بعيدة عن تفكير بعض السياسيين. فقد نشرت جريدة (الإنذار)، وكانت جريدة أسبوعية تصدر بمدينة المنيا لصاحبها صادق سلامة، مقالاً قالت إنه "لأديب سياسي معروف" عنوانه: "الدستور من وضعنا ومن حقنا تعديله وفقاً لمصلحتنا" بتاريخ 27 إبريل 1952م، أشار فيه إلي ما نشرته إحدي الصحف من أن يساير تعديل قانون الانتخاب تعديل في الدستور أيضاً، وهو الأمر الذي أفزع "دوائر أحد الأحزاب السياسية" علي حد قول الكاتب، حيث يري الكاتب أن هذا الفزع "لا مبرر له علي الإطلاق"، موضحاً أن "الدستور ليس كتاباً سماوياً أوصاه الله إلي نبي من أنبيائه أو إلي رسول من رسله، وإنما هو كتاب النظام العام للبلاد وضعته هيئة ليست من الملائكة ولا من الأنبياء أو الرسل بل من صميم البشر ومن الآدميين، ومفروض في القوانين- والدستور قانون موصوف بأنه أبو القوانين- أن تكون أحكامها قابلة للتعديل وفقاً لما تقضي به المصلحة العامة التي تخضع لها، وقد وضع الدستور المصري إنشاء وابتداء، وقام علي وضعه رجال لا ننكر أنه كان من بينهم بعض الأساطين في القانون وفي الفقه الدستوري وكان لابد أن يمر هذا الدستور في تطبيقه بفترة طويلة أو قصيرة تُختبر فيها أحكامه ومدي صلاحها لوضعنا المحلي، وعلي ضوء هذا الاختبار يمكن أن يعاد النظر فيه، فإذا ما ثبت أن ما رسمه من أوضاع قد حقق الغرض الذي قام من أجله استقر في الوضع الذي بدأ به، وإلا فليس هناك ما يمنع مطلقاً من تناول أحكامه بالتعديل والتبديل ليستقر النظام النيابي في البلاد علي أساس سليم".. وأشار الكاتب إلي أنه "في الدستور ما يستوجب التعديل، وأن هناك ثغرات فيه لابد من سدها، أحدث المستعمر بعضها عند وضع الدستور بوقوفه في وجه النص عليها في صلبه"، ويذكر هنا مثلاً بمسألة "وحدة وادي النيل وجعل لقب الملك (ملك مصر والسودان)" ولم يكن الدستور ينص علي ذلك، ولكن الحكومة المصرية في أكتوبر 1951م مع إعلان إلغاء معاهدة سنة 1936م واتفاقيتي سنة 1899م الخاصتين بالسودان قد تداركت تلك الثغرة الخاصة بالسودان وبادرت بسدها "ولم يقل أحد حينذاك أن الدستور قوي لا يمس، وأنه يجب أن يبقي إلي الأبد كما هو، ولو أدي ذلك إلي بقاء الوضع فيما يتعلق بوحدة الوادي علي ما أراده المستعمرون من ذلك النقص الشنيع"، ويختتم الكاتب بقوله "إن هذا الجزع والفزع لمجرد نشر خبر عن التفكير في تعديل الدستور لن يرد الأمة عن تحري مصلحتها في هذا التعديل، وأنها لمحققة مؤكدة. فليرح المتظاهرون بالجزع أنفسهم فإن ذلك لن يثني قافلة الإصلاح عن المضي فيه إلي آخر الطريق". دستور الثورة وبعد قيام ثورة 23 يوليو سنة 1952م، شهدت البلاد صدور إعلان دستوري من القائد العام للقوات المسلحة بصفته رئيس حركة الجيش، اللواء أركان حرب محمد نجيب، في 10 ديسمبر 1952م، أي بعد أقل من خمسة شهور من قيام الثورة، يقرر فيه إلغاء العمل بدستور سنة 1923م وتشكيل لجنة لوضع دستور جديد يقره الشعب ويكون محققاً لآماله وان تتولي الحكومة السلطات المختلفة في فترة الانتقال التي لابد منها حتي يتم إعداد الدستور الجديد. كما صدر إعلان دستوري من القائد العام للقوات المسلحة وقائد ثورة الجيش في يوم الثلاثاء 10 فبراير 1953م يوضح نظام الحكم في الفترة الانتقالية وفقاً للأحكام التالية: أولاً مبادئ عامة: جميع السلطات مصدرها الأمة- المصريون سواء أمام القانون في الحقوق والواجبات- الحرية الشخصية