بين جبال تركب جبالا أي غواية في رياضة تسلق الجبال؟.. وماذا عن جبروت الطبيعة بين الواقع والخيال الروائي ؟! أسئلة الجبال وغوايتها كثيرة على إيقاع الحادث المآساوي لمتسلقة الجبال المصرية هبة الحسيني التي قضت مؤخرا عندما اختل توازنها أعلى قمة جبل طوبقال المغربي لتهوى داخل فجوة عميقة بمنطقة شديدة الوعورة فماذا يغري في هذه الجبال وتلك الأصقاع المخيفة"! أي غواية تشد البعض لقطع مسافات طويلة وربما قارات بأكملها من أجل تسلق الجبال؟ وأي سحر في معانقة الخطر؟!..طرق تتلوى بين سفوح منعزلة صوب جبال انطوت على أسرارها العتيقة وقصص مغامرين بعضهم يبحث عن سر الوجود ومغزى رحلة الإنسان في دوامة لم تتوقف منذ آلاف السنين! من أعالي الجبال العظمى والقمم المرعبة تطرح أسئلة الحياة والموت والحزن الأبدي وتبدو الأرض ضئيلة وقد تتجلى نسبية الأشياء بصورة افضل وتتوالد رؤى جديدة عن هذا العالم الملغز وتختلف حتى الرؤية للذات. ويبدو أن هبة الحسيني كانت محترفة لتسلق الجبال وإلا فكيف عرفت طريقها لقمة جبل طوبقال جنوب مدينة مراكش وتسلقت الجبل الأطلسي الشامخ بارتفاع يتجاوز أربعة آلاف متر حتى قمته قبل أن تهوى من حالق وتستقر في فجوة عمقها 400 متر ؟! ونسبت تقارير لمتسلقة جبال مغربية تدعى بشرى بايبانو قولها إن "تساقط الثلوج على قمة الجبل ساعد على انزلاق هبة الحسيني التي كانت تلتقط صورا من أعلي قمة طوبقال" فيما يعيد هذا الحادث للأذهان حادثا مآساويا آخر وقع في شهر فبراير الماضي في سانت كاترين بسيناء رغم اختلاف التفاصيل. وعبر طريق يخترق الجبال في المكسيك من الشمال إلى الجنوب تحت الغيم مباشرة وفي مناطق هنود المايا التي سجلتها منظمة اليونسكو في قائمتها العالمية للتراث الإنساني يقول الكاتب والروائي السوري الأصل خليل النعيمي المقيم في فرنسا والمولع بأدب الرحلات:"مساء الجبال مجحف بحق الحياة ومخيف". وفي نصه الطويل الذي اختار له عنوان "رحلة إلى المكسيك" يضيف الدكتور خليل النعيمي الذي يعمل في باريس كطبيب جراح:" في قمم الجبال المحلقة تحس أن حياتك تشبه إلى حد بعيد حياة عصفور بائس. القمم البعيدة تبدو خيالات سوداء تمضي اليك بهدوء ولكن بتصميم لكأنها تريد أن تدكك وتتهيأ لكي تصرخ ولكن بمن تستغيث وبأية لغة"؟!. ويواصل النعميمي سرده ليقول:"بعد ست ساعات من السير انهينا صعود الجبال وها نحن إذ نبدأ هبوطها كان الليل قد استقر في السفوح منذ أكثر من ساعة" فيما يكشف طرفا من غواية الجبال رغم مخاطرها بقوله:"جئت إلى سان كريستوبال مترددا وستسحرني هذه المدينة المتمددة فوق سفوح الجبال". إنها مدينة مكسيكية "تحيط بها جبال عملاقة تحضنها بنوع من الحنان وكأنها تريد أن تحميها من سوء محتمل نحن لا نراه ولكن الجبال تستشعره بعمق" كما يقول هذا المثقف العربي السوري الذي يهوى ركوب الخطر. وإذا كان خليل النعيمي قد تحدث في هذا النص الطويل بكل الشجن عن هنود المايا بين غابات ووهاد وصخور وجبال فان الجبال حاضرة أيضا في ابداعات الروائي العربي الراحل عبد الرحمن منيف كما تبدى في رواية "النهايات". "الخوف الذي ملأ الدنيا خلال تلك الساعات كان من القوة والذهول لدرجة أنه لا أحد يستطيع أن يتذكر ما حدث، حتى الكلمات تبدو باهتة عاجزة ولاتعبر عن أي شييء"!!..