كانت الثورة المصرية الوطنية الديمقراطية ضد الاستعمار البريطاني وحكم استبداد القصر وكبار ملاك الأرض وكبار الرأسماليين صناعيين وتجاريين وماليين مأزومة لاستبعاد نظام الحكم للعمل الوطني الشعبي في مواجهة الاحتلال ومن ثم في مواجهة الطبقة المسيطرة، وكلما نهضت الحركة الوطنية ممثلة في الطلاب والعمال والمثقفين والحرفيين للمواجهة وفتح طريق الانتصار واجهت قمعا دمويا وتشريدا قاسيا، حتي جاءت حرب فلسطين وهزيمة مصر والدول العربية المشاركة في الحرب عام 1948 وقيام إسرائيل وضياع فلسطين فأتاحت لتنظيم الضباط الأحرار باستغلال الأوضاع العسكرية المتردية والأوضاع السياسية والاجتماعية المأزومة وقام بانقلابه العسكري في 23 يوليو 1952 والذي تغير اسمه وعنوانه من "حركة الجيش المباركة" إلي "ثورة 23 يوليو المباركة". ضم مجلس قيادة الثورة مزيجا من الاتجاهات السياسية الوطنية المختلفة، الإخوان المسلمون، الليبراليون، الشيوعيون، الوطنيون غير المنتمين لتيارات سياسية أو فكرية، شبه جبهة لا تسمح بتبني نظرية فكرية واحدة ينتهجها جميع أعضاء المجلس. كما كانت التركيبة الاجتماعية لهؤلاء القادة تصفُّهم جميعهم في طبقة البرجوازية الصغيرة بطبيعتها المتذبذبة بين الصعود والسقوط وبوطنيتها ضيقة الأفق وثوريتها قصيرة النفس وأحلامها البرجوازية في الصعود الطبقي علي حساب الطبقات العاملة والشعبية وهي الطبقات الأدني قيمة في نظر القادة. وساد الحس الوطني العام والحماس العام تصرفات المجلس، رافقه الطابع البراجماتي (التجريبي) في العمل العام. وكان الأساس الفكري المسيطر علي القادة، الفصل بين الديمقراطية الاجتماعية والديمقراطية السياسية تحت شعار فساد المرحلة الليبرالية إجمالا بما فيها من رموز وطنية ديمقراطية عانت من تسلط القصر والاحتلال وقاومته قدر استطاعتها البرجوازية الإصلاحية، وحكمت "الحركة المباركة" التي تحولت في أدبيات الصحافة إلي "الثورة المباركة" بعد قوانين الإصلاح الزراعي الشهيرة مبدأين ؛ الأول معاداة الاستعمار والثاني معاداة الجماهير خاصة تنظيماتها وحركتها المستقلتين، فضربت يسارها المتحالف معها ممثلا في بعض التنظيمات الشيوعية ويمينها المتحالف معها ممثلا في الإخوان المسلمين، ساندها بعض المثقفين من أحزاب الأقليات مثل فتحي رضوان من الحزب الوطني القديم والإخوان المسلمون وعلي رأسهم أحمد حسن الباقوري وبعض الشخصيات العامة القانونية مثل عبد الرزاق السنهوري وسليمان حافظ التي مهدت لهم الطريق التشريعي لإحكام القبضة علي الشعب في مقابل المأكل والملبس وبعض من وجوه العدالة الاجتماعية. وهاجم قطاع من المثقفين الليبرالية السابقة علي الثورة بمقولة إن لقمة العيش ممثلة في الأرض والمصنع أهم من "ثرثرة المثقفين" تعبيرا عن رفض الحركة الفكرية والثقافية المتألقة منذ ثورة 1919 . حتي أنهت هزيمة 1967 ثورة 23 يوليو موضوعيا، تاركة درسا مفاده أن التفريط في الديمقراطية السياسية مقابل بعض المكاسب الاجتماعية مهما علا شأنها فإن هذه الديمقراطية الاجتماعية ذاتها لن تجد من يحميها إذا تم الاعتداء عليها، وأن التفريط في إحداها ينتهي إلي فقدان الاثنين معا، لأنها مثلت إنجازات إدارية فوقية لم يشارك الشعب الحر في صنعها وإنما تلقاها من الزعيم الحاني، وآلت 23 يوليو ابتداء من السبعينات إلي استيلاء الجناح الكومبرا دوري من أجنحة السلطة علي الحكم معلنا التبعية للولايات المتحدة وإسرائيل ومناهضة حركة الطبقة العاملة والحركة الطلابية والحركة الوطنية عموما في مصر بل والحركات الوطنية في العالم أجمع وعلي رأسها الحركة الوطنية الفلسطينية. الاهتمام بالمثقف كان اهتمام الثورة بالثقافة والمثقفين واضحا من الدقيقة الأولي في عمرها، إذ اختارت ثم استنبتت مثقفيها علي