الأزهر ينشئ صفحة خاصة على «فيسبوك» لمواجهة الإلحاد    تراجع أسعار الذهب في بداية تعاملات الخميس 22 مايو    أسعار الدواجن واللحوم اليوم 22 مايو    حركة القطارات| 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الأربعاء 22 مايو 2024    بالصور.. معايشة «البوابة نيوز» في حصاد اللؤلؤ الذهبي.. 500 فدان بقرية العمار الكبرى بالقليوبية يتلألأون بثمار المشمش    جدول مساحات التكييف بالمتر والحصان.. (مساحة غرفتك هتحتاج تكييف كام حصان؟)    خفض الفائدة الرئيسية في المجر نصف نقطة مئوية    شماتة أمريكية في وفاة الرئيس الإيراني وبلينكن: لسنا حزينين والوضع أفضل بعد موته    استشهاد 10 فلسطينيين جراء قصف إسرائيلي على غزة    نتنياهو: لا نخطط لبناء مستوطنات إسرائيلية في غزة    افعل كما يفعل الخطيب، حلمي طولان يقدم نصيحة لرئيس الزمالك لاستمرار حصد الألقاب    ضحايا لقمة العيش.. قصص مأساوية وراء «النعش الغارق» في معدية أبو غالب| بالصور    طلاب الشهادة الإعدادية بالإسماعيلية يؤدون اليوم امتحان مادة الهندسة    مفتي الجمهورية: 3 عوامل تساعد على التزام الناس بتنفيذ القانون    إبراهيم عيسى: التفكير العربي في حل القضية الفلسطينية منهج "فاشل"    سيارة انفينيتي Infiniti QX55.. الفخامة الأوروبية والتقنية اليابانية    رئيس نادي إنبي يكشف حقيقة انتقال محمد حمدي للأهلي    اليوم.. ختام مهرجان إيزيس الدولي لمسرح المرأة بحضور إلهام شاهين وفتحي عبد الوهاب    أترك مصيري لحكم القضاء.. أول تعليق من عباس أبو الحسن على اصطدام سيارته بسيدتين    سفير تركيا بالقاهرة: مصر صاحبة تاريخ وحضارة وندعم موقفها في غزة    تحرك برلماني بشأن حادث معدية أبو غالب: لن نصمت على الأخطاء    افتتاح أول مسجد ذكي في الأردن.. بداية التعميم    دراسة: 10 دقائق يوميا من التمارين تُحسن الذاكرة وتزيد نسبة الذكاء    ضميري يحتم عليّ الاعتناء بهما.. أول تعليق من عباس أبو الحسن بعد حادث دهسه سيدتين    «أعسل من العسل».. ويزو برفقة محمد إمام من كواليس فيلم «اللعب مع العيال»    نشرة التوك شو| تفاصيل جديدة عن حادث معدية أبو غالب.. وموعد انكسار الموجة الحارة    جوميز: لاعبو الزمالك الأفضل في العالم    هل تقبل الأضحية من شخص عليه ديون؟ أمين الفتوى يجيب    السفير محمد حجازي: «نتنياهو» أحرج بايدن وأمريكا تعرف هدفه من اقتحام رفح الفلسطينية    روسيا: إسقاط طائرة مسيرة أوكرانية فوق بيلجورود    النائب عاطف المغاوري يدافع عن تعديلات قانون فصل الموظف المتعاطي: معالجة لا تدمير    بينهم طفل.. مصرع وإصابة 3 أشخاص في حادث تصادم سيارتين بأسوان    "رايح يشتري ديكورات من تركيا".. مصدر يكشف تفاصيل ضبط مصمم أزياء شهير شهير حاول تهريب 55 ألف دولار    أهالي سنتريس يحتشدون لتشييع جثامين 5 من ضحايا معدية أبو غالب    الأرصاد: الموجة الحارة ستبدأ في الانكسار تدريجياً يوم الجمعة    وثيقة التأمين ضد مخاطر الطلاق.. مقترح يثير الجدل في برنامج «كلمة أخيرة» (فيديو)    ب1450 جنيهًا بعد الزيادة.. أسعار استخراج جواز السفر الجديدة من البيت (عادي ومستعجل)    دبلوماسي سابق: ما يحدث في غزة مرتبط بالأمن القومي المصري    عاجل.. مسؤول يكشف: الكاف يتحمل المسؤولية الكاملة عن تنظيم الكونفدرالية    حظك اليوم برج العقرب الأربعاء 22-5-2024 مهنيا وعاطفيا    «الثقافة» تعلن القوائم القصيرة للمرشحين لجوائز الدولة لعام 2024    جوميز: عبدالله السعيد مثل بيرلو.. وشيكابالا يحتاج وقتا طويلا لاسترجاع قوته    حلمي طولان: حسين لبيب عليه أن يتولى الإشراف بمفرده على الكرة في الزمالك.. والفريق في حاجة لصفقات قوية    الإفتاء توضح أوقات الكراهة في الصلاة.. وحكم الاستخارة فيها    اجتماع الخطيب مع جمال علام من أجل الاتفاق على تنظيم الأهلي لنهائي إفريقيا    إيرلندا تعلن اعترافها بدولة فلسطين اليوم    طريقة عمل فطائر الطاسة بحشوة البطاطس.. «وصفة اقتصادية سهلة»    بالصور.. البحث عن المفقودين في حادث معدية أبو غالب    دعاء في جوف الليل: اللهم ألبسنا ثوب الطهر والعافية والقناعة والسرور    أبرزهم «الفيشاوي ومحمد محمود».. أبطال «بنقدر ظروفك» يتوافدون على العرض الخاص للفيلم.. فيديو    موعد مباراة أتالانتا وليفركوزن والقنوات الناقلة في نهائي الدوري الأوروبي.. معلق وتشكيل اليوم    وزيرة التخطيط تستعرض مستهدفات قطاع النقل والمواصلات بمجلس الشيوخ    شارك صحافة من وإلى المواطن    إزاى تفرق بين البيض البلدى والمزارع.. وأفضل الأنواع فى الأسواق.. فيديو    المتحدث باسم مكافحة وعلاج الإدمان: نسبة تعاطي المخدرات لموظفي الحكومة انخفضت إلى 1 %    هل ملامسة الكلب تنقض الوضوء؟ أمين الفتوى يحسم الجدل (فيديو)    خبير تغذية: الشاي به مادة تُوسع الشعب الهوائية ورغوته مضادة للأورام (فيديو)    استعدادات مكثفة بجامعة سوهاج لبدء امتحانات الفصل الدراسي الثاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اخترت «عبدالرؤوف» مكوجي الطرابيش لكي يتولي منصب مدير دعايتي الانتخابية!