كلمات لعبد الرحمن منيف في رواية "النهايات" لكنها قد تكون مناسبة تماما لوصف ماحدث عندما قضت متسلقة الجبال المصرية هبة الحسيني في المغرب مؤخرا أو عندما وقع ذلك الحادث المأساوي في سانت كاترين. وسؤال "النهايات" مع جبروت الطبيعة بين الواقع والخيال الروائي قد لا يفرق بين جبال من خيال وجبال في الواقع مثل "طوبقال" أو "توبقال" كما يكتبها المغاربة وجبل باب الدنيا" أو "جبل الزعتر" و"فرش الرمانة" وكلها أسماء بمنطقة سانت كاترين في سيناء اقترنت بالحادث الذي أودى في شهر فبراير الماضي بأربعة من الشباب المصري بعد أن داهمتهم عاصفة ثلجية هبت دون سابق إنذار. نعم.. أحيانا يكون الواقع اغرب من الخيال بالفعل واحيانا تكاد النهايات والمصائر تتشابه بين سرد الواقع في الحياة وسرد الخيال الروائي لأديب في قامة عبد الرحمن منيف يلتقي مع شهادة رصينة لأحد مرشدي الصحراء في سيناء الذي علق على حادث سانت كاترين بقوله في تصريحات صحفية:"انني اصطحب افواجا سياحية لمنطقة سانت كاترين منذ عام 2006 ولم أصادف أبدا مثل تلك العاصفة الكثيفة" التي فرقت الفوج السياحي الشاب معتبرا أن "ما حدث كان خارج السيطرة". هل الأمر هو جنون الطبيعة وغدر الصحراء وهل الإنسان اقوى من الطبيعة ويعرف كيف يروضها أو يحتال عليها كما قال "عساف" بطل رواية "النهايات " والابن الوفي لبلدة الطيبة في البادية؟!..ام أن النهايات في زمن عبد الرحمن منيف تختلف عن النهايات في العصر الرقمي؟!. نظرة على مواقع التواصل الاجتماعي بشبكة الإنترنت تظهر لأول وهلة اهتماما كبيرا بين الشباب من مرتادي هذه المواقع بالحادث المآساوي الذي وقع مؤخرا في جبل طوبقال وقضت فيه المصرية هبة الحسيني تماما كما كان الحال في حادث منطقة سانت كاترين الذي قضي فيه اربعة من الشباب من بينهم المخرج محمد رمضان. وإذا كان المرشد المغربي في حادث طوبقال قد وقف عاجزا أمام هول الحادث فقد أظهر حادث سانت كاترين أو "رحلة الموت" كما وصفتها بعض وسائل الإعلام حينئذ أهمية الاستعانة بأدلة من سكان المنطقة يتمتعون بخبرات كبيرة في السير على الطرق والمدقات الجبلية الوعرة واللياقة البدنية العالية فضلا عن تفعيل دور ما يعرف "بحراس البيئة" بالمحميات ومن بينها محمية سانت كاترين فيما يتعلق بالأخطار السريع عن المفقودين. وحسب شهادات نشرت لبعض الناجين من حادث سانت كاترين فإن فوجا سياحيا صغيرا قوامه 11 فردا خرجوا في "رحلة سفاري جبلية" للاستمتاع بجمال الطبيعة في منطقة سانت كاترين غير أنهم عانوا لمدة أربعة أيام وسط الجبال بعد أن ضلوا الطريق. وقال أحد الناجين ويدعى محمد فاروق: "فور وصولنا لمنطقة فرش الرمانة وصعود بعضنا منطقة جبل الزعتر بوادي جبال لمشاهدة المناظر الطبيعية الخلابة فوجئنا بسقوط الأمطار الغزيرة علينا وقمم الجبال تكسوها الثلوج" مضيفا أن "درجة الحرارة انخفضت على غير العادة إلى ثماني درجات تحت الصفر مما عرض بعضنا إلى حالة من الأعياء الشديد". وفيما قضي المخرج الشاب محمد رمضان متأثرا بحالة أعياء شديد جراء تجمد جسده بعد أن ضل عن بقية الفوج وفقا لهذه الشهادة المنشورة فان ثلاثة اخرين "حاصرتهم الأمطار والثلوج في قمة جبل الزعتر ولم يكن بمقدورهم النزول رغم انهم ظلوا متمسكين بالبقاء أحياء حتى آخر لحظة". ولئن كانت الطبيعة بجبروتها غير المحدود في البحار والمحيطات وعلى قمم الجبال وفي اعماق الأودية والأصقاع المتجمدة وظلمة الغابات تنذر بالتحول وتبعث بأشارات من نوع ما فالصحراء الغامضة القاسية الموحشة المفاجئة تتجاوز قوانين الطبيعة لتثبتها كما يقول عبد الرحمن منيف في روايته "النهايات". وها هو يغوص في رمال الصحراء