لا تكاد تمر ذكري لأكتوبر، علي مدي الثلاثة عقود الماضية، دون أن يتردد سؤال : لماذا لم ينتج أدباؤنا أعمالاً كبيرة عن أكتوبر؟ حتي انني، في كل ذكري، أروح أفتش في الدوريات عن هذا السؤال، مهما اختلفت صيغته، فلا يخيب سعيي، فلا يزال لدي البعض منَّا أمل، بعد مرور ما يقرب من أربعين سنة علي رابع معاركنا مع العدو الصهيوني، في أن تشهد العربية عملاً إبداعياً ضخماً - ويوصف أحياناً، خطأ، بالملحمي - يسجل لمعركة قهر فيها جيشنا إرادة العدو؛ وهي حقبة طويلة، تكفي للمراحل المختلفة الضرورية لإنتاج أعمال إبداعية عظيمة، من استيعاب، وتأمل، وتخطيط، نهاية بالفعل الإبداعي. فإلي متي يطول انتظارنا لهذا العمل الإبداعي المأمول ؟ وإن أغلب الظن بأننا ننتظر شيئا لن يأتي؛ ولدي سببان لسوء الظن، متداخلان، يصعب ترتيبهما؛ الأول، أن ثمة إدراكاً كامناً في وعي الإنسان العربي، عامة، بدوام الصراع العربي الإسرائيلي. فكل ما وصل إلينا من أعمال عظيمة عن حروب، في آداب أجنبية، كان عن صراعات منتهية. أما الصراع في منطقتنا فهو متواصل، وله أبعاده المتعددة. ويتطلب العمل الإبداعي الدبي، والروائي علي وجه الخصوص، مساحة تأمل متسعة، تنتهي - في حالتنا هذه - إلي صعوبة الاقتناع بأن الصراع قد انتهي بحلقة في سلسلة معارك من حرب لا يعلم مداها إلا الله، فيكون العجز عن إنتاج عمل ضخم، اكتفاء بأعمال محدودة الحجم والقيمة الفنية، كتبت - غالبا - علي عجل، وتجنح للتسجيلية، لاتشبع الطموح الوطني. وأما السبب الثاني، فيتصلُ بما تلي أكتوبر 73 من تغيرات سياسية واجتماعية واقتصادية حادة، لا تزال ترجيعاتها تتردد في المجتمع حتي الآن، بدت معها المعركة الأكتوبرية كحركة شطرنج محدودة القيمة؛ وأُهدِرَ الحدثُ نفسُه - كفعل وطني مجيد - علي مذبح السياسة، أياً كان الرأي حول الضرورات السياسية، واتجاهات القيادة السياسية ورؤاها في ذلك الوقت. وهنا، علينا أن نرصد أحداثا ومتغيرات مهمة، منها : - تم تجميد الجيش الزاحف منتصراً، عند مرحلة محددة، اكتفاء بمساحة مستردَّة من أرض الوطن، لا يزيد عمقها علي 12 كم، فكان قبول وقف إطلاق النار مفاجأة محبطة للمقاتلين، وهم نخبة الوطن في ذلك الوقت، وكان بينهم، لا بد، كتّاب وأدباء. - أن أحداث الثغرة نالت فعلاً من (زهوة) الانتصار. - إفساح الساحة للعمل السياسي وحده، وتنحية الأعمال العسكرية تماماً، وتوالي اختفاء قادة المعركة، وبقيت معظم البطولات معتماً عليها، حتي أننا لم نبدأ نسمع عن كثير من الأعمال البطولية إلا في أكتوبر 1995، أي بعد 22 من المعركة، ومازالت هناك أعمال وبطولات أخري خافية، وبدا كأن إخفاءها كان أمرا مقصودا. كان أحد مشروعات كاتب هذه السطور الإبداعية، في منتصف ثمانينيات القرن الماضي - كتابة رواية بطلها اللواء مهندس باقي زكي يوسف، مبدع فكرة تجريف الساتر الترابي في خط بارليف باستخدام مضخات المياه، وهي فكرة استلهمها من عمله في بناء السد العالي، وكانت الرواية تربط - من خلال حياة البطل - بين الحراك الوطني في معركة بناء السد، وفي معركة أكتوبر؛ وأرسلت إلي الإدارات المعنية أعرض مشروعي وأطلب إمدادي بالوثائق، فلم يرد علي أحد، حتي هذه اللحظة. ولم أكتب الرواية، مكتفيا بكتيب للأطفال عن هذا البطل العظيم، الذي يستحق تمثالا في أعظم ميادين مدننا، لأن فكرته العبقرية غيرت وجه المعركة، بل وجه الحياة في مصر. - مجيء كامب ديفيد، كان بمثابة مياه باردة ألقيت علي الشعور الوطني الذي كان لا يزال معايشاً للأداء العسكري الباهر. - الانطلاق المحموم إلي أبواب الانفتاح، واتجاه الناس إلي قيم أخري، مغايرة، أطفأت جانبا كبيرا من بريق الحدث التاريخي الضخم. وإن كان لنا ألاَّ نلوم، إذن، شباب الأدباء، فكيف يطال العجز عن الأداء الأدبي، المناسب حجما وقيمة لانتصار جيشنا في أكتوبر 73، أدباءنا الكبار، محترفي الكتابة، فيكتفون بمقالات حماسية غريبة؛ بل إن أديبا عملاقا كتوفيق الحكيم لم يكتب سوي مقال واحد، عنوانها (عبرنا الهزيمة)، ويقصد الهزيمة النفسية؛ فهو لم يكن متأكداً، حتي، من قدرة الجيش المصري علي الاستمرار، ولعله كان يعايش ظروف 67 .. يقول في مقاله : "عبرنا الهزيمة بعبورنا إلي سيناء .. و مهما تكن نتيجة المعارك، فإن الأهم الوثبة !". فانظر إلي قوله : مهما تكن نتيجة المعارك. رجل متشكك في حقيقة الأداء العسكري. ثم إنه يعلن، صراحة، عجز الأديب عن مواكبة ما جري، فيصف الأدب بأنه (كلام علي ورق)، وفي فورة حماسه، يطلب من الدولة أن توفر له فرصة عمل يدوي في مصنع إمدادات أو معلبات !. إن ذلك يؤكد أن الأديب الكبير لم يكن مهيأ لإبداع عمل كبير، لأسباب متعددة، جاءت بعد انطفاء الحماس. وربما لم يبدع توفيق الحكيم كثيرا بعد 73، ولكن كاتبا آخر، بحجم نجيب محفوظ، أنتج العديد من الأعمال الروائية والقصصية بعد 73، لم يتعرض لوقائع أكتوبر تعرضا مباشرا، وهو الاحترافي، في أي من أعماله، وإنما اقتصر إسهامه علي مجموعة مقالات قصيرة نشرها بالأهرام، عنوانها العام (دروس أكتوبر)، ومنها "عودة الروح"، التي يقول فيها : (إن الحرب ردت إلينا الروح وفتحت أبواب المستقبل، مهما تكن العواقب )!. فهو، أيضا، متشكك في ما يعقب هذا الانتصار. علي أي حال، سيكون كاتب هذه السطور أسعد الناس إن خاب ظنه، وفوجئنا بعمل أدبي عملاق يسجل لمعركة أكتوبر، يظهَرُ - علي نحو فريد - بعد مرور ما يقرب من نصف قرن علي واحد من أعظم أحداث تاريخ العرب المعاصر.