نشر في القاهرة يوم 09 - 11 - 2010

قررت ترشيح نفسي في إحدي دوائر الإسكندرية .. هذا الميناء التجاري المهم.
هذه العاصمة الثانية للقطر المصري .. هذه المدينة العظيمة التي ولدت فيها وحبوت في أحد أحيائها «حي كرموز» ومارست فيها مهنة المحاماة.
أفضيت إلي الحزب الوطني الذي انتميت إليه أني أرغب ترشيح نفسي في دائرة ما بالإسكندرية ، ثم حددت دائرة معينة كنت أعتقد أن المرشح الذي يري حزب آخر ترشيحه فيها ليس من أصحاب الحظوة أو الكفاية وأنه من الميسور إقصاؤه، إلا أنه خاب ظني فيما قدرت، وفشلت المساعي العديدة.
التهافت علي الترشيح
كان التهافت علي الترشيح بالغا أقصي مداه، واتفقت الأحزاب الأربعة المعارضة للوفد علي تشكيل لجنة أسموها «لجنة اتصال» وكانت طلبات الترشيح تعرض علي هذه اللجنة، وكانت الأزمات تتوالي بين أعضاء اللجنة، ثم تنتقل روح الخلاف وعدواها إلي هيئات الأحزاب، ثم تنتقل العدوي بعد ذلك إلي الوزراء ، وإذا بالإشاعات تتناقلها الأفواه بأن وزيرا أو بعضا من الوزراء قدموا استقالاتهم وكان بعض هذه الإشاعات صادقا وكان بعضها كاذبا.
كان الجو مضطربا، وكانت النفوس مضطربة، وكان الخلاف محتدما وكل حزب يري أن يخصص له عدد معين من كراسي المجلس النيابي يتفق مع مركز الحزب ومكانته.
صفا الجو في مظهره آخر الأمر، ولكنه كان ملبداً بالغيوم الكثيفة في حقيقته .. وأخيرا ظهر البيان المتفق عليه بين الأحزاب عن تقسيم الدوائر الانتخابية وإذا بالدائرة التي طلبت من حزبي ترشيحي فيها كانت من نصيب مرشح حزب آخر.
لم أعبأ بهذا البيان ولم أقم وزنا لقرار الأحزاب فإني قد أزمعت ترشيح نفسي للنيابة علي أية صورة من الصور سواء أقر حزبي أو لم يقر وسواء أقرت الأحزاب أو لم تقر وسواء رشحت نفسي مستقلا أو منتميا لحزب معين.
كنت قد عولت علي الترشيح يدفعني إليه دافع الهامي غلاب، ولم أكن ممن يقبلون التردد لا قليلا ولا كثيرا، فإني ما اعتزم أمرا إلا ونفذته، وليس بين التفكير عندي والتنفيذ فترة أو فترات، بل هما متلاحقان متعاقبان.
قيل إن دفع تأمين الترشيح حدد له ميعاد يبدأ من اليوم الرابع من شهر ديسمبر سنة 1944 وينتهي في اليوم الثالث عشر من الشهر المذكور، فإذا أنا أول من يدفع التأمين ، وإذا الموظف المختص بمحافظة الإسكندرية يستلم مني المبلغ في الساعة التاسعة صباحا من اليوم الرابع من شهر ديسمبر، ثم هو يستمهلني لتسليمي الايصال حتي تتم بعض الاجراءات الإدارية الخاصة، ولكني علي سفر إلي رشيد للمرافعة في بعض القضايا، فلأرسل كاتبا من كتبة مكتبي لاستلام الإيصال ظهرا.
كنت أعتقد أنني سأخوض المعركة الانتخابية مع مرشح آخر هو مرشح الأحزاب، وكنت أريد أن يستقر في الأذهان أني المنافس الثاني وخلت أنني إذا ما بادرت بدفع التأمين فإن المتهافتين المترددين ينكصون علي أعقابهم متخاذلين، وطفقت أرقب أخبار الترشيح والمرشحين فإذا بهم يتكاثرون، وإذا بالمتنافسين يبلغون الخمسة هم اثنان من المحامين، وسمسار، وموظف، وتاجر.
قضي الأمر فأصبحت مرشحا وبهذا الوصف كان يقتضيني الموقف أن أعمل جاهدا ليوم المعركة الفاصل يوم 8 يناير سنة 1945 .
