والظلم من الجور، و الجور من مجاوزة الحد، حتي أصبح الشرك بالله في مقام الظلم العظيم، لأنه ميل بالنفس عن قصد الإيمان، والظلم الاسم من الأسماء التي تقوم مقام المصدر، لأن الله تعالي قال عن نفسه انه لا يظلم مثقال ذرة أي لا يظلمهم، وكان التظلم في جذور اللغة من قبيل الصبر علي الظلم، ولكنه أصبح اليوم من باب دفع الظلم، فعرفنا المظلمة، ومنها عرفنا عرض حال المظلوم، فحُذف المظلوم وبقي عرض حاله، ثم ضُم حاله علي عرضه فأصبح عرضحال، ليكون أقوي معبر عن مشاكل المصريين في علاقتهم مع الحاكم. صندوق الشكاوي! من تعليمات الإدارة الحديثة في كتبها الدورية أن يوجد صندوق للمقترحات، والشكاوي يكون مثبتاً بجوار مدخل المصالح الحكومية، تحول هذا الصندوق اليوم إلي مجرد صندوق إن كان موجوداً أصلاً، ولكن كتاب"السلطة وعرضحالات المظلومين" من عصر "محمد علي" من1820 حتي1823م، والصادر عن "دار الكتب والوثائق القومية"، دراسة أعدها"ناصر عبد الله عثمان" وصدرها د."أحمد زكي الشلق"، واشرف عليها د."محمد صابر عرب"، يؤرخ لأقدم صندوق شكاوي يمكن أن يكون بين أيدينا، انه صندوق شكاوي معاصر لزمن"محمد علي"، يعكس لنا طبيعة المشاكل التي كنا نواجهها في مطلع القرن التاسع عشر، ويترجم لنا كيفية تصرف الحاكم في الشكاوي المعروضة عليه؟ ومدي إلمامه بمفاتيح العملية الإدارية من توزيع الشكاوي علي المختصين، ومتابعة تنفيذ قراراته الإدارية، كما تكشف هذه العرضحالات عن مدي تبادل الثقة بين الحاكم والمحكوم في تلك الفترة من تاريخ الإدارة المصرية، وقيمة الشكاوي في رصد أحوال البلاد في تلك الفترة يختلف عن قيمة الأوامر الصادرة عن "محمد علي"، فالأوامر العلوية تعكس أهداف الإدارة، أو الحاكم، بينما العرضحالات تعكس الضروريات التي حتمتها الاستجابة لرغبات الشعب من اجل إصدار قرارات إدارية معينة، فتتبين إلي أي مدي كان المشروع النهضوي في زمن "محمد علي" استجابة لطلبات حاكم مستبد؟ أم استجابة لإملاءات شعب يعي مصيره، و يدرك مقدراته؟ فكان سعي الحاكم خلف توجهاته؟ دفاتر المهمة قد يتصور البعض أن تمثال الكاتب المصري القديم هو لمصري فرعوني يكتب عملاً أدبياً، وهو متخذ هذا الوضع، واضعاً أوراق البردي علي ركبتيه، وقد تربعت قدماه، وأمامه الريشة والمدواة؟ ولكن هذا التمثال يعد أقدم تمثال يخلد أول مصري جلس يكتب عرضحال للفرعون، فهو ليس أول كاتب مصري، وإنما أول عرضحالجي مصري في التاريخ، كان يجلس علي ضفاف النيل، حيث يأتي إليه الفلاحون يملون عليه شكاواهم، فيعيد هو صياغتها، وتوجيهها إلي الفرعون المختص، ويذكر الشيخ"محمود عرنوس"(ت1955م) في كتابه "تاريخ القضاء في الإسلام"، أن ديوان المظالم كان يعتبر اكبر هيئة قضائية في الإسلام يباشره الخليفة بنفسه، بينما يري"أحمد عبد العال" في دراسته عن "دفاتر المهمة"، والتي تعد مصدراً لدراسة التاريخ المصري في القرن السادس عشر، قلة العرضحالات في العهد العثماني، ودفاتر المهمة هي ما كان يسجل فيها القرارات الصادرة عن الديوان الهمايوني، حيث أرجع الباحث قلة العرضحالات في العصر العثماني، نتيجة لفرض رسوم باهظة علي الشكوي يلتزم بسدادها مقدم الشكوي، ربما