...هى صيحة أحد الطغاة المستبدين ، صاغها المولى عز وجل ، تلخص فى كلمات قليلة ، غزيرة المعانى ، نمطا من الحكم ،وشكلا من أشكال الإدارة ،يقوم على احتكار التفكير ،ومصادرة أى رأى آخر ،والحرص أشد ما يكون الحرص على أن يتحول كل المقهورين إلى أعضاء فى فريق موسيقى ؛عين كل عضو منهم معلقة بحركة يد المايسترو لمعرفة أين تتجه ؟ ومتى تتوقف ؟ ومتى تعاود ،ودرجة الارتفاع والانخفاض ،وآيات الانفراج والتضييق لتتبعه " ..لا مانع أن تتنوع آلات العزف ،ولا اعتراض أن يتعدد العازفون ،لكن " الحركة الكلية " ، و" اللحن الممميز " لابد أن يكون هو ما تشير به يد المايسترو ! المشكلة الكبرى هنا تتبدى من جانبين: الأول ، أن القاهر يتصور أنه وحده ، دون خلق الله ، قد أوتى من القدرات ،والبصر الحكيم ،والنظر الثاقب ، ما لم يتوافر لأحد، الثانى ،أن القاهر يسير هنا ضد نواميس الطبيعة التى خلقها الله سبحانه وتعالى ، ويعاندها ، ذلك أن من أظهر وأشهر سنن الله فى خلقه ، " سنة الاختلاف " ،والتباين ، حتى يحتاج كل منا إلى الآخر فيعطيه ما يملكه هو ،ولا يملكه الآخر ، فيتأسس " التعاضد " ،ويتجذر " التساند بين أفراد المجتمع ،وفى الوقت نفسه يشتد " التنافس " فيسعى هذا إلى أن يُريك أفضل ما عنده ،وتسعى أنت إلى أن تثبت له أنك تملك الأحسن ، فإذا بالمحصلة الكلية فى الجماعة البشرية غزارة فى الإنتاج ،وكثافة فى العطاء ، فَتَحَرُّك أضخم فى " المنتج " ، يؤدى إلى تعظيم القدرات المجتمعية . وقد يوحى القاهر للناس أنه يوفر لهم مناخ تنوع واختلاف ، لكنك لو دققت النظر ، لوجدت مثله مثل واحد لا يريد للناس أن يأكلوا إلا " الفول " ، مثلا ، فيُنَوع فى أشكال طهيه ، فهذا " فول نابت " ،وهذا " فول مدمس " ،وتلك " طعمية " ،وهذه " بصارة " ،ولا أحد ينكر القيمة الغذائية لكل شكل من هذه الأشكال ،و" لذة " طعمها ، لكنها ، فى النهاية ، مادة واحدة ، على عكس الحال ، عندما تكون هناك أنواع مختلفة وأشكال متعددة . والجسم الذى يقتصر فى غذائه على نوع واحد ، يأتى عليه وقت يصاب فيه بالضعف ، الذى يتراكم ، حتى يصل به إلى الإصابة بأمراض خطيرة ، تحيل حياته إلى جحيم ، فضلا عن أن يفقد القدرة على المقاومة ، فيرضخ ،ويستسلم ،ويتوهم أن هذه طبيعة الدنيا ،وتلك مشيئة الله ، لكنه ، إن كان صاحب إيمان واع ، فسوف يثق بأن الله لا يُقَدر الظلم لعباده أبدا (...وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108))/آل عمران . إن مجتمع المقهورين ، يمكن أن يشهد عددا كبيرا من وسائل التعبير عن الرأى : صحف ، ومجلات ،وإذاعات ،وقنوات تلفزيونية ،وكتب ،وندوات ، ومؤتمرات ،ودور كتب ،ومعارض ، كما كان الأمر فى البلدان المسماة سابقا بمنظومة الدول الاشتراكية ،وكما نراه حاليا فى الكثرة الغالبة من الدول المتخلفة ،وفى القلب منها الدول العربية ، لكنك ، لو فتشت فى " النموذج المعرفى " الذى يكمن وراء كل هذه الأشكال ، فسوف تجده واحدا ،وكأنه – والعياذ بالله – تعبير عمن يحاول عبثا أن يتشبه بالله ، حتى ليحضرنى تعبير ساخر قاله أحد أساتذة الحقوق ، حيث