هذه كرموز
بدأت العمل بأن نسخت صورة من الكشف الذي يشتمل علي شياخات الدائرة وعلي عدد أصوات الناخبين المقيدين بها وتبين لي أن أصحاب الحق في التصويت يبلغ عددهم ثمانية آلاف تقريبا.. وكانت شياخة كرموز إحدي شياخات هذه الدائرة فشملني الاغتباط والسرور!!
يا للحظ السعيد! هذه كرموز.. الحي الذي ولدت فيه سأمر في جولاتي الانتخابية ببيت الطفولة ومراتع الصبا، سأشاهد المناظر التي مرت أمام عيني منذ ربع قرن مضي وسوف تحمل المشاهدة إلي خيالي صورا وذكريات عديدة عن أيام الشباب.
هذه هي محطة الترام التي كنت أقف فيها منتظرا مجيئه، لقد كان هنا مقهي .. أين هو؟ قد حل في مكانه محل لمبيع الخردوات فقد مات صاحبه المعلم البربري رحمة الله عليه، واني لأذكر أمسية من أمسيات شهر من أشهر الصيف حينما حكمنا علي أحد صبيان الحي أن ينطلق إلي القهوة وينتزع «كوبس» النور الكهربائي وقد نفذ الحكم وساد الظلام وجري الغلام يتبعه المعلم البربري بعصاه الثقيلة.
ثم هذا عمود السواري.. هذا الأثر التاريخي الذي عاصر الزمان وظل يشرف من أعلي التل علي مقابر الأموات الراحلين طوال السنين، هنا مثوي أجدادي وإخوتي، وجدت هذا الأخ العزيز الذي ودع الحياة شابا، فودعت معه الآمال.
رحلت عائلتي عن كرموز، بعد أن غيبنا عزيزنا مقابر كرموز، وخلنا أننا نخفف من لوعة الفراق بهذا الرحيل، ولكن بعد ستة عشر عاما أعادتنا الانتخابات إلي ملاعب الصبا وردتنا إلي ذكريات حبيبة للنفس، ذكريات فيها حزن وألم ولكنه حزن نريد أن نستبقيه وألم نود ألا ننساه.
مدير الدعاية
نزلت من الترام في يوم الجمعة الموافق أول ديسمبر 1944 وكانت الساعة الحادية عشرة ظهرا، وهناك في محطتي المعهودة منذ أيام الطفولة، وجدت قريبا لي يفتح محلا لكي الطرابيش وبيعها وهو يقع علي بعد أمتار من محطة الترام.
مارس هذا الطرابيشي صناعة الانتخابات وقد يكون في وصف الانتخابات بأنها صناعة شيء من التجاوز ولكنها في الحقيقة صناعة، وهي فن أيضا، والجهل بحقيقة العملية مؤد إلي الفشل حتما.
أفضيت إلي هذا القريب بأني انتويت أن أنزل إلي هذه الدائرة التي يوجد فيها محله التجاري وأن اقتحم ميدان المعركة.
نظر إلي فاحصا وهو يدير بين يديه طربوشا انتزع منه زره وكان يوشك أن يضعه في القالب الخاص به ثم قال:
ليس في مقدورك أن تنزل في هذه الدائرة فإنها مخصصة كما أعلم لفلان مرشح الأحزاب فيحسن بك أن تبحث لك عن دائرة أخري.
كان الرد مفاجئا وجارحا لهذا الأمل العنيد الذي كان يضطرم في صدري فنظرت إلي محدثي لأستكشف من نظرته مدي صدق ما يعنيه، وبدا لي أنه رجل جاهل لا يقدر معاني الكلام ولا يحسن تفهم المواقف أو تقدير الأشخاص ، وكانت شعيرات لحيته التي نبتت وامتدت سنتيمترين، قد كشفت لي عن إهماله بالنسبة لذاته، وأن أمثاله لابد أنهم مهملون فيما يتناقلونه من أخبار الحياة ولا يتحرون الدقة فيها ولا الصدق في روايتها.
قلت له: اسمع يا عبدالرؤوف إني عزمت عزما أكيدا علي دخول المعركة وليس في مقدور أحد أن يثنيني عن هذا العزم وسواء لدي هذا المنافس أو ذاك فسوف أعمل وأجاهد في سبيل الفوز ولن أحاول التفكير في استبدال هذه الدائرة بغيرها فإنه يطيب لي ويسعدني أن أكون نائبا عن مسقط رأسي وعن هؤلاء القوم الذين أعدهم أقربائي وإخواني فدع عنك نصحك الذي تبديه، واعلم أنك أمام قرار نهائي ليس من الميسور نقضه أو القضاء عليه، فأجاب محدثي وهو يعيد لف كوفيته حول رقبته:
إذا كنت مصمماً فهذه مسألة أخري، والأمر لك .
قلت: إني أعلم أن المعلم حسن من أهالي الجهة المحترمين وهو رئيس نقابة الحوذية فما رأيك لو قابلناه وحدثناه في الأمر؟
قال: فكرة سديدة.
قلت: أين نجده الآن؟
قال : يغلب علي الظن أنه ما زال في منزله يستعد للخروج لصلاة الجمعة.
قلت: إذن أجلس في قهوة الحاج إسماعيل في انتظارك حتي تستدعيه.
قال: خير رأي، وأيضا الحاج إسماعيل ينتمي للحزب الوطني وهو رجل عال، وقد يخدمنا وله معارف عديدون.
حنفية الصدقة
وجلست في المقهي منتظرا وقد لاحت أمام نظري غير بعيد «حنفية الصدقة» وأحد السقائين يملأ قربته منها فقضيت العجب من هذا المنظر القديم الذي شاهدته منذ طفولتي، كيف أن السنوات العديدة التي رفعت من شأن البشرية وتقدمت بالناس إلي الأمام وقلبت المبادئ والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وغيرها لم تمتد يدها إلي هذا الحي البائس؟
هنا في الإسكندرية عروس البحر المتوسط توجد حنفية الصدقة في حي من أحيائها!
