منذ أن تشكّلت جماعات الإسلام الحركى قبل قرن من الآن، وتحذر الآراء المناهضة له من خطورة تغليبه الطموحات السياسية على الجانب الدينى، وأثبتت الممارسات العملية صحة هذه التخوفات؛ إذ رُصدت كثير من المواقف على مدار عمر هذا التيار، قّدم فيها مصالحه السياسية على التمسك بأمور دينية. وجاء شهر رمضان هذا العام لتتجدد هذه المعضلة؛ إذ لم تجد كيانات هذا التيار أزمةً فى توظيف الشهر لخدمة مواقفهم السياسية، مستغلةً الحدث الدينى فى استعادة نفوذ ضائع. سوريا.. دعوات «النفير» كمحاولة للبقاء البداية من سوريا؛ حيث لا شعارَ يعلو على دعوات ما تُسَمّى «النفير للجهاد». ومن قبل بدء شهر رمضان، اختار زعيم تنظيم «داعش»، أبوبكر البغدادى، استباق الشهر بالظهور فى 29 من أبريل الماضى، فى تسجيل مرئى توعّد فيه بالانتقام لخلافته المزعومة، خاصةً بعد خسارة الباغوز فوقانى، آخر معاقله فى سوريا. وفيما حمل ظهور «البغدادي» دلالات مهمة، خاصةً أنه الأول بعد اختفاء دام 5 سنوات، جاء زعيم ما تعرف ب«هيئة تحرير الشام»، أبومحمد الجولاني؛ ليطل على غرار رجل داعش الأول، بحلة عسكرية، محرضًا على ما يسميه «الجهاد». ولم تقف الدعوات التى أطلقها «الجولانى» فى لقائه المسجل وبثّته النوافذ الإعلامية التابعة ل«تحرير الشام» الأحد 12 مايو، عند ذلك وحسب؛ إذ أعلن «الجولاني» انتهاء المؤتمرات والاتفاقات السياسية كافة المعقودة بخصوص سوريا من الأستانة وحتى سوتشى بروسيا، مؤكدةً أن الخيار العسكرى هو الحل الوحيد. وتأتى إطلالة «الجولانى»، عقب يوم واحد من نجاح الجيش السورى فى اختراق الحدود الإدارية لمدينة إدلب الواقعة تحت سيطرة الفصائل الإرهابية، لأول مرة، وعلى رأسها «هيئة تحرير الشام» كبرى الفصائل الإرهابية والمقربة من تنظيم «القاعدة». ويشن الجيش السورى بمعاونة الطرف الروسى، منذ نهاية أبريل الماضى، حملةً عسكريةً على الفصائل الإرهابية المستقرة فى الشمال، فى ظل التلكؤ التركى بالوفاء بالعهود فى تفكيك الفصائل، وللرد على ذلك بدأ الجيش حراكًا عسكريًّا رآه «الجولاني» مدعاة لما يسميه «النفير». فقهاء الجهاد ليس «الجولاني» وحده ولا «البغدادى» من اختاروا الشهر الفضيل للتهديد والوعيد؛ إذ حل من يعرفون ب«فقهاء الجهاد» بسوريا، فى الصورة، فهذا عبدالرزاق المهدى، السورى المتطرف والمقرّب من الفصائل الإرهابية، إذ أخذ من حسابه على «تليجرام» منبرًا لتحريض الشباب على حمل السلاح، مستقطبًا حتى هؤلاء الذين ليس لهم سوابق عسكرية. واستخدم «المهدى» لغة استعطافية، اختار أن يرغّب من خلالها الشباب فى حمل السلاح، قائلًا: «هل اشتقت للحور العين»، مضيفًا: «إلى ساحات الوغى يا رجال، إلى جبهات القتال يا أبطال، إلى جبهات سهل الغاب وكفر نبودة»، ومتابعًا: «أيها الشباب القاعدون فى بيوتهم ومساكنهم وفى المخيمات، قعودكم عن مقارعة الأعداء حرام حرام بل هو من الموبقات». وفيما أفتى السورى المتطرف للعناصر المتطرفة فى الفصائل بالإفطار فى نهار رمضان، بدعوى أنهم يدافعون عن دين الله، اختار السعودى عبدالله المحيسنى أن يظهر فى برنامج رمضانى يومى يُسمى «العهد»، تبثه قناة تُدعى «وعى الأمة»؛ ليحرضَ من خلاله على