سواء في الغرب أو في الشرق ثمة اهتمام ثقافي لافت بقضايا النمو الإنتاجي والديون ضمن كتب ومعالجات وأطروحات عديدة ووسط اتفاق عام على أن "الاقتصاد العالمي" ليس في أفضل أحواله وأن هناك حاجة لمراجعة بعض الأفكار والأدوات الاقتصادية التي سادت طويلا. وواقع الحال أن قضايا النمو تشغل الدول النامية والمتطورة معا وتشكل هما للجنوب وللشمال رغم اختلاف الخصائص والتفاصيل ومازالت اشكاليات النمو تستحوذ على جزء كبير من اهتمامات الثقافة الاقتصادية الغربية وجديد الكتب التي تصدر في الشمال الصناعي المتقدم. ومن هذه الكتب الجديدة التي حظت باهتمام لافت حتى على مستوى الصحافة الثقافية الغربية كتاب صدر بالانجليزية لروبرت جوردون بعنوان "ارتفاع وانخفاض النمو الأمريكي: مستوى المعيشة في الولاياتالمتحدة منذ الحرب الأهلية". ولئن كان هذا الكتاب وصف "بالعمل الفاتن في التاريخ الاقتصادي للولايات المتحدة" على مدى القرن ونصف القرن الأخيرين فإن مؤلفه روبرت جوردون وهو أكاديمي خبير اقتصادي مرموق بدا مهموما بالسؤال الكبير والذي يكتسب أهمية كبيرة في راهن اللحظة سواء بالنسبة للأمريكيين أو غيرهم وهو:"لماذا يتراجع النمو" ؟!. ومرة أخرى يبرهن هذا الكتاب الجديد شأنه شأن كتب هامة صدرت من قبل على أن الاقتصاد أكبر واخطر من تركه للاقتصاديين وحدهم وان القضايا الاقتصادية ليست منبتة الصلة بالحالة الثقافية والتراكم المعرفي والحس التاريخي ناهيك عن المؤثرات السياسية وان كان ذلك كله وغيره من عوامل التداخل والتشابك في عالم اليوم لايعني الاستغناء عن التخصص الاقتصادي الدقيق أو الاستشهاد بالاحصاءات والأرقام بغية التحليل الصائب واستخلاص النتائج الدقيقة كما فعل روبرت جوردون. وقد تكون الرسالة المهمة التي يحملها هذا الكتاب أنه على مدى اغلب عصور التاريخ الإنساني "يتحرك التقدم الاقتصادي ببطء أو يسير زحفا وكأنه يحبو" كما أنه "لايجوز الحديث عن ارتفاع مستوى التقدم الاقتصادي مع اغفال جوهرية في مستويات المعيشة مثل الخدمات الصحية وهو ماينطبق أيضا على الابتكارات التقنية ومدى اسهاماتها الفعلية في تحسين الحياة الإنسانية لعموم البشر". ومؤلف الكتاب الذي تجمع سيرته الأكاديمية مابين المعرفة النظرية والجهد التجريبي في ارض الواقع الأمريكي خارج اسوار جامعة "نورث وسترن" يركز على اتجاهات النمو الطويل الأمد وقضايا قياس الاقتصاد الفعلي والمخرجات. وبالتأكيد ماكان لروبرت جوردون أن يغفل مسائل مطروحة حاليا بقوة في الواقع الاقتصادي الأمريكي مثل التفاوت الكبير في الأجور كمظهر من مظاهر اللامساواة أو "حالة الركود في أجور شرائح عديدة بالطبقتين الدنيا والوسطى" أو تصاعد الديون الحكومية فيما راح يؤكد على أهمية "النمو الإنتاجي" مع تسليمه بأن استعادة الولاياتالمتحدة لمعدلات النمو السريع في المستقبل القريب احتمال غير وارد إلى حد كبير. فالولاياتالمتحدة في أزمة والمجتمع الأمريكي يبدو الآن وكأنه استنفذ الابتكارات التي قادته من قبل للتغيير الكبير وهو في حاجة لباقة جديدة من الابتكارات القادرة على تحقيق تغيير عميق وعريض في المستقبل ثم أن الأمريكيين يواجهون "تحدي نمو الإنتاجية". بالطبع مثل هذا الكتاب يبقى رؤية لصاحبه مهما بلغت اهميته في عالم الاقتصاد بقدر مايكشف عن أهمية الجدل الثقافي-الاقتصادي بل والزيارات الثقافية الجديدة للتاريخ الاقتصادي في بلد ما من أجل صياغة نسق متماسك من الاجابات عن تحديات الحاضر والمستقبل. وفي مصر نحن بحاجة لمثل هذه الكتب والدراسات الرصينة حول قضايا الاقتصاد والنمو فيما تحفل الصحف ووسائل الإعلام المصرية بأنباء ومتابعات تتعلق بالقرض الذي من المزمع أن تحصل عليه مصر من صندوق النقد الدولي وتصل قيمته إلى 12 مليار دولار جنبا إلى جنب مع تحليلات وتعليقات حول آفاق الاقتصاد المصري. ويتفق العديد من المحللين والمعلقين على أهمية تشجيع المشاريع الإنتاجية والأنشطة الخدمية ذات القيمة المضافة العالية وتحفيز