هنا في الإسكندرية التي امتدت إليها جميع مقومات المدنية من مياه ساخنة وأخري باردة تتساقط من حنفيات في بعض الدور من المنازل الحديثة البناء توجد منازل لم تمتد فيها المواسير وإنما لا يزال بعض سكانها يستعملون الأزيار وينقل السقاءون إليهم المياه في قربهم في مقابل بضعة دريهمات.
إن دل هذا المنظر علي شيء فإنما يدل علي الفوارق الاجتماعية الخطيرة بين طبقات الناس الذين يعيشون في هذا الثغر الجميل.
طبقة عاملة تنتج كثيرا وتربح قليلا فلا يكفيها الربح لأن تعيش في مساكن تصل إليها المياه المرشحة في مواسير.
وطبقة مخدومة تنتج قليلا وتربح كثيرا ولا تكتفي بالمياه المرشحة تصل إليها في مواسير بل تتمتع أيضا بالمياه الساخنة تنهال من هذه المواسير وليست المياه وحدها هي التي تتمتع بها هذه الطبقة بل بغيرها من متع الحياة ونعمها.
إن يد الإصلاح الطويلة قصرت عن أن تمتد إلي هذا الحي من أحياء الإسكندرية.
المعلم حسن
كانت هذه بعض خواطري حينما رنت في أذني تحية المعلم حسن فقمت واقفا أرد التحية في احترام بالغ.
قال : أنا سررت جدا يا أستاذ لما علمت بترشيحك .. مبروك! إحنا في ديك اليوم لما نشوف واحد من حتتنا في البرلمان.
قلت: متشكر جدا يا معلم حسن أنا وجدت من اللازم أن أبدأ بمقابلتك بعد أن وطدت العزم علي الترشيح ولا شك أن أول من أقابلهم هم أهل جهتي وعشيرتي، ولو أني تركت هذا الحي منذ خمسة عشر عاما أو أكثر إلا أني مازلت متصلا به وما زال بعض أقربائي يعيشون فيه وإني لأذكر الآن الحارة التي تضع فيها عرباتك الكارو وهذه السلاسل الحديدية التي تركبها فيها والتي كان رنينها يوقظ الخيل ويعلنها بأن يوما جديدا قد ولده الزمان.
قال عبدالرؤوف: دا كان زمان يا أستاذ، المعلم حسن الآن يمتلك سيارات كاميون.
قال المعلم حسن: وهو يفتل شاربه الذي خطه الشيب، كله من نعم الله.
قلت: ما رأيك يا معلم ماذا ينتظر أن تساعدنا به؟
قال: عبدالرؤوف يعلم أني لا أتأخر مطلقا عن خدمتك يا سلام! إحنا في ديك اليوم.
قال عبدالرؤوف: المعلم حسن لا يحتاج إلي توصية، ده راجل خدوم بحق صحيح، تعرف يا أستاذ الجهة كلها تسمع كلام المعلم حسن.
قال المعلم حسن «وهو يدق صدره دقا وديعا»: العفو، العفو، لكن انت عارف أن منزلي لا يدخل في الدائرة.
قال عبدالرؤوف: الأستاذ يعلم ذلك ، يسار الشارع يدخل في دائرة غيط العنب وأما اليمين فتابع للأستاذ، لكن ليس غرضنا منزلك و تذكرتك بل معارفك وأصدقاءك وتذاكرهم.
قال المعلم حسن: إذا كان كده مافيش مانع.
قال عبدالرؤوف: انت مش تعرف المعلم علي الزيات.
قال المعلم حسن: اللي في التوفيقية؟ أمال! أعز الحبايب.
قال عبدالرؤوف: ما رأيك فيه.
قال المعلم حسن: رجل عال، وده كمان عنده تموين الجهة التي هو فيها ويخدمنا تماما لأن عنده أسماء أهالي الحي.
قلت: فكرة عظيمة جدا!
قال عبدالرؤوف: أنا مش قلت لك يا أستاذ أن المعلم حسن مايتأخرشي.
قال المعلم حسن: اسمع يا عبدالرؤوف تعالي لي اليوم بعد صلاة المغرب ونذهب إليه سويا.
دار الدعاية
قال لي عبدالرؤوف: يجب أن نتخذ لنا في الدائرة الانتخابية دارا للدعاية وأن نؤثث الدار بأثاثات وأن نقيم عليها خادما يرعاها بالتنظيف والترتيب والنظام وأن تفتح أبوابها في الصباح والمساء لاستقبال الناخبين وأن يوضع فيها مكتب يجلس عليه الموظفون.
فسألته وما عمل هؤلاء الموظفين؟
قال: عملهم القيام بالدعاية في الدائرة الانتخابية فهم الذين ينتقلون إلي منازل الناخبين يبصرونهم بشئون الانتخاب ويدعون للمرشح الذي يعملون تحت رايته إذا ما تحدثوا إلي جيرانهم أو جلسوا في المقاهي أو ساروا في الطريق أو سئلوا عمن يفضلون من المرشحين.
قلت: وكيف، نطمئن إلي حسن قيامهم بعملهم.
قال: هذا يدخل في اختصاصي أنا، إذ إني سأوالي مراقبتهم.