حمل السلاح. وعلى مدار أعوام الصراع السورى، يفضل المحيسنى الظهور فى إعلام دينى رمضانى، من صناعة الميليشيات المسلحة، تطوعه لخدمة موقفها على الأرض. الفصائل تتهاوى وتعليقًا على ذلك قلل الناشط السورى، عمر رحمون، من قيمة هذه الدعوات أو محاولات توظيف شهر رمضان فى المعارك السياسية، قائلًا: إن موقف الفصائل ضعيفٌ، وقريبًا سيكون الجيش السورى عند باب الهوى، المعبر السورى الفاصل بين تركياوسوريا. ولفت ل«البوابة» إلى أن الفترة المقبلة ستشهد مزيدًا من الخسائر فى صفوف الفصائل، معتبرًا الخطاب الدينى الذى يتبنونه حاليًّا لا ينقذ موقفهم السياسى الذى وصفه ب«الحرج». ليبيا.. إعلام دينى فى خدمة ميليشيات طرابلس تمامًا كما يتجه المشهد السياسى فى سوريا إلى انحسار الفصائل الإرهابية، فنظيرتها فى ليبيا تواجه معارك كبرى، بدأها الجيش الوطنى الليبى، فى الرابع من أبريل الماضى، لتطهير العاصمة طرابلس من قبضة الميليشيات. وتخضع العاصمة الليبية لميليشيات إرهابية من تيارات فكرية مختلفة، بداية من الإخوان إلى تنظيمات «القاعدة» و«داعش»، وحتى مرتزقة مستأجرين. ومع مطلع شهر رمضان لجأت هذا الميليشيات وجهات داعمة لها، إلى توظيف الحدث الدينى لتقديم برامج رمضانية تتناول وقائع المعارك فى طرابلس، من منظور دينى، إذ لا يكف المفتى الليبى السابق المحسوب على الميليشيات المسلحة، والمقيم فى تركيا، الصادق الغريانى، عن إطلاق فتاوى التحريم والتكفير عبر برنامجه «الإسلام والحياة»، ويستغل صفته الدينية فى إصدار فتاوى تدين الجيش الليبى وتصفه فى بعض الأحيان بالكافر الذى يعتدى على المسلمين. النظرة الدينية التى يستخدمها الغريانى فى تناوله للأحداث السياسية، تعود إلى عام 2012؛ إذ لُقب من وقتها ب«مفتى الفتنة»، وعرف بإطلاقه فتاوى تستند إليها الميليشيات فى عملياتها الإرهابية. وتعد آخر شطحات «الغريانى» هى الفتوى التى تعاطى معها معظم الليبيين بدهشة واستغراب وحتى سخرية وتندّر، وخلّفت موجة واسعة من الانتقادات، بعد أن حرّم تكرار الحج أو العمرة مرتين، ونصح كل من يريد الحج أو العمرة، أن يدفعَ الأموال للميليشيات المسلحة فى بلاده؛ من أجل قتال الجيش الليبى فى العاصمة طرابلس. يُذكر أن «الغريانى» برز منذ عام 2012، وأعلن فى سلسلة من الفتاوى المتتالية انحيازه التام إلى تيار الإسلام السياسى فى ليبيا ودعمه للجماعات المتطرفة، إذ كان يدعو الليبيين فى كل مرة إلى التقاتل، محرضًا على العنف. وبخلاف «الغريانى»، فقناة التناصح الممولة من جماعة الإخوان فى ليبيا وتمثل منبر الميليشيات الإرهابية هى الأخرى نموذج لاستغلال شهر رمضان فى المعارك السياسية؛ إذ تقدم يوميًّا موادّ إعلامية جميعها توظف الدين لصالح الميليشيات. ويعتبر الباحث الليبى، محمد الزبيدى، الخطاب الدينى للميليشيات فى شهر رمضان آلية لمواجهة معركة «طوفان الكرامة» التى بدأها الجيش من أكثر من شهر، لافتًا فى تصريح ل«البوابة نيوز» إلى أن حكومة الوفاق الإخوانية ومعها الميليشيات، يلجأون لحيل متنوعة لوقف عملية تحرير العاصمة، معتبرًا أن أرخص هذه الحيل هى استغلال الدين وكسر روحانيات الشهر الفضيل مقابل الحصول على مكسب سياسي.