أرضية "الكل في واحد" والتنظير لفصل السياسة عن الاقتصاد والمجتمع. ويذكر لها أنها فتحت أبواب التعليم بالمجان للشعب مع حرمان الطلاب من اتحاداتهم المستقلة وخصصت للثقافة وزيراً متنوراً (ثروت عكاشة) لازمه مساعد من العسكر (يوسف السباعي) كان الواسطة بين القيادة والمثقفين، أقام مؤسسات ثقافية مهمة مثل قصور الثقافة ومؤسسة السينما وهيئة الكتاب، وأنتج اهتمامها بالتصنيع القائم علي تقليص الواردات أن قامت "ثقافة المصنع" بجانب "ثقافة الحقل" وانطلقت الأولي من السد العالي والكهرباء ومئات المصانع وأنتجت تشغيل المرأة واتساع حجم الموظفين والطبقة العاملة مع السيطرة التامة علي نقاباتها التي ألحقت بمؤسسات الحكم، ناهيك عن تنظيمها الثوري الذي تم نفيه تماما، وهو تقليد مازال قائما مع انتقال السيطرة الطبقية إلي حكم الكومبرادور. وقبل المثقفون الثوريون إغواء السلطة ونظَّروا لاشتراكيتها المزعومة وروجوا للزعيم الملهم، ونسوا طبقتهم العمالية التي كانوا يمثلونها والطبقات الشعبية التي طالما تغنوا بها. وراحت طبولهم تدق في حفلات السلطة علي أنغامها وضبطوا تنظيراتهم علي نوتتها الموسيقية، حتي أفاقوا بعد هزيمة 1967 وراحوا يلملمون أشلاءهم، لكن كان الدمار قد أصاب الطبقة العاملة والطبقات الشعبية والحركة الاشتراكية والحركة السياسية بصفة عامة. وأجدب الشعب. وتلفت المثقفون حولهم وخلفهم فوجدوا أنفسهم عنصرا داخل عناصر عديدة متنافرة، وطنيين علي شيوعيين علي إخوان مسلمين، ليبراليين علي فاشيين في تنظيم واحد هو الاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي وتحت شعار واحد "الاتحاد والنظام العمل" ثم "حرية اشتراكية وحدة" ومن الاشتراكية الديمقراطية التعاونية إلي الاشتراكية العلمية الناصرية الواقعية. ويصيبك الجنون عندما تعلم أن الشهيد الاشتراكي شهدي عطية الشافعي الذي استشهد في سجن أبو زعبل عام 1959 من التعذيب الناصري مات وهو يهتف بحياة عبد الناصر، ويعترف صلاح عيسي بعد هزيمة 1967 "أننا كنا نلهث وخلفنا مخبروه نهتف بحياته دون أن ندري، كما فعل شهدي عطية الشافعي وكما وقف أحمد عبد المعطي حجازي وهو في زنزانته يهتف بحياته لأننا هزمنا حين هزم" (الأهالي 6/8/2008). درس حزين الدرس الحزين المستفاد من "ثورة" 23 يوليو هو أن التنازل عن الاستقلال في العمل السياسي يؤدي إلي كوارث تاريخية تصل إلي حد "الجرائم" من المتنازلين وأن المقايضة علي الحريات السياسية والنقابية مع أي سلطة حتي لو كانت وطنية أو اشتراكية هي الضياع بعينه حيث أن البرجوازية في العالم الثالث في أغلبها لم تعد وطنية وراحت تقدم تناقضها مع الطبقة العاملة والفلاحين والطبقات الشعبية علي تناقضها مع الاستعمار، كما أن البرجوازية الحاكمة التي تبدأ برجوازية صغيرة لابد أن تتطور بحكم تطور رأس المال إلي أن يحكم جناح البرجوازية الكبيرة ويهيمن علي باقي الأجنحة بل وقد يضطهد المنظمات السياسية للطبقة الوسطي والبرجوازية الصغيرة كاضطهاده لمنظمات الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء. والبرجوازية الحاكمة في العالم الثالث تميل إلي الاستبداد لأنها تمارس استغلالا فاحشا للطبقة العاملة والفلاحين والطبقات الشعبية مواكبا للاستغلال الإمبريالي العالمي لنفس الطبقات فيصبح الاستغلال مزدوجاً. والإرهاق الطبقي الشديد ينتج مواجهات حادة مع نظام الاستغلال الرأسمالي لا تجد وسيلة إلا قمعه بضراوة يساعدها القوي الإمبريالية والصهيونية حتي لا تصل مواجهة الطبقات الوطنية إليها فتفتح باب التحرر الوطني والتحرر الطبقي اللذين هما متلازمان ولا يجوز الفصل بينهما. لم يبق من 23 يوليو إلا انكسار الحركة الوطنية والشعبية وتبعثر الحركة الاشتراكية والحركة العمالية النقابية وخرس الشعب.