وجاءني عبدالرؤوف في اليوم التالي وقدم لي بيانا بالنفقات التي اضطر إلي صرفها فإذا بالبيان يحتوي علي أجرة عن استعمال دار إحدي النقابات وعن أجرة لتكليف أحد المؤثثين بوضع عدد الكراسي وأثمان لبعض الثريات الكهربائية ولافتة عن الدار الانتخابية للمرشح فلان.
وكان يصحبه عند حضوره خمسة من الشبان أحدهم يرتدي جلبابا ويضع علي رأسه طربوشا وكان قصير القامة أسمر الوجه سمرة تقرب إلي السواد وكانت عيناه تلمعان في خبث كامن ولو أنه كان يتحدث في تواضع العبد المخلص، أما ثانيهم فكان أشدهم حماسة وأبلغهم مداهنة وخنوعا يكسو رأسه شعر متجعد بينه وبين طربوشه الفاقع الحمرة عداء بالغ، فهو يكاد يدفعه عنه دفعا إلا أن الطربوش الضيق يأخذ بخناق الشعر المتجعد ويحاول الاستقرار عليه في عناء، ولهذا كان الطربوش قابعا في قلق يكاد من هزة هينة يتساقط.
وكان صاحب هذا الطربوش مرائيا مداهنا ينحني في قوس عند تحيته لي ويكاد يقبل يدي في كل مرة تمتد يده بالسلام.
وصرت أبغضه بغضا لا حد له، وكانت علاقتي النفسية به متوترة، أما ثالث الخمسة فكان فتي ضخم الجثة ألثغ اللسان فيه بساطة ظاهرة ولعله كان أحسنهم طوية.
وأما الرابع فهو موظف سابق بالسكك الحديدية لأمر ما طردته المصلحة فهو يريد عملا، وهو كاتب يحسن الكتابة ومتعلم يدري في أفانين الكلام، وهو محدث يجيد الإقناع ونشيط ومحترم ويجب أن يفضل زملاءه في الأجر، وكان يساوم في ذلك مساومة جافة لأنه يري ألا يوضع مع الآخرين في كفة واحدة.
أما هذا الخامس ذلك الفتي الأحول الأهتم الذي يكاد ينثر جميع لعابه رذاذا علي وجه محدثه فهو أشدهم أنانية وأوضعهم نفسا.
هؤلاء العاطلون هم أعضاء المكتب للجنة الانتخابية الأولي في الدائرة.
قلت. أهلا وسهلا تشرفنا.
لا يوجد غيرك
قال أحدهم، قد سررنا جدا يا أستاذ لأنك رشحت نفسك في دائرتنا.
قلت: وما رأيكم في باقي المرشحين؟
فضحك الجميع وقال أحدهم، لا يوجد غيرك في الخمسة المتقدمين وأدلي كل واحد منهم برأيه وعقدت مقارنات متعددة وختم الحديث بأنني أفضل المرشحين جميعا وأعلمهم جميعا وأقدرهم جميعا.
وصرفت هيئة المكتب واستبقيت عبدالرؤوف لأحاوره وقتا ما.
قلت: كيف نطمئن إلي هؤلاء العاطلين؟
قال: سوف يقومون بأعمال كثيرة وسوف أراقبهم مراقبة دقيقة، ألا تعلم يا أستاذ أننا في حاجة لنقل جداول الانتخاب ونسخ أسماء الناخبين فمن يقوم بهذا العمل الكبير الذي يستغرق أياما؟ هؤلاء العاطلون هم الذين سيقومون بهذا العمل، وهل يمكن أن نستخدم غير عاطلين؟ وقد اخترت من يحسنون الكتابة والقراءة.
واتفقنا نتشاور في تحديد الميعاد لافتتاح الدار الانتخابية وطريقة التنظيم ليوم الافتتاح علي أن يكون هذا اليوم مشهودا.
ولما أن انتهي الحديث مال عبدالرؤوف علي أذني وطلب عشرة جنيهات أخري غير العشرين التي استلمها في اليوم السابق وقد أطلعني علي بيان بالنقود التي ذهبت والتي سوف تذهب، فأعطيته المبلغ المطلوب في غير تردد وإنما طالبته بالحرص في جميع ما يأتي وما يدع وأن يمنحني عطفه وإخلاصه وألا يبسط يده كل البسط.
الدار الانتخابية
كانت الدار الانتخابية دارا رحبة أحسن عبدالرؤوف اختيارها وكان الداخل إليها يمر في حديقة لا زرع فيها ولا نبت وإنما يظلل بابها شجرة كثيرة الورق ملتفة الأغصان وبين باب الدار وباب الحديقة شقة قصيرة من الأرض تنخفض هنا وتعلو هناك وبين هذا وذاك حفر تضيق حينا وتتسع حينا وهي في الحالين برك تمتلئ بماء المطر في الأيام الممطرة ويتلمس الداخل السير علي حوافيها وإلا ناله من الوحل مثلما نال حذائي في ليلة غاب بدرها وساد فيها الظلام ولم يكن ثمة نور غير بصيص ضئيل ينساب خلسة من العوارض الخشبية للنافذة المقفلة في الغرفة المعدة لحفلة الافتتاح ولعقد الاجتماعات فيما بعد.
وهي غرفة واسعة تصلح للاجتماع حقا وقد أثثت بكراسي مكسوة بالقطيفة الخضراء وببعض كراسي أخري من القش ويتصدرها مكتب يعلوه غبار لم يعن الخادم بتنظيفه.
كانت الساعة الثامنة في مساء يوم مطير حينما جلست أمام هذا المكتب في يوم الافتتاح أتصفح وجوه الجالسين والداخلين الراغبين في مشاهدة هذا المرشح الذي هو أحد خمسة من المرشحين.