كانت هذه طريقة استحدثها الأتراك لكي يواجهوا بها كثرة الشكاوي الكيدية التي كان يقدمها الفلاحون، إلا أن هذا لم يمنع من أن النظام القضائي العثماني كان يمتاز بسرعة بته في الشكاوي المعروضة عليه، وهذه الرسوم هي التي ورثناها إلي اليوم باسم الدمغة، والمعروفة بثمن العرضحال الذي يتم شراؤه من مكاتب البريد لكتابة الشكوي عليه، أو حتي لتحرير طلب لأداء إجراء معين من جهة، ليصبح الأصل في تعامل المواطنين مع جهة الإدارة هو الشكاية. الجذور التاريخية لفيلم الزوجة الثانية لو كان المخرج "صلاح أبو سيف"(1915 1996م) وقعت في يده محفظة عرضحالات "محمد علي" قبل أن يطلع علي رواية"الزوجة الثانية" تأليف"أحمد رشدي صالح"(19201980م) لكان اعتبر مخرج الروايات التاريخية وليس مخرج الواقعية، فما قام به العمدة "صلاح منصور" من تطليقه ل"سعاد حسني" من زوجها "شكري سرحان" سبق وقام به شيخ بلد قرية "جريج" التابعة للبهنسا، عام1820م، حيث اجبر المدعو"جعفر" علي تطليق زوجته، بعد ضربه وحبسه لمدة ثلاثين يوماً، فيأمر "محمد علي" حاكم إقليم الوسطي، بأنه إذا كان صحيحاً أن شيخ البلد المذكور تسلط علي الشاكي لأجل تطليق زوجته، وانه لعدم تطليقه إياها قبض عليه، وضربه، وحبسه، كما ورد في العريضة، فبعد التحقيق يلزم منع تسلط الشيخ المذكور الواقع علي ذلك الوجه، ودفعه، وأما إذا كانت عريضة مخالفة للواقع فردوا عليه، وإذا كان شيخ البلد هذا لم يتمكن من تطليق زوجة"جعفر"، إلا أن الشيخ"قنديل" استطاع في قرية "خلاقة" بإقليمدمنهور أن يطلق"كريمة عبد الجواد" من زوجها"علي" التابع "لبك مزجي" ويتزوجها بعد أن أجهضوا حملها البالغ ثمانية أشهر، فيأمر"محمد علي" بالتحقيق في الوقائع، وان كانت الأمور تمت نظرا لغياب الزوج حسب احد المذاهب، أو تمت علي مذهب غير موافق للمذهب الحنفي، ففي الحالة الأخيرة يبادروا برد الزوجة إلي زوجها الأول، وتجديد عقد زواجه، وتأديب الذين اجترءوا علي هذا العمل المحرم. الحقوق الأولي للإنسان المصري يعتبر عصر"محمد علي" صاحب الإرهاصات الأولي لتلقي نوعية معينة من الشكاوي عرفت فيما بعد في العصر الحديث بشكاوي انتهاك حقوق الإنسان، والتي ألزم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وجوب فحصها، وحلها، وهي شكاوي انتهاك عساكر النظام لحقوق الفلاحين، فقدم"علي سليم" من قرية "الدلجمون" بإقليمالغربية عريضة يتضرر فيها من أن خيالة الدليل "باشا خضر" استولوا علي نحو سبعين منزلاً من منازل الفلاحين في قريته، وأقاموا فيها، وطردوا أصحابها، وأتلفوا فدانين من القصب، فأمر "محمد علي" بالتحقيق في الشكوي، وان صح ما ورد بها، يقوم الدليل"باشا خضر أغا" بنفسه بإخلاء السبعين منزلاً من جنوده، ويسكنهم في معسكرهم، ويسلم البيوت التي استولوا عليها لأصحابها، فهو لا يرضي عن مثل هذه الأمور، ولا يصح حصولها، كما يفصل"محمد علي" في شكوي"خليل" و"يناكي"، و"ياني" النقاشين التي يتضررون فيها من حاكم الوسطي"خليل بك" الذي لم يمنحهم ما اتفقوا معه عليه لقاء دهان منزله، فيأمر"خليل بك" باستيفاء حق ما تعاقد عليه، بل كثيراً ما شملت تأشيرات"محمد علي" علي الشكاوي الواردة إليه