لم تكن عزة بلبع مجرد فنانة عادية، بل كانت دوما محرضاً سياسياً شعبياً ثائراً علي ما آلت إليه أوضاع الأمة من مآس وتخاذل وتآمر وسلب لحقوق الملايين من أبنائها الفقراء والكادحين. هذه العربية، الغاضبة، الملتهبة ألما وحماسا، تصرخ بأوجاع أمتها بعد أن خملت وتعطلت أجهزة إحساسنا العصبية و بعد أن توالت النيران في البيوت العربية بيتا إثر الآخر ونحن غارقون في خدر اليأس واللامبالات، لم تغني (عزة بلبع) بميوعة أغاني الغرام المبتذل وتأوهاته المصطنعة في صالونات الترف البرجوازي الزائف والمخادع...ولا في إستديوهات الطرب التافه والرخيص بايقاعه الفوضوي الصاخب والمراهق ، مع الفنانة عزة بلبلع كان لل«القاهرة» هذا الحوار: اللقاء الأول متي كان أول لقاء جمعك بالشيخ إمام ؟ - التقيت الشيخ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم سنة 1975 في ندوة بجامعة الإسكندرية، ثم التقينا مرة ثانية في إحدي الجلسات التي كان يغني فيها الشيخ إمام لأصدقائه من المثقفين، وكنت موجودة بالصدفة واستمعت اليهم وطلب هو أيضا أن يسمعني عندما عرف أنني أغني وأعجب جدا بصوتي وشجعني علي الاستمرار في الغناء حيث استحسن صوتي وبدأت بعد ذلك رحلتي معهما من بداية 1976 حيث استمر حضوري كل حفلاتهما وعندما حفظت اغنيتين للشيخ إمام وقدمتهما للطلبة لم أكن أتوقع رد الفعل بهذه الصورة التي أرعبتني والتي لم تكن متوقعة علي الاطلاق، وعندها شعرت أنني أغني بالفعل من أجل هدف، وتأكدت ان لصوتي دورا لا بد أن يقوم به، وليس الغناء من اجل الغناء، وتأكدت معه أن الغناء دور ورسالة . البعض اعتبر الشيخ إمام رجلا ذا حس موسيقي ولكنه ليس ملحنا بالمعني المعروف، ما رأيك ؟ -لا يوجد متخصص موسيقي في مصر يمكن ان ينعت الشيخ إمام بذلك أو حتي يشكك في قدراته الفنية، لأنه بالفعل كان ملحنا كبيرا ومتنوعا لدرجة لن تتكرر، حيث قدم كل الأشكال الموسقية، وكان من القلائل الذين أضافوا للموسيقي فالشيح إمام جمع ما بين الأشكال القديمة التي تربي عليها موسيقيا مثل الدور والطقاطيق والديالوج ما بين المغني والكورس ، وهو ليس حوارا بالمعني المتعارف عليه قديما عندما كان المطرب يقول جملة غنائية فيرددها الكورس بعده ، انما الأمر اختلف مع الشيخ إمام الذي كان يقول جملته بينما الكورس أو الجمهور أحيانا يردد جملة غنائية مختلفة تماما، فعندما يقول : باصلي علي النبي قبل البداية .... يردد الكورس : يا شعبنا العربي يابو الفوارس أي ان الجملة الخاصة بالكورس كانت مختلفة، فالحوار صريح في المعاني واللحن بين المغني والكورس وهو مالم أشاهده من قبل وحتي وقتنا هذا، وأعتبرها اضافة كبيرة للموسيقي أن يشارك الجمهور في اللحن والغناء ليصبح له دور فعال مع المطرب بعيدا عن الشكل التقليدي، وبالإضافة إلي ذلك كان الشيخ إمام مدرسة تعبيرية تمسك هو بها مثلما فعل الشيخ سيد درويش عندما جمع بين الأدوار القديمة والتعبيرية في الغناء كما في أغنية بلادي بلادي، وقوم يا مصري . أساتذة كبار ولكن هل درس الشيخ إمام الموسيقي علي يد أساتذة كبار أم أن الموضوع كان مجرد هواية وأذن موسيقية ؟ -الشيخ إمام درس علي يد الشيخ درويش الحريري الذي تعلم علي يديه عبد الوهاب والشيخ علي محمود الست فتحية أحمد مطربة القطرين أيضا فنان الشعب سيد درويش، الذي أخذ عنه شوية بعض أعماله عندما جاء إلي القاهرة والشيخ درويش الحريري كان شخصية قَلَّ أن توجد في أمة أخري غير الأمة العربية، هذا الرجل كان عنده ربع في باب الوزير، عبارة عن بيت كبير جدا مليء بالعنابر وكان الشيخ متخصصا في التقاط المواهب من المكفوفين في الشارع ويعلمهم ويطعمهم ويعطيهم مصروفا أيضاً وكان يقول لهم : " يا أولاد الحقوا خذوا اللي جوايا قبل ما أروح به القبر " هكذا كان الشيخ إمام كالشجرة ومع ذلك لم يكتب عنه أحد ولم تعد عنه سهرة تليفزيونية أو فيلم، لأنهم مشغولون بأشياء أخري. لقد ظلت موسيقي الشيخ إمام تتطور بداخله دون أن تجد منصة تنطلق منها، كان الخزين اللحني يتسع ويضيف إلي الموجود القرآني والديني، أصوات الحواري وأغاني الأطفال وترنيمات الأمهات. هل كانت الظروف السياسية في الستينات والسبعينات هي السبب في شهرة الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم حتي أنهما كانا صوت الجماهير في فترة زمنية ما ؟ -التقي الثنائي نجم والشيخ إمام في بداية الستينات ولكن دورهما الحقيقي بدأ بعد نكسة 67 ، مثلما ظهرت أشياء أخري كثيرة في أعقاب النكسة، وكان الثنائي نجم وإمام قد ظهرا دفاعا عن الانسان المهزوم، أي أنهما كانا نتاج الظروف السياسية التي حدثت في هذا الوقت وهي كانت قاسية، فكان صوت الشيخ إمام قد بدأ يعلو معبرا عن مرارة الهزيمة ، ومدافعا عن الانسان في هذا الوقت وفي ظل هذا الظرف القاسي . ودعني أخبرك أننا كنا نسكن في حجرة واحدة أنا ونجم والشيخ إمام كان يسكن في حجرة صغيرة بجوارنا، وكان يأتينا أكثر من ثلاثين أو أربعين مسلحا ليأخذوا الشيخ إمام ومثلهم ليأخذونا وكأننا مسلحون . التأثير علي الشعب كيف أثرت أغاني الشيخ إمام في الشعب المصري خاصة والوطن العربي بصفة عامة ؟ -رغم ان الاعلام في هذا الوقت لم يكن بالصورة الموجود عليها الآن من فضائيات وستالايت وانترنت، إلا ان جمهور الشيخ إمام لا يمكن حصره حصره في بقعة معينة سواء في مصر أو خارجها، ولذلك أدرك هذا الجمهور السبب الحقيقي وراء سجن نجم والشيخ إمام، ففي الفترة من 76 إلي 81 كانت مرحلة امسيات كمشيش ومظاهرات 77، والقضية العسكرية الشهيرة بقلب نظام الحكم، واثارة الفتنة بين الطبقات الشعبية وهي القضية التي اتهم فيها الشيخ إمام، بينما كان اتهام نجم بإهانة رئيس الجمهورية وحكم عليه بالسجن لمدة عام ، وعندما سجن الثنائي معا ظلا يمطران النظام بأغان مثل القذائف، فعندما يضيق نظام ما علي مبدع تتسع آفاق ذلك المبدع، فهذه قاعدة لا يريد أن يفهمها المتعسفون وهي قاعدة لم تستثن الشيخ إمام ولا أحمد فؤاد نجم، في سجن القلعة الرهيب. بلغ إمام ونجم مدارات جديدة، بالاحتكاك اليومي