وجلس علي يميني مقرئ من قراء الحي يرتدي عباءة بالية ويعلو عينيه المقفلتين أبدا منظار أسود، وقال عبدالرؤوف وهو يقدم هذا الشيخ إلي:
- خذ بالك من الشيخ محمد فهو من أحسن المقرئين في الجهة وله رغبة واحدة يا أستاذ، كل الذي يرجوه عندما يأخذ الله بيدك أن تسعي له ليلتحق بمحطة الإذاعة، وسوف تسمع صوته الآن.. حاجة حلوة!
قلت: بالطبع أنا خادم جميع الناخبين.
قال عبدالرؤوف: والشيخ محمد من حبه للأستاذ حضر للقراءة بدون أجر.
قلت: أشكرك جدا يا شيخ محمد.
فقال الشيخ عليش: لا شكر علي واجب كلنا نريدك نائبا عنا لتخدمنا لأننا جربنا أناسا كثيرين ونريد الآن النائب الذي ينظر في مصالحنا.
قلت: لا شك في ذلك يا شيخ عليش.
وكان الشيخ عليش يجلس إلي جانبي وقد وضع عكازيه الاثنين بين فخذيه ويغلب علي الظن أنه مصاب بكساح ورغما من هذا فهو رجل نشط إلي أبلغ حدود النشاط، وهو يدير مدرسته خير إدارة وهو مخلص ولا مطعن علي إخلاصه.
قال الشيخ عليش وهو ينظر إلي من تحت منظاره الزجاجي وقد ربط بين العدستين بقطعة من الخيط.
- هل تعلم يا أستاذ أني دعيت أمس لحضور حفلة المرشح فلان فذهبت إليها من باب العلم بالشيء وإذا بي أري هذا المرشح جالسا صامتا، ولما طلبوا إليه أن يخطب في المجتمعين اعتذر إليهم بأنه مصاب بالبرد ولكنه في الحقيقة مصاب بالجهل، ونحن نريد الرجال المتعلمين ثم صاح فجأة
- فليحيا الرجل المتعلم
فردد الحاضرون هتافه في التو مثني وثلاث ورباع.
أكاذيب الشيخ عليش
ثم بدأ الشيخ محمد في ترتيل آي الذكر الحكيم ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا) وكان المقرئ ذا صوت جميل يجدر به أن يسلك ضمن قراء محط الإذاعة وقد هنأته بجمال صوته بعد أن ختم القراءة.
وقام الشيخ عليش بعد ذلك خطيبا وكان يلوح بيده عن يمين وعن شمال وكان كم جبته الواسع الفضفاض أشبه بعلم في يد جندي من جنود الإشارات.
بدأ الشيخ عليش خطابه بأبيات من الشعر تصلح أن تقال في كل مجال ثم راح يشير إلي متحدثا عني قائلا بأني من أبناء الحي وأنه كان يعرفني وأنا بعد في دور الطلب والتحصيل وأنه يعرف عائلتي حق المعرفة ثم تحدث بعد ذلك عن الحزب الوطني الذي أنتمي إليه وامتدح مبادئه وأطنب في وصف وطنية رجاله وصاح آخر الأمر هاتفا بحياة مصطفي كامل ومحمد فريد وبحياة مبادئ الحزب ثم أخيرا بحياة مرشح الحزب الوطني.
امتلأت قاعة الاجتماع بالمتفرجين ولا أقول بالناخبين فأغلب الظن أنه لم يكن منهم أحد ناخبا غير أفراد لا يربو عددهم علي عدد أصابع اليد الواحدة.
دعيت بعد هذا للخطابة - أو في تعبير أقرب إلي الدقة - للحديث وأي حديث يتفق مع هذا الخليط من السامعين؟ إن غالبيتهم من العمال بعضهم يعمل فعلا والبعض عاطل لا عمل له.
إني استخرت الله وعمدت إلي خطابهم مقدما إليهم نفسي كفرد منهم وكزميل لهم وأخ من إخوانهم ووليد من مواليد حيهم.
فصاح مأجور من السامعين
- فليحيا ابن الدائرة ، الدائرة أولي بابنها. وردد الحاضرون هتافه.
ومضيت أقول: إنني عضو في الحزب الوطني وإني أرشح نفسي علي مبادئه القويمة.
فصاح الشيخ عليش بحياة الحزب الوطني وبمبادئه القويمة.
ورحت أتحدث عن العمال وحالتهم البائسة وأجورهم الوضيعة.. واغتيال أصحاب الأموال لكدهم وتعبهم وحصولهم علي الأرباح الطائلة التي يملئون بها جيبوهم ولا يعطون منها للعمال غير القدر اليسير الذي لا يغني ولا يسمن من جوع.
فصاح المأجور هاتفا
- فليحيا نصير العمال وحبيب العمال والمدافع عن العمال .
واستمر الخطاب والمقاطعة تدوي في كل مقطع من مقاطعه، وما كنت قد أعددت للقول عدته واكتفيت باعتمادي علي ان يوحي إلي أو ما يوحيه الموقف أو ما ينجدني به الوعي الباطن وحرارة الاسترسال في الخطاب وتداعي الأفكار وفي الحق لا أدري كيف كان في مقدوري أن أتحدث ساعة أو بعضها أو أكثر منها، وكنت أعتقد أن اختمار فكرة الترشيح والرغبة في النجاح ومحاولة الحصول علي ثقة الناخبين والعمل علي التأثير فيهم لنيل هذه الثقة، كانت جميعها حوافز تدفعني إلي الخطاب والخطاب الطويل دون جهد مبذول في التحضير والإعداد، فما كنت أحضر أو أعد خطابا وما كان الوقت ليتسع لإعداد أو تحضير.