حيث "جنت الدنيا وهبت ريح قوية عاصفة غيرت كل شيء، كانت الزوابع تدفع الكثبان الرملية وتسفها كما تفعل الرياح بالأمواج فتتدحرج الرمال بسرعة كما لو انها كتل من القطن الهش أو بقايا اوراق محترقة". ويمضي عبد الرحمن منيف في "النهايات" ليقول: "أبناء الطيبة الذين كانوا يعرفون بغريزتهم طبيعة الصحراء وقسوتها من رائحة الهواء، من لمعان السماء القاسي، من الزوابع التي تجاوزت الوادي وعبرت السهل لم يصدقوا الهول الذي يرونه امام عيونهم، أنه شييء لم يشهدوا مثله طيلة حياتهم، والضيوف الذين اصابهم الهلع والذين فقدوا القدرة على التصرف تحولوا إلى مجموعة من الدمى المتوسلة الباكية، كانوا يريدون شيئا واحدا: أن لايموتوا"! في غمرة الخوف يفقد البشر القدرة على التصرف كما يقول الراوي في "النهايات" مضيفا: "انتظار الموت في هذه الصحراء أصعب من الموت آلاف المرات"و"بين انتظار وانتظار يموت الإنسان ألف مرة، يفقد الثقة، تتلاشى إرادته، يسقط، ينهض، يترنح، يمتليء حلقه بأدعية خائفة، يصرخ دون صوت، ينظر في وجوه الآخرين ليرى وجهه". "يملأ حلقه بجرعة ماء ويستبقيها لأطول فترة لعلها تمده بمزيد من القوة، يفقد القدرة على الحديث، يفقد القدرة على ابتلاع الماء، يتحول الماء إلى ملح " و"حتى الزمن في الصحراء يكتسب معنى آخر. يتحول إلى ذرات صغيرة، الثانية والدقيقة هي كل الزمن. ثم يبدأ ذلك الزمن بالتفتت إلى ما لا نهاية كالصحراء بلا نهاية ويطبق كالخيط المبلول القاسي، يشد دون توقف على الرقبة، يحزها لكن دون أن يقطعها أو يبقيها ويظل هكذا موتا مؤكدا منتظرا ساخرا مؤجلا". إنها النهايات كما كتبها روائي عربي قدير وها هو يمضي في تكثيف تلك اللحظات الأليمة فيقول:"يحس الإنسان بالاختناق وتتصاعد ضربات القلب ويتحول لون الوجوه إلى الزرقة ولا يستطيع أن ينظر الواحد إلى الآخر خوف الانفجار أو العويل" ثم أن "أي حوار في مثل هذه اللحظات مستحيل لأن الصراعات داخل قلب كل إنسان من الكثافة والتناقض إلى درجة يمكن أن تولد الشيء ونقيضه". هذا هو الإنسان ذلك المخلوق الضئيل المتلاشي في مواجهة قوة غاشمة لا تدمره ولا تتركه!..والإنسان في لحظات اليأس المطلقة حين يوافق على كل شيء حتى على الموت فإنها يريده صاعقا كاملا نهائيا اما ذلك العري الحاد الفاضح في كل شيء فهذا النوع من الموت لا تمتلكه سوى الصحراء في الليل وفي فيضان الرياح الذي لايعرف التوقف أو الراحة.."الله يساعدك ياعساف"! يقول الذين وصلوا عصر اليوم التالي في ثلاث سيارات إحداها لسلاح البادية وعثروا على السيارتين انهم وجدوا اغلب الرجال بين الحياة والموت وعندما عادوا بعساف كان منظره فاجعا مليئا بكآبة خرساء..كان في قاع السيارة البيك آب يابسا متخشبا وقد تقلصت عضلات وجهه وبدت على أطراف الشفتين ابتسامة هي مزيج من الألم واليأس والسخرية كأنه يريد أن يتكلم وعندما اتضحت الصورة حادة نازفة متجبرة سمعت اصوات نشيج مكتوم وتساقطت الدموع. كان لسقوط الدموع رنين قوي موجع وكأنه نهاية لفترة طويلة من الزمان..كيف مات؟!..الذين ذهبوا للبحث عنه كاد اليأس أن يصيبهم ويعودوا بدونه لولا أن رأوا من بعيد نسرا يحط على شيء..مع كل خطوة تقتربها السيارة حيث يربض النسر تبدو الصورة أكثر وضوحا وقسوة.. كان عساف مدفونًا بالرمل. لم يكن يظهر الا رأسه وفوق الرأس تماما كان كلبه رابضا وكان الجزء الأكبر من جسد الكلب مدفونا بالرمل أيضا ولكن بطريقة غريبة للغاية، كان يشكل سياجا حول جسد عساف خاصة رأسه، كان يحتضنه، مات عساف قبل الكلب وعندما جاءت الطيور الجارحة لتأخذ نصيبها من الجثة صارعها الكلب حتى صرعته. من حسن حظ عساف أنه سقط على وجهه، ولو كان في وضع آخر لأكل النسر عينيه وهشم وجهه، والكلب حين رأى عساف يسقط قام فوقه..