"أكثر ما أردت أن أفعله خلال السنوات العشر الماضية هو تحويل الكتابة السياسية إلى فن، بالنظر إلى الوراء من خلال أعمالي أرى أنني دائمًا حين لا يكون لدي هدف سياسي فإنني اكتب كتبًا لا حياة فيها". هكذا كتب جورج أورويل، في إحدى أشهر مقالاته ليجيب عن تساؤل "لماذا اكتب"، توصل "أورويل" إلى حيث يرى نفسه كاتبًا سياسيًا. يقول عنه أحد النقاد: لم يدع "أورويل" أنه فيلسوف سياسي ولا حتى مجادل سياسي، إنه كاتب، كاتب بشكل عام. كاتب روايات ومقالات وقصائد ومراجعات كتب لا حصر لها، وكلها كانت تنم عن وعي سياسي، وبهذا المعنى يعتبر أفضل كاتب سياسي باللغة الإنجليزية. رواية من تأليف جورج أورويل قدمها في عام 1949، والتي كان يتنبأ من خلالها بمصير العالم الذي ستحكمه قوى كبيرة تتقاسم مساحته وسكانه، ولا توفر أحلامهم وطموحاتهم بل تحولهم إلى مجرد أرقام في جمهوريات "الأخ الأكبر" الذي يراقب كل شيء ويعرف كل شيء، حيث يمثل حكمه الحكم الشمولي. تتحدّث الرواية باختصار عن حياة وينستون سميث، مواطنٌ من دولة أوقيانيا (وهي دولة شمولية كبرى من ضمن ثلاث دول تتقاسم العالم عام 1984 حسب الكاتب) يعيش في لندن ويعمل موظفًا في وزارة الحقيقة، إحدى الوزارات الأربع التي تشكّل حكومة الحزب الأوحد، حزب "الإنج سوك" أو الاشتراكي الإنجليزي، وتقود الحزب والدولة شخصية غامضة تدعى "الأخ الأكبر". يسيطر الأخ الأكبر على جميع تفاصيل حياة سكان أوقيانيا، الذين يعيشون تحت المراقبة المستمرة طيلة حياتهم، ويتحكّم بمشاعرهم ويلغي أغلبها مع إبقاء الغضب والكراهية والشك بالذات وبالآخرين. فالرواية تصور أربع وزارات، وزارة الحقيقة التي تزوّر الحقائق وتبتدع الأكاذيب، ووزارة الحب التي تسوم النّاس العذاب وتناهض العلاقة الجنسيّة بالمطلق، وكذا وزارة السلام المختصّة بشئون الحرب والأسلحة، ووزارة الوفرة التي تعني بتجويع النّاس، و"الأخ الكبير" الشخصيّة الغامضة والزعيم الأوّل الذي يأتي في قمّة هرم الحزب، يليه أعضاء الحزب الداخليّ فالخارجيّ وأخيرًا عامّة الشعب من الكادحين، أمّا شعارات الحزب فممثلة فيما يلي: "الأخ الكبير يراقبك"، "الحرب هي السلام..الحريّة هي العبودية..الجهل هو القّوة"، "من يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل، ومن يسيطر على الحاضر يسيطر على الماضي". رواية الأنظمة الشمولية.. الرواية تصف العقل المفكر للحزب أو للدولة ذات التوجه الرسمي الواحد. كيف يتصرف مع السكان وكيف يستحوذ على عقولهم إما برضا منهم أو رغمًا عنهم. وبحسب الرواية، فإن النظام الذي قام بخلقه جورج أورويل موجود في غالبية النظم الديكتاتورية في العالم قديمًا وحديثًا، أي أنها تنطبق على الدول ذات الحكم الواحد بلا استثناء، إن مشاهد التحقيق والتعذيب الذي مر بها سميث هي نفسها سلطة القمع التي تصادر حرية الإعلام وتفرض وجهة نظر واحدة يجب أن يتقبلها. ونقرأ من الرواية: "أما كم مرة أو كيف يمكن أن تخترق