علي عبارة" امنعوا تسلط المذكور عنه"، وكثيراً ما نبه علي الحكام بمنع العساكر من دخول جناين الفلاحين، وغيطانهم، وألا يسلبوا أثمارها، وقصبها، وسائر مزروعاتها، وأخشاب كباريهم، وسواقيهم، حيث انه لا يرضي بمثل هذه الأمور، لذا لزم التنبيه علي رؤساء البلوكات بمراعاة الأصول العسكرية. شكاوي الصالح العام! عرفت مصر في هذه الفترة شكاوي مواطنيها من أجل حرصهم علي الصالح العام، مثل الشكاوي التي كان يتضرر فيها المواطنون من خراب جامع القرية، وهي كثيرة، فقد كان"محمد علي" يؤشر عليها في أول أمره للكاشف المسئول عن الإقليم الذي في دائرته القرية التي تهدم جامعها بأن يبادر إلي إصلاح المسجد، وترميمه علي الوجه اللازم، ويقيد ما يصرف في دفتر الإقليم، ثم بعد أن كثرت هذه الشكوي كان يكتفي"محمد علي" بالتأشير عليها بصيغة"كاشف حسب المعتاد"، ومن شكاوي إصلاح المرفق العام تأتي شكاوي تعطل السواقي الميري، وكان يوافق"محمد علي" علي تمكين واضعي اليد علي الأراضي البور من اجل اعمارها بالزراعة، مثل موافقته علي تمكين"محمد سليم عريضة" من مائتي فدان من أطيان الجنان المخربة بجوار المحمودية بغرض إنشاء قرية في ذلك المكان، إلا أن"محمد علي" اشترط التأكد أولاً انه لا يوجد أطيان مقيدة باسم المذكور في محل آخر، وانه قادر علي اعمار الأطيان المذكورة، وعلي كاشف البحيرة أن يعاونه حسب الاقتضاء، بل انه كانت هناك شكاوي تقدم من رجال الإدارة في الكاشف، كالتي قدمها الشيخ"محمد"، والشيخ"أحمد عريضة" ضد "أحمد" الكاشف لإهماله تنفيذ قرار اعمار قرية "شدرشية" بقبلي المحمودية، قائلاً مماطلاً:"اليوم أو غداً"، فيأمر"محمد علي" انه إن كان صحيحاً أن الوقت يضيع في اعمار تلك القرية كما ورد في العريضة، فليس من المناسب ضياع الزمن في هذه المصالح الخيرية، وعليه فعلي الكاشف"أحمد" أن يعاونهم في أمر الاعمار علي الوجه اللازم بموجب أمره الصادر من قبل. هتاف الشكائين الأصل الشكاية، ولكن قلبت مدها واو، فأصبحت شكوي، والشكوي هي الإخبار عن سوء فعل المشكو في حقه، أو تخبر عن مكروه أصاب الشاكي، ولما كانت الشكوي لغير الله مذلة، فقد عثر د."سيد عويس"(1903 1988م)أول من عمل بمهنة الخدمة الاجتماعية في مصر في الشكاوي التي يلقيها أبناء الشعب المصري إلي ضريح مولانا الإمام"الشافعي" علي ملامح المجتمع المصري المعاصر، حيث اعتمد في مذهبه الفكري علي رصد الظواهر، وتقيدها بالعلم، فذلك هو الطريق إلي مستقبل أفضل، فإن محافظ الشكاوي، والعرضحالات الموجودة في دار الكتب والوثائق القومية تعد مخطوطات المادة الخام لملامح المجتمع المصري، والتي نهيب بالدار نشرها مكتملة بعد تصنيفها، وان يحتوي الإصدار علي نسخة رقمية تسهل البحث والفهرسة حسب مشروع كل باحث، ومجاله، فإن هتاف الشكائين في عرائض أحوالهم، يعد رصداً معاصراً للواقع، ويحمل نبوءة المستقبل. إن عرضحالات الشعب المصري هي لسان الحال الوحيد الذي يكتب تاريخ مصر بحياد، وموضوعية، فهي تاريخ الأنين، والظلم، فعندما يكتب الظلم التاريخ يكون عادلاً فيما يكتبه، حيث يرد عليه الأنين بتمحيص شواهده، فتأتي الأحداث متسقة مع الواقع وترجمان صادق للمستقبل.