لابد أنه حاول إنقاذه بشكل أو آخر لكن العاصفة كانت اقوى من الإثنين. عساف الذي يقول:"الغزلان تبكي دائما وهي تموت ايا كانت الطريقة التي تموت بها " ولذلك لم يذهب ابدا لصيد الغزلان مثلما كان يفعل بعض الشباب الأغرار وبعض القساة الذين لا قلوب لهم. ويتفرد "عساف" كما رسم عبد الرحمن منيف ملامحه بشخصية البدوي الذي يعرف وظيفته ودوره في الابقاء على حياة الجماعة حين يهددها القحط والجوع وعندما ضحى بروحه من أجل الجماعة كانت السهرة التي قضاها اهل قريته "الطيبة" وجثته مسجاة بينهم وجاءت حكاياتها كلها تنويعات وتفريعات على العلاقة بين الإنسان والحيوان والطير. وهي أيضا تنويعات على لحن النهايات:نهاية البشر والحيوانات وحتى الأشجار بينما تعبر الرواية عن فكرة رئيسة لعبد الرحمن منيف وهي مأساة الإنسان جراء فشله في عدم التوازن مع الطبيعة ومصادرها واحترام قوانينها. و"النهايات" كما وصفها الناقد المصري الراحل فاروق عبد القادر هي رواية البادية بامتياز وشهادة بدوي يعرف الصحراء والمواسم والخصب والمطر والجفاف والقحط والحيوان والطير فيما يتشمم رائحة الغيم ويتعرف على نذر العاصفة ويعيش مع اهل قريته على حافة الصحراء متمثلا أنماطها الثقافية وأصفى قيمها. ورغم الألم والحزن جراء حادث مصرع متسلقة الجبال المصرية هبة الحسيني في المغرب وكذلك سقوط ضحايا في شهر فبراير الماضي في "رحلة السفاري" بسانت كاترين فقد اظهر الجدل المقترن بهذين الحادثين أن هناك بالفعل اهتماما ملحوظا بين الشباب على وجه الخصوص بهذا النوع من الرحلات سواء في الخارج أو في ربوع مصر الثرية والسخية بالتنوع في الطبيعة مابين الجبال والصحراء والسهول والوديان والنهر والبحار والبحيرات. وفي الفيوم على سبيل المثال وادي الحيتان حيث هياكل الحيتان التي تعود لملايين السنين وتعرض هناك بجهود عظيمة قامت بها اليونسكو كما أن هناك المحمية الطبيعية بمنطقة وادي الريان والكنوز الثقافية لما قبل التاريخ التي يعرف أي مثقف حقيقي في العالم قيمتها. وكما تظهر مواقع التواصل الاجتماعي فان اغلب الشباب المنخرط في أنشطة رحلات السفاري ومجموعات لهذه الرحلات على قناعة صادقة بأهمية أن يعرف المصريون الأماكن الجميلة في بلادهم وزيارتها بدلا من السفر للخارج وتكبد تكاليف باهظة. ويقول بعض المشاركين في هذه الرحلات بمناطق مثل سانت كاترين انها "آمنة طالما كانت المجموعة تتحرك معا في كل خطوة ومادام المرشد يتقن مهمته ويمتلك خبرات كبيرة" فيما تعج منطقة جبل موسى بالاستراحات والمطاعم. ووفقا لما ذكره حسام مختار وهو مرشد صحراء في سيناء فان "منطقة جبل باب الدنيا آمنة تماما ونكون في حماية بدو المنطقة"..ترى ماالذي كان سيقوله الروائي الراحل عبد الرحمن منيف الذي ترجع اصوله لصحراء نجد عما حدث في جبل طوبقال بالمغرب أو تلك المنطقة بصحراء سيناء والتي حملت هذا الاسم اللافت "باب الدنيا" لأن مدخلها عبارة عن باب يفتح على منطقة خلابة وبالغة الجمال في سيناء ؟!. الواقع يتحدث عن شباب مفعم بالحياة وحب المغامرة لكن الموت الماكر يتربص في "كل مكان وينقض في لحظة بلا عنوان"!!..لحظة حزينة في كتاب الكون الزاخر بالشفرات والألغاز!.