معدلات النمو وجذب المزيد من الاستثمارات وزيادة الصادرات وتنشيط السياحة وإصلاح السياسات النقدية ضمن تحرك شامل ومتناغم لحل اشكالية العجز في الموازنة العامة وتحقيق الإصلاح الاقتصادي الشامل. وثمة اتفاق عام أيضا بين اغلب من تصدوا لبحث التطورات المتصلة بقرض صندوق النقد الدولي لمصر على أهمية "احياء ثقافة العمل والاتقان" وتوظيف الطاقات والقدرات على النحو الأمثل في اجواء من الجدية والانضباط والعدالة والشفافية ومراعاة البعد الاجتماعي وأوضاع محدودي الدخل واحتضان المواهب والكفاءات الشابة. وفي سياق تعليقه على التقرير الذي نشرته مجلة "الايكونومست" البريطانية مؤخرا حول الاقتصاد المصري قال الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة والذي تخصص صحفيا على مدى سنوات طويلة في الكتابات الاقتصادية أن هذا التقرير "افتقد الأمانة والمصداقية وافتقد أيضا المهنية". غير أن جويدة لفت مجددا إلى اننا نعاني من حالة أزمة إعلامية معتبرا في طرحه اليوم "السبت" بجريدة الأهرام أنه "لايوجد لدينا إعلام خارجي الآن على الإطلاق". ورغم أن أحدا لايرحب بالديون فإنها من المتعارف عليه والمستقر في الفكر الاقتصادي المعاصر أن القروض قد تكون سبيلا لتحقيق النمو كما يقول الأكاديمي والخبير الاقتصادي البريطاني ادير تيرنر الذي تقلد مناصب عديدة من بينها منصب رئيس هيئة الخدمات المالية في بريطانيا. غير أن القضية الجوهرية كما يرى تيرنر وغيره من الاقتصاديين في الغرب تتعلق بسبل "تحويل أموال القروض السائلة لقوة إنتاجية" وتحفيز "الاستثمارات الإنتاجية" بعيدا عن ممارسات ضارة مثل المضاربات على الأراضي أو الاستثمارات العقارية بل وحتى الاعتماد المفرط على البورصات والأسواق المالية كوسيلة لتحقيق النمو الاقتصادي. وادير تيرنر ينتمي لتيار ثقافي اقتصادي في الغرب يدعو لثورة فكرية في الاقتصاد واعادة بناء النظريات الاقتصادية التقليدية مؤكدا على أهمية الأبعاد السياسية والاجتماعية للقرارات والخيارات الاقتصادية. والديون التي تبقى عنوانا رئيسا للمشهد الاقتصادي في الغرب والشرق موضع اهتمام مثقفين بارزين في هذا العالم وتناولها مفكرون كبار بالبحث والتمحيص من زوايا متعددة لاتنحصر في البعد الاقتصادي وحده. وهكذا وفى سياق تأملات نقدية عميقة لاشكالية الديون التي كانت من أهم عوامل الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2009 وتداعياتها - صدر كتاب:"تسديد الديون...الديون وظلال الثروة" بقلم مارجريت اتوود وهى روائية وشاعرة وناقدة كندية يتردد اسمها ضمن المرشحين لجائزة نوبل في الأدب. وفى هذا الكتاب الذي يتكون من خمسة فصول تناولت المؤلفة الديون من زوايا متعددة من بينها الادب والعقيدة والمجتمع كما ناقشت اتوود طبيعة الخطيئة وبنية المكيدة وتركيبة المؤامرة وممارسات الانتقام ورد البيئة عندما يأخذ البشر من الأرض أكثر مما يعطوها. ويقول الناقد جون جراى أن مارجريت اتوود قدمت في هذا الكتاب طرحا يمزج بين التحليل الصارم والضليع وبين الخيال الفاتن والطريف لتنتج عملا من أهم واقوى الأعمال التي تصدت لسبر اغوار الأزمة المالية ومحاولة شرحها واثارة نقاشات جدية حولها. ومشروع اتوود هو اظهار السبل التي تشكل بها تصورات الديون الفكر الانسانى بعمق والواقع انها تركز في كتابها هذا على فكرة جوهرية فحواها أن الانشطة الاقتصادية بما تتضمنه من اقراض واقتراض هي تجليات مجازية لشعور انسانى ملح بضرورة التداين أي بعدم الاستغناء أو عدم الاكتفاء بالذات ومن ثم الشعور بضرورة الحاجة للآخر. ولئن كان مصطلح "الديون الدافعة للنمو" قد تردد في سياق الأزمة الاقتصادية اليونانية الأخيرة فمسألة الديون من وجهة نظر مثقفة كبيرة مثل مارجريت اتوود ليست مجرد انعكاس لأنشطة مثل انشطة البورصة وانما هي قضية اوسع واعمق بكثير وتضرب بجذورها في العديد من الأنشطة الإنسانية. بل إن مارجريت اتوود تضرب امثلة لتأييد فكرتها من عالم الكائنات غير الإنسانية..