وأخيرا أحسست أن الوعي الداخلي لن يسعفني بكلام ما، فرأيت أن أختم الحديث بعبارة مؤداها أني كددت أسماعهم وانتهزت حسن استماعهم فأطلت عليهم.
فصاح صائح: لا. لا إننا نريد المزيد.
واسترسلت قائلا: وإني أشكرهم وسأعود إلي خطابهم فيما يأتي من أيام والعود أحمد.
الجولة الأولي
ومال عبدالرؤوف علي أذني ينصحني بأن أقوم بالجولة الأولي من جولاتي الانتخابية وقد أفهمني أنه قد اتخذ للأمر عدته.
قمت وقام السامعون وسرت وسار الجمع ومضوا يهتفون بحياة المرشح وحياة ابن الدائرة ومولود شارع باب الملوك ، ونصير العمال وإلي غير ذلك من هتافات.
قلت بعد أن مشيت مسافة ما: إلي أين؟
قال مشير الدولة «عبدالرؤوف»: إلي مقهي الحاج سرور.
قلت: ومن يكون الحاج سرور؟
قال: هو رجل من رجال الصعيد صاحب قهوة وله مركز ويريد أن يراك وله تأثير كبير.
قلت: ليكن .
ثم سرنا وكانت الهتافات تطن في أذني طنينا وكان الموكب الذي أسير علي رأسه موكبا يبعث علي الضحك والسخرية فهو مكون من هاتفين بلغ عددهم أربعين أو ثلاثين نفرا بينهم عدد كبير من الأطفال المشردين أولئك الذين لا يسأل عنهم والد أو أم وكانوا يسيرون في أسمال بالية وخرق ممزقة وقد كانوا يتماسكون، كل واحد منهم يقبض علي يد الآخر ويكونون حلقة مفرغة ويدورون في شكل دائرة وهم يصيحون: أبوكم مين؟ أبونا حنفي، أخوكم مين؟ أخونا حنفي، عايزين مين؟ عايزين حنفي، وكان آخرون يصفقون أثناء ذلك.
وتستمر هذه المهزلة فترة من الزمن يعودون بعدها إلي هتافاتهم الأولي وقد انحلت عقدة دائرتهم.
المعلم حنفي
وقال عبدالرؤوف: تعال يا أستاذ.
قلت مستفهما: ماذا؟
قال: يحسن أن تسلم علي الحاج مسعود الذي يجلس هناك في قهوته لأن واجب اللياقة يدعو إلي التسليم عليه ما دمنا سنمر عليه ولو أنه لا يدخل ضمن الدائرة الانتخابية.
قلت: طوعا.
ثم مضيت إلي حيث يجلس الحاج مسعود وسلمت عليه في اشتياق وقد عرفت فيه رجلا فتوة أخني علي فتوته الزمان فأصبح الآن رجلا متهدما قد وخط الشيب رأسه ولو أن قامته ما زالت مديدة توحي إلي الناظر بمجده الراحل في ميدان الفتوة والشغب في الحي وأني لأذكر يوم كنت صبيا وقوفه في مقهاه كالليث وقد هجم عليه عدد كبير من الأقوياء فوقف فيهم وقد حمل فوق رأسه كرسيا يتلقي عليه ضربات المغيرين بينما كان يشبعهم ضربا بعصاه الضخمة.
وبلغنا مقهي الحاج سرور فإذا هو واقف بالباب في انتظارنا وقد وضع مكئبا علي الرصيف لأجلس قبالته وحياني تحية حارة وقد التف في عباءة فضفاضة وأحاط رأسه بمنديل كبير يلتف باللبدة البيضاء، وكانت صفرة وجهه تلفت النظر، ولعله كان مصابا بداء الصفراء واسترسل تحت أنفه شارب خفيف طويل جعله قريب شبه بالصينيين، قال الحاج سرور وهو يصافحني في حرارة: زارنا النبي الليلة.
قلت: متشكر يا حاج.
وكنت أصافحه مصافحة الأخ المشتاق لأخيه.
قال الحاج سرور: هات يا واد يا حسن البخور.
وجاء حسن بالبخور يدور بالمبخرة أمامنا وهو يقول: «صلي علي النبي ولا تنس فضائل علي».
لم يكن يقول هذه العبارة وإنما كان يرتلها ترتيلا أو قل يغنيها غناء.
ولما كدت أختنق من البخور أشرت إليه بإبعاد المبخرة ، وأتانا الساقي بثلاثة فناجين من القهوة احتسيت أحدها وناولت عبدالرؤوف ثانيها أما ثالثها فكان من نصيب الشيخ عليش الذي صاحبنا في جولتنا رغم أنه كان يتوكأ علي عكازيه الخشبيين إلا أنه لم يكن يجد في السير تلك المشقة أو هذا الضني الذي نخال نحن الأصحاء أنه يحسهما في مشيته بل كان يقفز بعصويه قفزات هي في الواقع أسرع من خطوات الإنسان، وقد أكسبه مرانه الطويل في استعمال العصوين قوة في ساعديه، فأصبحتا ساعدين وساقين معا.
خطبة سي توفيق
وصاح أحد الجالسين بفتي حدث يرتدي جلبابا يعلوه جاكتة ويضع فوق رأسه طربوشا بدا من تحته وجهه الناصع البياض وسيما.
قال الصائح: تعال يا سي توفيق وحي الأستاذ بكلمتين.
قال توفيق: لا يمكنني أن أخطب توا هكذا، انتظر قليلا.