الوجودي بالمثقفين في زنزاناتهم كبرت أغاني الشيخ إمام واتسعت لتشمل الهم الفلسطيني أولا ثم هموم العالم من فيتنام شرقا حتي أمريكا اللاتينية غربا وصدحت الزنزانات في سجن القلعة بتمجيد هوشمن وتشي جيفارا. وقبل أن يدخل السجن، ثم من وراء القضبان ظل الشيخ الأعمي يغني حتي وصل صوته إلي العراق وسوريا والجزائر واليمن والأهم من ذلك وصل الأرض المحتلة وتلقفت أغانيه جموع الفلسطينيين في الداخل والخارج وفي المخيمات وصار إمام وسيظل لعقود مغني الشعب الثائر المنكوب، ويروي نجم كيف أن أبا عمار حاول أن يتوسط لدي الزعيم المصري لإطلاق سراح الاثنين وكيف رفض عبد الناصر، مصرا علي بقائهما في السجن طيلة حياته وبهذا تحول المقرئ الأعمي إلي خطر يهدد الدولة. وقد أوفي النظام بوعده وظل إمام ونجم سجينين حتي مات عبد الناصر، انتهي النظام الذي هاجماه، وهنا تبرز علامة مهمة في فن إمام وهي أنه لم يكن يعارض شعارات عبد الناصر بل ممارساته، حتي جاء عهد جديد وجدا في قائده أنور السادات رجلا يكرهان شعاراته وممارساته جميعا، كان السادات الضد من عبد الناصر رغم أنه تعهد في البداية أنه سيسير علي خط الراحل، هنا يقول المصريون إنه كان يسير علي خط ناصر ولكن بممحاة أو أستيكة. في هذه الفترة زادت وتيرة التلحين والتوقيع وصار إمام يحضر المهرجانات الحاشدة وينعم بحرارة التلاحم مع الآلاف وتخلي عن انكماشه الذي أملاه العمي صار يسافر إلي مواقع الحشود دون رفيقه نجم الذي كان مطارداً مختبئاً ثم سجينا لأكثر من ثلاث سنين. خلاصة القول إننا حكم علينا بالسجن من أجل الغناء وكنا أول من سجن في العالم العربي من اجل الغناء ، كنا ناقمين علي النظام وعلي كامب ديفيد ولكن والحق يقال لم يكن هناك تعذيب بالسجون والمعتقلات في هذه الفترة، والآن في كل عام عندما أقوم بإحياء ذكري رحيله، أجد كثيرا من جيل السبعينات الذين لديهم حنين إلي أغاني الشيخ والذين عاصروه مرحلة توهجه وابداعه، بالاضافة إلي الأجيال الجديدة من الشباب الذين لم يعاصروه وهم موجودون في كل مكان الآن وخاصة علي الانترنت، وأعتقد انه لو كان موجودا بيننا الآن لجمع حوله جماهير من كل صوب وحدب ومن مختلف الأعمار . قيل إن الشيخ إمام كان من أفضل من ارتجل في الغناء والألحان ، فما حقيقة ذلك ؟ -كان الشيخ إمام يأخذ الأغاني ويقوم بتلحينها، ولأنه مدرب جيدا علي يد مشايخ وكبار الموسيقيين، ولديه القدرة علي الطرب والتطريب ، كان له حق الارتجال، وهو غالبا يأتي بعد ان يكون قدم المطرب اللحن مئات المرات وأدرك كل تيمة موسيقية فيه وكل قطعة لحنية ويعرف قدرات صوته جيدا وطبقاته المتنوعة فهو الأجدر بالارتجال هنا، وهي قدرة لا تتوفر في كثير من المطربين وربما تميز فيها من أبناء جيلي علي الحجار ومحمد الحلو، وأتذكر أنه في إحدي المرات اكتشفنا اننا ممنوعان من السفر ورجعنا من المطار فكتب فؤاد نجم أغنية " ممنوع من السفر، ممنوع من الغنا ، ممنوع من الكلام" وقد لحنها الشيخ إمام في أقل من 10 دقائق .