وحرية الرأي مكفولتان في حدود القانون- حرية العقيدة والعبادة مكفولة للجميع- تسليم اللاجئين السياسيين محظور- لا يجوز إنشاء ضريبة إلا بقانون- القضاء مستقل لا سلطان عليه وتصدر أحكامه وتُنفذ باسم الأمة.. ثانياً نظام الحكم: يتولي قائد الثورة بمجلس قيادة الثورة أعمال السيادة العليا- يتولي مجلس الوزراء سلطته التشريعية- يتولي مجلس الوزراء والوزراء كل فيما يخصه أعمال السلطة التنفيذية- يتألف مجلس قيادة الثورة ومجلس الوزراء مؤتمر للنظر في السياسة العامة للدولة ويناقش ما يري مناقشته من تصرفات كل وزير من وزرائه. وقد عرفت مصر صدور أول دستور بعد قيام الثورة في يوم الاثنين 16 يناير 1956م، مكوناً من 196 مادة، وكان مما جاء فيه أن: مصر دولة مستقلة- النظام جمهوري رئاسي أي أن رئيس الجمهورية هو رئيس الوزراء- كفالة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية- للمرأة حق الترشيح لمجلس الأمة وكذلك حق الانتخاب- السلطة التشريعية لمجلس واحد هو مجلس الأمة- القضاة مستقلون- يؤلف المواطنون اتحاداً قومياً يعمل علي تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها ثورة يوليو 1952م، كما نص الدستور علي إجراء استفتاء علي الدستور وعلي رئاسة الجمهورية في يوم السبت 23 يونية 1956م. حيوا الكفاح وأيدوا الدستور ولقد تفاعل المصريون مع الحدث، ومن ذلك نشرت جريدة (قارون)، وكانت جريدة أسبوعية تصدر بمدينة الفيوم بصعيد مصر، بتاريخ 11 فبراير 1956م، قصيدة شعر وضعها صاحب الجريدة زكي يوسف الفيومي- والذي كان صحفياً وشاعراً- عنوانها "الدستور"، كان الشاعر قد استهل بها ندوة الشعر بالجامعة الشعبية بمدينة الفيوم في ذلك الوقت. قال في قصيدته ممتدحاً الدستور الجديد: حيوا الكفاح وأيدوا الدستورا أمل يشع علي الكنانة نورا نرسي قواعده، ونعلي مجده ونصون عزته ونحيي الشوري الشعب أصدره. ونحن الشعب قد طلب الحياة فأدرك التحرير وفي موضع آخر يقول: يا آل مصر، وحسبكم دستوركم فيه الحقوق ترد عنكم جورا حيا الديانات الكريمة كلها القرآن والإنجيل والزبور ثم امتدح الشاعر ما نص عليه ذلك الدستور من معاني تتعلق بالحرية والتضامن الاجتماعي والعدل والمساواة ومقاومة الإقطاع والتأكيد علي حرية الرأي. وفي يوم السبت 23 يونية 1956م تم الاستفتاء الشعبي علي الدستور وانتخاب جمال عبد الناصر رئيساً للجمهورية، وقد بلغت نسبة الموافقين علي الدستور 97.65%، كما بلغت نسبة الموافقين علي رئاسة جمال عبدالناصر 99.9%. حيث شكل عبد الناصر في 29 يونية 1956م وزارته الثالثة وكان فيها رئيساً للجمهورية ورئيساً لمجلس الوزراء. وقد اقترن دستور سنة 1956م بتحقيق الجلاء، حيث نشرت جريدة (قارون)، بتاريخ 30 يونية 1956م، قصيدة شعر وضعها زكي يوسف الفيومي امتدح فيها الثورة والجلاء والدستور الجديد قال فيها: وحياة الدستور خير نظام وحقوق الإنسان قرت نوالا فأرفعوه علي الرءوس مهيبا أيدوه تحققوا الآمالا وتعالوا يوم الجلاء نحيي شعب مصر وحيوا الاستقلالا كما نشرت جريدة (قارون) أيضاً في نفس العدد قصيدة شعر لليوزباشي عبد الحميد خليل مباشر ببوليس الفيوم امتدح فيها الرئيس جمال عبد الناصر وصدور الدستور حيث قال: ابن الكنانة قد رأست بلادنا رأس الحضارة والحما يرعاك وجعلت دستور البلاد لشعبها فمحوت حكم الذل والإهلاك فالشعب واضع حكمه بيمينه دستوره علي علي الأبراك رامي عطا