سؤال كان يجب أن أوجهه لنفسى قبل أن أوجهه لك . على أى الأحوال فلنوجه هذا السؤال إلى كل منا ، ولنحاول الإجابة عليه معاً .. وقبل أن نبدأ فى الإجابة لابد وأن نحدد معاً ما هو العقل ؟ العقل هو أداة التفكير وآليته ، إن لم يكن هو التفكير ذاته ، فمعنى أن تفكر فى أمر ما ، هو أنك تعمل عقلك فى هذا الأمر .. وأيضاً معنى أنك تُعمل عقلك فى أمر ما هو أنك تفكر فيه .. وأيا كان مستوى الدقة فى ذلك بأن العقل هو التفكير ، أو أن التفكير هو أداة تشغيل العقل وآليته ، فالمعنى المقصود هنا هو أن استخدام الإنسان لعقله يعنى أنه يفكر . والتفكير هو القيام بتجميع ، وحصر ، وتصنيف ، وتمييز ، وتحليل ، وتفسير المعلومات التى تم الحصول عليها من خلال الحواس عند مواجهة الإنسان لأى موقف ، أو محاولة الإجابة على أى سؤال ، وذلك باستخدام الخبرات السابقة ، والمعارف والمهارات المتاحة لديه كأدوات وآليات ومحفزات لتعميق التفكير وصولاً إلى نتيجة محددة ، قد تتمثل فى إنجاز ما ، وقرار ما ، وإجابة على سؤال كان يبحث عن الإجابة عليه قبل أن يُعمل الإنسان عقله بالتفكير . هذا هو العقل ، وهذا هو التفكير بشكل عام ، حيث لا يمكن أن نتصور حياتنا دون العقل والتفكير فهما ما نواجه بهما كل صعوبات الحياة ومشكلاتها ، وبدونهما قد يصاب الإنسان بالشلل والجمود والتوقف والعجز التام فى مواجهة مواقف ومشكلات الحياة ، وقد يصل الأمر إلى خروج الإنسان منها إذا ما فقدهما ، فالعقل هو القائد الذى يوجه السلوك القائم على الاختيار بين البدائل التى يتم بحثها وتحليلها وتفسيرها بالتفكير الذى هو أداة العقل وصولاً إلى السلوك أو الفعل المناسب ، والفعل المناسب هو ما يحقق المنفعة والإشباع للفرد وللآخر معاً . وهو ما يعنى أن العقل والتفكير لابد وأن يختلفان من فرد إلى آخر ، لأن الاختيارات لن تكون صحيحة فى كل الأحوال وفى كل المواقف بين كل البشر ، بل قد تخطأ وقد تصيب حتى على مستوى الفرد الواحد .. وفقاً لمدى استخدام هذا الفرد لعقله ومدى إعمال فكره ، إلى جانب مدى ما يملكه من مخزون من الخبرات والمعارف والمهارات حول الموقف ، بل وأيضاً مدى تركيزه باستخدام حواسه فى تجميع أكبر قدر من المعلومات حول الموقف . وهنا تكون المشكلة ، فإذا كان ديكارت أبو الفلسفة الحديثة ، قد ذكر أن " العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس ، يدرك البديهيات بالحدس ، أى بالإدراك الفورى ، ويصل إلى الحقائق اليقينية ، فلنثق فى الله وفى العقل ولنرفع الوصاية عن الإنسان باحثاً عن الحقيقة " . فمن أين يكون الاختلاف بين البشر عند استخدام عقلهم ؟ والإجابة ببساطة ، وهى التى ستحدد إن كنت أنا وأنت وهو وهى عقلاء أم لا ؟ أن الاختلاف يحدث عندما نضع بإرادتنا قيوداً على عقولنا وتفكيرنا تحد من انطلاق العقل والتفكير ، فالصحيح هو أنه لا سلطان على العقل إلا العقل ، كما قال ابن رشد أعظم الفلاسفة الإسلاميين . فالعقلانية هى الاستنارة ، والاستنارة هى رفع الوصاية عن العقل أيا كانت هذه الوصاية ، فمن يملك العقل والحواس يملك كل الوسائل التى تمكنه من إدراك الحقيقة ، واكتساب المعرفة ، دون حاجة إلى أى سلطة تفرض عليه لكى تدله على الحقيقة . · لذلك فأنت عاقل بقدر استخدامك للعقل والتفكير فى معرفة الحقيقة واكتساب المعرفة، دون أن تضع أى قيود على انطلاق عقلك بحثاً عن الحقيقة والمعرفة . وقد يكون ما سبق هو الجانب المعرفى للعقل .. ولكن هناك جانب آخر له قد لا يقل أهمية عن الجانب المعرفى له ، وهو الجانب الثقافى للعقل ، والذى يتمثل فى أن العقل هو الامتناع أو الإحجام عن فعل كل ما يخالف الجماعة ويضر بها ، ويؤدى إلى عدم تواءمك معها ، ورفضها لك . · لذلك فأنت عاقل بقدر تواءمك مع الجماعة ، وبقدر قبول الجماعة وتأييدها وتدعيمها لك . وهنا قد تسأل ، وماذا إذا كانت الجماعة على باطل ، والإجابة هى أننا نتحدث هنا عن جماعتك التى أنت واحد منها ومن نسيجها ، ولا نتحدث عن جماعة أنت بعيد عنها وعن تكوينها . وللعقل جانب آخر بخلاف الجانب المعرفى والبعد الثقافى ، هو الجانب العملى للعقل والذى يظهر ويتجلى بوضوح فى القدرة على القراءة السريعة لمعطيات المواقف المختلفة ، وتحويلها أو الاستفادة منها لتحقيق مصالح ذاتية ، وهنا يكون استخدام آلية التفكير فى التحديد الأسرع للبديل الأنسب الذى يحقق المنفعة الفورية والسريعة ، دون أن تكون على حساب حدوث تدمير وخسائر فادحة فى المستقبل ، ولكنه العقل والتفكير المرتبط باقتناص واغتنام الفرص دون ضياعها . · لذلك فأنت عاقل بقدر ما اغتنمت من فرص فى حياتك دون تردد أدى إلى صياغها والندم عليها . وإلى هنا قد تسأل أنه من الواضح من كل ما سبق وجود علاقة بين العقل والذكاء . والإجابة نعم ، ولكن قبل أن نؤكد هذه العلاقة قد يكون من المناسب تحديد ما هو الذكاء ؟ · الذكاء وفقاً للنظرة التقليدية له ، هو القدرة على التفكير ( إعمال العقل ) ، والاستنتاج المنطقى ، والتوهج العقلى ( التركيز والعمق فى التفكير ، وإعمال العقل ) ، والقدرة على تصنيف ، وتحليل ، وتفسير المعلومات وتخزين هذه المعلومات لحين استخدامها فى الوقت المناسب . ومن هنا كان مصطلح انتلجنس ، والذى يعنى الذكاء هو نفس تسمية أجهزة المخابرات التى غالباً ما يكون جوهر عملها هو تجميع المعلومات وتصنيفها وتحليلها لحين استخدامها فى الوقت المناسب . أما الذكاء ، وفقاً للنظرة الحديثة ، فهو أيضاً القدرة على التفكير وإعمال العقل فى مواجهة الصعاب ، وبما يبلور المهارة العالية للتكيف مع الظروف الطارئة ، ومن ثم القدرة على حل المشكلات فى أسرع وقت وبأقل تكلفة . وقد لا يحتاج الأمر إلى بيان العلاقة بين العقل والذكاء بعد أن أوضحنا ماهية الذكاء . · لذلك فأنت عاقل بقدر ما تمتلك من ذكاء ، وبقدر استخدامك لهذا الذكاء فى التصرف المناسب فى المواقف المختلفة ، وفى إحداث المواءمة التامة والتكيف الفاعل مع الآخرين ، ومع البيئة الاجتماعية المحيطة بك بكل نظمها ومعطياتها . وإلى هنا قد تسأل ، وهل هناك علاقة بين العقل والأخلاق ؟ أو بمعنى آخر هل هناك جانب أخلاقى فى العقل والمعقولية ؟ والإجابة هى أن الجانب الأخلاقى فى العقل والمعقولية لا يظهر إلا فى البعد الثقافى للعقل والذى يتعلق بأن العقل هو أن يلتزم عضو الجماعة بقواعد وشروط الجماعة حتى يكون جديراً بعضويتها ، لذلك يكون الخروج عليها بخيانتها أو إحداث الضرر لها افتقاد للعقل ، وخروج عن الجانب الأخلاقى . وكما أن الجانب الأخلاقى للعقل قد يتمثل فى تلك الرابطة المشتركة والتى تعبر عن الشراكة العامة بين البشر جميعاً ، والتى تولد القواعد والشروط التى يلتزم بها الإنسان الفرد عند انتمائه ليس فقط إلى جماعته بل إلى البشرية ، وهى غالباً ما تتبلور فى عدم إحداث الضرر بالآخر ، والعمل على إسعاده وتطوير حياته نحو الأفضل . · لذلك فأنت عاقل بقدر عقل نفسك ومنعها عن إحداث أى ضرر للآخر أيا كان هذا الآخر . أما عن وجود قيود أو ثوابت أخلاقية عند استخدام العقل والتفكير بخلاف الضرر المتعمد للجماعة التى أنت واحد منها دون مبررات منطقية يقبلها العقل ، وتوافق عليها الجماعة وترضى بها ، فلا وجود لمثل هذه القيود . فالثوابت عند استخدام العقل والتفكير لا يقصد بها أية قيود أو مسائل أخلاقية ، ولكن يقصد بها الفروض التى ستمثل نقاط الارتكاز التى سينطلق منها العقل مستخدما التفكير للتحقق من صحتها . والآن وبعد كل ما سبق أشعر أنك تريد أن تقول لى أننى قد صعبت عليك الأمور ، وأنها قد أصبحت أكثر تعقيداً، وربما قد تقول أنك لا تريد أن تعرف إذا ما كنت عاقلاً أم لا ؟ لذلك سأحاول أن أحدد ما سبق فى نقاط أرجو أن تكون واضحة : * أنت عاقل بقدر التزامك بشروط وقواعد الجماعة التى تنتمى إليها . * أنت عاقل بقدر اختياراتك الصائبة * أنت عاقل بقدر استخدامك لمخزونك المعرفى والمهارى وخبراتك السابقة فى حل مشكلاتك . * أنت عاقل بقدر تواءمك مع الآخرين وحبهم وتقديرهم لك . * أنت عاقل بقدر الأفعال الهادفة التى تحدثها . والفعل الهادف هو الفعل الذى يتسم بثلاث شروط هى النتيجة المحددة مسبقاً، والمنهجية ، والمرجعية . * أنت عاقل بقدر ما تمتلك من ذكاء تستخدمه فى تحقيق مصالحك ، ومصالح الآخرين . * أنت عاقل بقدر ما تسعى إلى زيادة مخزونك المعرفى والمهارى الذى يدعم ذكاءك ، وقدرتك على التفكير السليم . * أنت عاقل بقدر ما ترفع من الوصاية والقيود والعوائق التى يمكن أن تقف أمام انطلاق فكرك وأمام ما يمكن أن تكتسبه من معرفة جديدة تكشف لك حقائق جديدة . والآن هل تعتقد أننى قد أجبت على السؤال السابق هل أنت عاقل ؟ إذا كنت ترى أن الإجابة السابقة كافية وتستطيع أن تحدد على ضوئها إذا كنت عاقلاً أم لا ، فهذا هو المراد والهدف من هذه المقالة ، أما إذا لم يكن ما سبق كافياً لأن تعرف الإجابة ، فلا تتردد فى أن تعلق وتقول أنه لم يكن كافياً ، لنبحث معاً عن تفاصيل أخرى للإجابة عن السؤال هل أنت عاقل ؟ د. محمد كمال مصطفى استشارى إدارة وتنمية الموارد البشرية