شرطة الفكر حياتك الخاصة فهذا أمر لا يمكن التنبؤ به، وإن كان من المفروض أنها ترصد الناس جميعًا بلا انقطاع، إذ باستطاعة هذه الشرطة أن تدخل، متى شاءت على خط أيًا كان". لذلك على المواطن هناك "كان عليه أن يعيش مفترضًا أن كل صوت يصدر عنك مسموع وأن كل حركة مرصودة". لقد وصف جورج أورويل بشكل دقيق تحول القيم البشرية إلى أشياء هامشية، ومن ثم سطوة الأحزاب السلطوية والشمولية على الناس والشعوب ليكونوا مجرد أرقام هامشية في الحياة بلا مشاعر ولا عواطف، وليس لديهم طموحات أو آمال، حيث يعملون كالآلات خوفا من الأخ الأكبر ولينالوا رضاه لأنه يراقبهم على مدى الساعة. كان الحزب يعتقد أن البشرية هي الحزب نفسه، وما عدا ذلك فهو معدوم الأهمية وخارج نطاقها، لكن صوت المعارضة الذي يمثله سميث كان يقول: في النهاية سوف يهزم العامة الحزب، ويرونه على حقيقته آجلا أو عاجلا قائلا: إنني موقن أنكم ستفشلون، ففي هذا العالم شيء لا أدري طبيعته، ربما يكون روحًا أو مبدأ لن تتغلبوا عليه مطلقًا. كانت هذه الرواية في وقت من الأوقات تعد ثورية وخطرة سياسيًا؛ مما أدى إلى منعها من المكتبات في عدد من الدول التي كانت محكومة بحكومات شمولية كروسيا وحتى غيرها من الدول. هذا وقد اختارت مجلة التايم الرواية كواحدة من أفضل مائة رواية مكتوبة بالإنجليزية منذ عام 1923 وحتى الآن، وقد تم ترجمتها إلى 62 لغة. مواطن مقهور ينتفض.. تدور أحداث رواية 1984 في "المستقبل" في مدينة لندن عام 1984 حيث وينستن سميث موظف ذو 39 عامًا من العمر وهو يعمل موظفًا في وزارة الحقيقة أي أنه صحفي يراقبه رجال الشرطة ويراقبه جيرانه رغم أنه ليس مجرمًا وليس ملاحقًا ولكن الرقابة نوع من السلوكيات اللاإرادية التي يقوم بها الجيران ضد جيرانهم، لذلك يصبح سميث تحت عين أوبرين صديقه وعضو الحزب الذي يراقبه عن كثب. يميل سمث إلى زميلته في العمل جوليا التي ترتدي حزامًا قرمزيًا الذي يرمز إلى عضويتها في الاتحاد ضد الجنس الآخر، والقاسم المشترك بينها وبين سميث هو كره الحزب الذي يمنعهما من الالتقاء أو الزواج ولكنهما يلتقيان سرًا، وعندما يكتشف أمرهما يرسلان إلى وزارة الحب التي هي نوع من مراكز التأهيل للعودة إلى حياة الوحدة دون حب الآخر ويفصل سميث عن جوليا، بل يتعرض لتعذيب نفسي شديد وعبر صور مرعبة وتحت هذا الضغط الشديد يصرخ سميث مطالبًا بمعاقبة جوليا حبيبته. وضع أورويل في 1984 بعض الرموز منها حزام سكارليت وهو شعار اتحاد ضد الجنس الآخر، يرتديه أعضاء الحزب ليعطيهم شعار العزوبية ولكنهم مشوشين من الداخل، كما هناك الرمز 101 وهي غرفة تعذيب نهائية في مركز التأهيل بوزارة الحب، ويقابلها وزارة الحقيقة وجميعها رموز وهمية؛ لسلب الإنسان إنسانيته وتحويله إلى رقم في قطيع بشري. وبلغة بليغة يصور "أورويل" الحوار الدائر بين أحد المحققين وبطل الرواية، يقول المحقق: "إن ذلك هو العالم الذي نعدّه يا ونستون، عالم يتألف من نصر