ثم انسحب إلي داخل المقهي واختار مكانا خاليا وراح يكتب ويصحح ما يكتب وعاد بعد قليل يحمل قصاصة من الورق.
فصاح به المتكلم الأول: هيه.. خلاص حضرت؟
قال توفيق: نعم.
ثم قفز علي مائدة من موائد المقهي ونشر الورقة بين يديه ومضي يتلو ما فيها وكانت الورقة تهتز في يده اهتزازا متواصلا، فقد ملكته رعشة كادت تهوي به إلي الأرض لولا اعتماده علي الحائط بيده الأخري.
وحياه السامعون بالتصفيق عقب انتهائه، وقمت أمد إليه يدي مصافحا علي حسن استقباله لي وتقديمي لجمهور الناخبين.
ووقفت أمام المكتب الموضوع فوق رصيف الشارع ووضعت يدي اليسري في جيب المعطف وجعلت اليمني حرة لتشير إلي أمام كلما احتاج الحديث إلي إشارة أو تعتمد علي المكتب إذا رأت الاعتماد عليه.
كان الطريق مظلما لا ينيره غير الأضواء المنبعثة من المقهي وكان ثمة دكان حلاق مفتوح وقتذاك وكان الرجل منحنيا فوق ذقن زبون تعلوه طبقة كثيفة من الصابون وكان يجلس علي يساري شيخ يرتدي جلبابا فضفاضا ويتكئ علي عصا غليظة وتكسو ذقنه لحية بيضاء كانت تهتز اهتزازا هينا إذ كان يتلو أو يغمغم ببعض الآيات والأدعية.
خاطبت الحاضرين معلنا ترشيحي عن دائرتهم لأني أعلم من غيري بحاجتهم وبالوسائل المؤدية إلي إصلاح أحوالهم، وكنت كلما استرسلت في الحديث وارتفع صوتي تحت تأثير حماسة الكلام وثورة النفس المؤقتة رأيت الحلاق وزبونه وقد اتجه كلاهما بنظرة إلي وكان الشيخ ذو اللحية البيضاء يقف عن تلاوة أدعيته ويقول: ماشاء الله! الله أكبر!
أما عبدالرؤوف وعصبة الهاتفين فكانوا يصيحون هاتفين بحياة الخطيب وحياة نائب الدائرة الجديد، ونصير العمال.
ومال عبدالرؤوف علي أذني بعد أن انتهي الخطاب وأسر إلي أن أدفع للحاج سرور جنيها واحدا.
قلت: ولكن هذا مبلغ كبير أنه لم يقدم لنا غير ثلاثة فناجين من القهوة!
قال : العادة كدة في الانتخابات، ليست المسألة مسألة فناجين قهوة ، بل لأنه سيكون داعية لنا بين رواد المقهي.
وناولت الحاج سرور المبلغ وقد طويت ورقة النقد عدة طيات حتي لا تكاد تري ودسستها في يده دسا وكان يقول: خلي، خلي يا بك.
فرقة الهتافة
وعاودنا المسير تسبقنا فرقة الهتافة وهم يتصايحون وقد يدورون حول بعضهم وكانت ضجتهم وصخبهم يوقظان النوام المطمئنين الوادعين وعدنا للجلوس بعد فترة قصيرة في مقهي آخر، وجاء صبي القهوة يحمل البخور ويصيح «صلي علي النبي ولا تنس فضائل علي» وتقدم صاحب المقهي بكئوس من شراب أحمر هو ماء مذاب فيه سكر ووضع أمامي علي المائدة ثريا كهربائية في شكل وردة حمراء يتصل بها بعض أوراق خضراء من زجاج.
وكان أهالي الحي وصبيانه يقفون مني غير بعيد ينظرون إلي المرشح الجديد نظرهم إلي العريس الذي يجلس في المقهي يحيط به جمع من أصدقائه وقد ارتدي بذلته السوداء وأحاط رقبته بالياقة البيضاء والأنشوطة البيضاء تعلو سيماه السعادة في شيء من الوقار لأنه سيزف إلي عروسه بعد قليل إذا ما انتهي من جولته التقليدية راكبا العربة المزينة بالورود والأوراق.
طوفت في ثلاثة من شوارع الدائرة الانتخابية المهمة وجلست في سبعة من المقاهي وخطبت في ثلاثة منها ودفعت لكل من أصحابها جنيها واحدا.
وفي مساء اليوم التالي عندما كنت أزور الدار الانتخابية لاحظت شجارا محتدما كان يريد عبدالرؤوف أن يخفيه عني ولكني استدعيت أحد الغاضبين الصاخبين فإذا به هاتف مأجور يزعم أنه لم ينل نصيبه كاملا من الأجر المعين له ولأن غيره من الصبيان لم ينالوا غير دريهمات عن جولتهم التي صاحبوني فيها في مساء اليوم السابق، ساءني هذا المنظر الوضيع أبلغ إساءة واستدعيت عبدالرؤوف وتحريت منه حقيقة الموقف فعلمت أنه قد دفع لعصبة الهاتفين ثلاثة جنيهات وأنه قسمه عليهم كل علي قدر سنه وسطوته بين زملائه وأنه لا يصح أن نتمادي في الصرف في مبدأ الأمر وإلا اغتالنا هؤلاء الأشقياء اغتيالا لا يعرف حدودا وبخاصة لأنهم غير مخلصين في عملهم، فإنه رأي أن أغلبهم لم يكن يبذل مجهودا ذا شأن في الهتاف والصياح، وأن بعضهم اندس في جماعة الصائحين ولم يكن موجودا منذ بداية الطواف.
حنفي محمود جمعة المحامي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.