تتوغل مارجريت اتوود في التاريخ وتستعير كلمة "ماعت" من التاريخ الفرعونى كمفهوم يعنى عند الفراعنة أو المصريين القدماء العدل والفضيلة والتوازن والصدق كمبادىء حاكمة للطبيعة والكون. وهذا المفهوم يتسع ليشمل أيضا السبل اللائقة التي ينبغى أن يتعامل بها الناس مع بعضهم البعض بما في ذلك التداين إضافة للنظام الاجتماعى السليم والعلاقة بين الأحياء والموتى جنبا إلى جنب مع معايير السلوك العادل والصادق والاخلاقى وتشمل تلاوين كلمة ماعت وظلالها الطريقة التي ينبغى أن تكون عليها الأشياء فيما يعنى عكسها ونقيضها الفوضى بالمعنى المادى والانانية والافتراء والكذب والممارسات الشريرة على وجه العموم وكل مايجافى ناموس الحق وهو ماينطبق أيضا تاريخيا على ممارسات الشمال الغني في حق الجنوب الفقير. وهناك أيضا ديون التاريخ التي لايمكن شطبها عندما تتحول إلى جرائم في حق الشعوب وهى ديون أهم واخطر بكثير من تقديرات البنك الدولى للديون المستحقة على بلدان كاليونان وغيرها وهذا المفهوم الواسع حقا للديون كما طرحته مارجريت اتوود في كتابها يربط بين التوازن في أمور البشر وبين نظام الكون والعدالة في وقت قدرت فيه تكاليف العمليات العسكرية الأمريكية في افغانستان والعراق أثناء العقد الأول من هذا القرن ب1، 1 تريليون دولار وحصلت إسرائيل في العقد ذاته على معونات أمريكية بلغت 27 مليار دولار!. وفى فصل بديع بكتابها "الديون وظلال الثروة" تناقش مارجريت اتوود دور الديون كفكرة أساسية وحاكمة في الادب الروائى الغربى وخاصة في روايات وقصص القرن التاسع عشر وتوغل في كيفية توظيف كريستوفر مارلو للديون ضمن حبكته الروائية لرائعة "الدكتور فاوست"..انها الرائعة التي كتبت أكثر من مرة بأقلام مبدعة من بينها قلم الاديب الألمانى الأشهر جوته والذي صاغها في مسرحية شهيرة. فالديون لاتعنى فقط عبئا ينبغى الوفاء باستحقاقه وتسديده وانما تشكل أيضا أحد المحاور المهمة في الابداعات الروائية والقصص والحكايات التي يحكيها الناس عن انفسهم وعن الآخرين..وفى الأزمة المالية العالمية الأخيرة كانت الديون في قلب المشهد عندما عجز أو امتنع كثير من الذين استدانوا في السوق العقارية عن تسديد ديونهم. فقد انتقلت الأزمة من سوق العقارات الأمريكية إلى القطاع المصرفى ومنه إلى شرايين الأنشطة الاقتصادية في شتى انحاء العالم..لكن الكاتبة مارجريت اتوود رأت في كتابها أن ماحدث ادى لتدمير ثقة بعض من استدانوا في المجتمع الذي اغواهم على الاستدانة فيما اصيب هؤلاء الذين تبددت اغلب مدخراتهم بين عشية وضحاها بصدمة لن ينسوها. وكانت الصدمة ترجع أيضا لانهيار السرد الرأسمالى الذي اعتادوه واستخدموه كمرجع لتفسير الاحداث وفهمها!..وبالتأكيد فان الصدمة ترج بلدا كاليونان مع الأزمة الاقتصادية والعجز عن استئناف النمو الاقتصادى لمسيرته قبل الأزمة الأخيرة في عام 2009 وقد يستخدم نموذج "العلة والمعلول" على مدى سنوات قادمة من جانب مؤرخين مهمومين بالإجابة عن السؤال الكبير: "متى وكيف وضع الاقتصاد العالمى على الطريق الذي أدى لهذه الأزمة"؟. انها الأزمة التي جذبت بعض مشاهير الأدب والكتابة في العالم لمجال الاقتصاد الذي يتجاوز بكثير الأرقام الصماء والمعادلات الصارمة والتقارير الجافة!.. فهل ينجح الأدباء واهل القلم في فض غلالة الأسرار التي تحيط بأزمات اقتصادية جديدة ؟!. تقول مارجريت اتوود، إن طريق المفاهيم ليس بطريق الاتجاه الواحد وهنا فان الاقتراض أو استعارة مفهوم من مجال ما لمجال آخر أمر ملحوظ عبر التاريخ الانسانى وشعور البشر بأهمية التداين سواء في مجال الأفكار أو الاقتصاد وبقية الأنشطة الإنسانية بل أن البعض في الغرب قد تطرف لحد القول بأن كل مايملكه الإنسان جاء من خلال الاقتراض والاستعارة بما في ذلك جسده!..لكن الفارق كبير والبون شاسع وواضح بين الاقتراض للترف الشكلانى والاستفزازى والاقتراض للإنتاج والنمو الفعلى وهذا مانحتاجه الآن بالتحديد!.