انتظمت عاما أسعى إلى دراستها ،وكان الرجل فى معرض بيان ما كان عليه فى مبتدأ حياته من فقر ، أنه كان يمتلك " بدلة " ، تتصف بصفتين من صفات الله عز وجل ،وشهقنا شعورا بالفزع فورا ، لكنه ، سرعان ما بدد هذا بكشفه عن هاتين الصفتين ، فإذا بهما هما " الواحدية " و " القدم " ، فضحكنا ، وحالنا يردد " شر البلية ما يضحك " ! ونحن فى غير حاجة إلى أن نقدم بعض الأمثلة العاجلة ، فما من وزير إلا ويردد ،وهو يُظهر الفخر والطاعة ، بأنه إنما يعمل " وفقا لتوجيهات السيد الرئيس " ،ولو سمعت وكلاء وزارته ، فسوف تسمع كل منهم أنه يعمل " وفقا لتوجيهات السيد الوزير " ..وتظل هكذا تتدرج هبوطا ، لتجد فى النهاية أنك أمام نسخ كربونية ، مثلك مثل من يقف فى مكتبة ، يجدها كثيرة الدواليب ، مزدحمة الأرفف ، وغزيرة الكتب عددا، لكنك ، لو فتشت فيما هو موجود ، فسوف تجد هذه الكثرة الضخمة من الكتب ، إن هى إلا نسخ متكررة من كتاب واحد ، فيكون اجترار للأفكار ،ويكون تكرار للآراء ، ليجئ اليوم مثل الأمس ، مثلما كان الأمس كسابقه ، ربما يظل هذا فترة ، ثم تجئ فترة الجمود ، التى تؤدى إلى تخلف ، فموات ، والعياذ بالله !! ثم انظر إلى حال يكون على العكس من ذلك ، فلو كانت الدواليب ربع ما هو قائم ،وكذلك الأرفف ، وأيضا الكتب ، لكن كل نسخة هى لكتاب غير هذا وذاك ، فتوقن أنك بالفعل أمام " مكتبة " تضم ما يصعب حصره من المعلومات ،وما يعسر الإحاطة به من أفكار ،وما قد ينوء به عقلك من استيعاب ، لكنك إذ تقرأ تأخذ فى القراءة ، ساعة وراء ساعة ، ويما وراء يوم ، تجدك قد امتلأت علما ،وتجد غيرك ،وقد أصبح كذلك ، فيحدث احتكاك وتحاور وتفاعل ، فينتج جديد ،ويكشف كل يوم جديد عن مستحدث المعرفة ،ومستجد الآراء ، فإذا بالبلاد تموج بفيضان علم ،وغزارة معرفة ، فتنفتح آفاق كانت مغقلة ،وتنكشف جوانب كانت غامضة ، فتعيش الجماعة تقدما ،وتتنفس نهضة ،وتتغذى رقيا ! أول أمس ( الرابع عشر من شهر ديسمبر 2010) ، كانت " ريم ماجد " مذيعة قناة " أون تى فى "( معذرة لكتابتها هكذا ، فلا نعرف حقيقة إلى ماذا ترمز؟ )،وكانت بصدد حلقة عن مشكلة النقل فى مصر وخاصة بالنسبة لحال " مترو الأنفاق " ،فبجانب وجود أستاذ جامعى متخصص ،وصحفى ، أرادت المذيعة أن تشرك المسئول عن مترو الأنفاق ، فكان الرد أنه لا يستطيع أن يدلى برأى إلا بإذن السيد الوزير ، حيث هو الذى قرر ذلك ، فلما حاولوا الاتصال بالوزير لأخذ الإذن لرئيس هئة مترو الأنفاق " بالكلام " ، وجدوا أن الوزير مسافر ، فذهبوا إلى مكتب أو جهة تنوب عن الوزير ، فقيل لهم أن الوزير لم يخولهم إعطاء مثل هذا الإذن !! ضحكنا ، أنا وزوجتى ،ونحن نشاهد كل هذا ،لكنه ، أخى القارئ مما ينطبق عليه القول المعروف " ضحك كالبكا " !! يحدث هذا ،ونحن نودع العشر الأول من القرن الحادى والعشرين ، حيث تمتلىء الدنيا بملايين الصفحات بوصف العصر بأنه عصر الانفجار المعرفى، وسيولة المعلومات ،وتتردد الشعارات التى تقسن لنا بأننا نعيش أزهى عصور الديمقراطية ..أى والله ! هذا على أعلى المستويات ، فماذا تتوقع أن يكون عليه حال ما يلى ذلك من مستويات أقل فأقل ؟ وماذا تتوقع أن يكون عليه حال " المنتج الفكرى " و " المحصلة العقلية " النهائية ..وهذا فى مجال نقل ،ومقطورات ،وقضبان ،وأسفلت ، فماذا يكون عليه الحال فى مجال الفكر ،والرأى ،والعقيدة ،والسياسات ،والعلاقات الدولية ؟ ساعتها تداعت إلى ذاكرتى الموقعة الشهيرة ، منذ ما يقرب من ثلاث سنوات ، عندما تجرأت تلميذة صغيرة ، فى عمر الزهور ، فصدقت حكاية أزهى عصور الديمقراطية ،وحاولت أن تستخدم عقلها الذى منحه الله لها كى " تُفَعِّلَه " ، فقالت رأيها فى رئيس أمريكا "بوش " ،وكان رأيها مثل رأى كل الناس أنه ملعون ..ملعون ..ملعون ، لكن أول مصحح فزع ، إذ رأى ما لم تتعود عيناه ..رأى كائنا إنسانيا غريبا فى مصر ، يستخدم عقله ؟! ما هذا الفساد ؟ وما ذاك الخلل ؟ إن الثمانين مليون مصرى لا يملكون ثمانين مليون عقلا ،وإنما هو عقل واحد ،فماذا كانت نتيجة استخدام الطالبة لعقلها الخاص تطبيقا لمحاضرات وكتب وبحوث ودراسات نصدع الناس بها ، نحن خبراء التربية وعلمي النفس؟ لقد كانت الرسالة واضحة : دعك من هذا الكلام الفارغ الذى يقول به أساتذة التربية وعلم النفس عن أهمية الابتكار والإبداع والتفكير النقاد ...كان مصير الطالبة ما كان من رسوب!! ،ولما شاعت المسألة ،وظهر للدنيا حجم الجريمة ..جريمة أن توجد طالبة صغيرة تستخدم عقلها ، أخذ كل مستوى يحيل المسألة إلى من هو أعلى منه ، حيث لم تتعود القيادات ممارسة التفكير المستقل ...حتى وصلت الكرة إلى أرض رئيس الدولة كى يصدر – وحده -حكمه بخصوص إجابة طالبة فى الصف الأول الثانوى ، فى مادة التعبير ، فكان الكرم الرئاسى ، بالعفو عن الطالبة ! الغريب فى الأمر ، أن الدولة أقامت – مع ذلك – هيئة قومية لضمان جودة التعليم ،وراح أعلى مستوى فى التعليم العالى ، وزيره ، يبشر ألوف الأساتذة بأنه قرر أن يربط الأجر بالجودة ! تسألنى : وما الغرابة فى هذا ،وهو أمر جيد ؟ فأصرخ فى وجهك على الفور لألعن كل هذا ، حيث يساوى فى حقيقة الأمر " صفرا " فى نظام اهتز وفزع لأن تلميذة فى عمر الزهور ، تجرأت واستخدمت عقلها هى ، لا عقل المدرس ،ولا عقل مدير المدرس ،ولا عقل مدير المديرية ،ولا عقل الوزير ، إذ ما قيمة كل هذه الآلاف من الصفحات عن معايير دجودة التعليم ،وضمان جودته ،واعتماده ، إذا تبددت حرية طفلة فى ، تفكر ،وتعبر عن رأيها ؟ إنك عندما تسمع " كليوبترا " ،و " الجندول " ،و " الكرنك " لمحمد عبد الوهاب ،وتسمع " ولد الهدى " ،و " سلو قلبى "، و " " نهج البردة " لأم كلثوم ، ثم تُكره نفسك – عشان خاطرى – وتسمع الذى غنى للحمار معلنا حبه له ...،وتقوم بمقارنة مماثلة فى مستويات عدة ، فى السياسة ،وفى الأدب ،وفى الصناعة ،وفى الزراعة،وفى الدور الإقليمى ،وفى التعليم ،وفى الدعوة ودور المساجد ،وعلاقات المسلمين والأقباط .... تدرك " المآل " الذى يسير إليه مجتمع ، يتعطل فيه عقل كل مواطن ، أن يفكر وفقا لاجتهاده هو ،ووفقا لرؤاه هو ،وبين مجتمع ، تظلله هذه المقولة الفرعونية (...مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى...)!!