تعالت أصوات بعض قدامى الإرهابيين المتقاعدين مؤخرًا بتوجيه أقسى عبارات التهديد والوعيد للأقباط لترهيبهم، ومنعهم من النزول يوم 30 يونيو المقبل. بل وتعامل بعضهم مع الأقباط وكأنهم جالية أجنبية مقيمة في مصر؛ وبالتالي عليها التزام الحياد بين القوى المتصارعة! وإن دلت هذه الترهات على شيء، فإنما تدل على جهل شديد من جانب هؤلاء وعدم وعي بمجريات التاريخ المصري، فهؤلاء بحق هم أهل الكهف لا يدرون حقيقة مصر. لا يعلم هؤلاء الإرهابيون المتقاعدون بأن كلمة قبطي في الأصل تعني “,”مصري“,”، بصرف النظر عن طبيعة الديانة، وأن التقويم القبطي ما هو إلا السنة الزراعية المصرية القديمة، التي توارثها الفلاح المصري عبر العصور، وأن اللغة القبطية موجودة في مصر حتى قبل ميلاد المسيح، فهي المرحلة الأخيرة من مراحل تطور اللغة المصرية القديمة “,”الهيروغليفية“,”. إن من يحاول إرهاب الأقباط ومنعهم من النزول يوم 30 يونيو لم يقرأ التاريخ المصري جيدًا، ففي بداية ثورة 1919 ذهب الأقباط إلى سعد زغلول من تلقاء أنفسهم، وسألوه عن وضع الأقباط بعد الثورة، فكانت مقولة سعد زغلول الخالدة: “,”الأقباط لهم ما لنا وعليهم ما علينا“,”. من هنا انخرط الأقباط في الثورة المصرية، وصاروا جزءًا لا يتجزأ منها، حتى أصبحت ثورة 1919 بحق رمزًا للوحدة الوطنية تحت شعار (عاش الهلال مع الصليب). من منا لا يتذكر “,”القمص سرجيوس“,” خطيب ثورة 1919، رجل الدين المسيحي، الذي وقف على منبر الأزهر مناديًا بالثورة ووحدة المصريين والاستقلال التام؟ ونزل القمص سرجيوس إلى الشارع، وقاد المظاهرات حتى تم إلقاء القبض عليه؛ حيث اعتقلته سلطات الاحتلال البريطاني، وتم نفيه إلى رفح في سيناء، وقضى عدة أشهر في المعتقل، وكان رفيقه هناك هو الشيخ “,”مصطفى القاياتي“,”، هذا العالم الأزهري، الذي أصبح مثل سرجيوس من رموز الحركة الوطنية المصرية. وعندما قاطعت مصر بأكملها التعامل مع سلطات الاحتلال البريطاني، ورفض الوفد أن يتم تشكيل حكومة مصرية تحت سلطة الاحتلال، وهدد شباب الوفد من يقبل من المصريين تشكيل الوزارة تحت الاحتلال بالقتل، لجأ الإنجليز إلى سياسة (فَرِّق تَسُدْ)، وقاموا باختيار شخصية قبطية هو “,”يوسف وهبة باشا“,” ليتولى رئاسة الوزراء. وكان الغرض الخبيث من وراء ذلك هو أن يقوم أحد شباب الثورة باغتياله فتندلع فتنه طائفية؛ إذ كيف يقتل مسلم قبطي؟ وهنا تتجلى الوطنية المصرية في أرفع صورها؛ إذ يخرج من بين صفوف الثوار شاب قبطي هو “,”عريان يوسف سعد“,”، طالب مدرسة الطب، ويتعهد بالقيام باغتيال يوسف وهبة باشا القبطي؛ حتى لا تتحول الحركة الوطنية إلى فتنة طائفية، وحتى يُفسِد على الإنجليز دسائسهم وتفشل سياسة “,”فرق تسد“,”. وبالفعل يقوم عريان يوسف سعد بإلقاء القنبلة على رئيس الوزراء، لكن المحاولة فشلت، ويتم إلقاء القبض على عريان وإيداعه السجن، ليظل فيه حتى عام 1924 عندما يصدر سعد زغلول قرارًا بالعفو عنه. وبذلك قام عريان سعد بتقديم نفسه فداءً للوطن دون النظر لأية اعتبارات طائفية، إذ كان الحلم آنذاك هو حلم الوطن. خرج الأقباط في ثورة 1919 من أجل استقلال الوطن، وخرج الشباب القبطي في ثورة 25 يناير من قوقعة الكنيسة إلى حضن الوطن من أجل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. وسيخرج الأقباط في 30 يونيو غير عابئين بتهديدات الإرهابيين المتقاعدين. فمصر وطن يعيش فينا وليس مجرد مكان نعيش فيه.