تلو نصر ونشوة تلو نشوة، وهو ما يمثل ضغطًا قويًا على عصب السلطة. إنني أعتقد أنك بدأت تدرك ما سيكون عليه العالم، ولكن في النهاية سيطلب منك ما هو أكثر من الإدراك، سوف يطلب منك أن تقبل هذا العالم وترحب به وتصبح جزءًا منه". لكن ونستون اعترض قائلا: "إنكم لن تستطيعوا خلق عالم كالذي وصفته فذلك حلم يستحيل تحقيقه، لأنه من المستحيل أن تؤسس حضارة على الخوف والكراهية والقسوة، فمثل هذه الحضارة إن وُجدت لا يمكن أن تبقى، لأنها ستكون خلوًا من أي حيوية ومن ثم ستتفسخ وتنهار من داخلها". كُتبت الرواية بطريقة تنبؤية، عن مجتمع شمولي يخضع لدكتاتورية فئة، تحكم باسم "الأخ الكبير" الذي يمثل الحزب الحاكم، ويبنى سلطته على القمع والتعذيب وتزوير الوقائع والتاريخ، باسم الدفاع عن الوطن والبروليتاريا. حزب يحصي على الناس أنفاسهم ويحوّل العلاقات الإنسانية والحب والزواج والعمل والأسرة إلى علاقات مراقبة تجرد الناس من أي تفرد، وتخضعهم جميعا لنظام واحد، لا ينطبق على مسئولي الحزب. إنّ ما يقدّمه جورج أورويل في روايته 1984 هو التصور المحتمل للعالم في اللحظة التي يكون فيها النسيان فعّالا، هذا النسيان الذي يكرّسه النظام القمعيّ المستبد تجاه الإنسان كهالات فكريّة وذاكرةٍ تاريخيّة وتجريد العقل الذي يناط به الخلقُ والإبداع، إلى قوالب آليّةٍ تستمد وقودها من أيديولوجية الحزب الأوحد وحتميّة حب الأخ الكبير. ففي مجتمع يستشري فيه الخوف المستديم من طرف المواطنين لخطرٍ محتمل الوقوع، مجتمع تُصادر فيه الحقوق وتُنتهك الحريّات وتكبت فيه كل محاولة للتفكير. مجتمع الشموليّة والطبقيّة والاستبداد، مجتمع شرطة الفكر والترصد والرقابة والمتناقضات. مجتمعٌ ينتهي به الماضي بالأمس، ويجهض فيه الغد، مجتمع مواطنوه بلا ظلٍ ولا أبعاد. تغدو فيه الحياة على نحو رتيب خالٍ من المعنى، مفرغٍ من الحياة. يذكر أن أحد النقاد قال بعد قراءة الرواية: أورويل في عمله هذا ليس لديه أي أمل، لا يترك للقارئ أي ارتعاشه فتيل من الأمل. هنا دراسة في التشاؤمية لا تسمح بالارتياح أو الاستبدال إلا بفكرة أنه إذا كان الإنسان قادرًا على تصور 1984، فإنه يستطيع أيضًا أن يتجنبه. لكن هذا غير حقيقي، فقد كتب "أورويل" على لسان سميث: إن كان هناك من أمل، فالأمل يكمن في عامة الشعب. من هذه الكتلة البشرية يمكن أن تنبعث القوة القادرة على تدمير الحزب. لا يمكن إسقاط الحزب من داخله. فأعداؤه، إن كان له أعداء أصلا، لا يمكنهم أن يجمعوا صفوفهم أو حتى أن يتعارفوا. أمر الانتفاضة يعرف من نظرة في العيون أو نبرة في الصوت أو في الغالب بكلمة يُهمس بها من وقت لآخر. لذلك لو أمكن لعامة الشعب أن يدركوا مدى قوتهم لما كانت هناك حاجة للتآمر، فكل ما يحتاجه الأمر أن ينتفضوا مثلما ينتفض الحصان لإزاحة الذباب بعيدًا عنه. ولو أرادوا لمزّقوا وأحالوا الحزب هشيمًا تذروه الرياح بين عشية وضحاها، ولا بد أن يخطر لهم ذلك إن عاجلا أو آجلا..