وزير الصحة: العزوف عن مهنة الطب عالميا.. وهجرة الأطباء ليست في مصر فقط    محمود محيي الدين: الأوضاع غاية في التعاسة وزيادة تنافسية البلاد النامية هي الحل    ارتفاع جديد.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الثلاثاء 21 مايو 2024 بالمصانع والأسواق    الطيران المسيّر الإسرائيلي يستهدف دراجة نارية في قضاء صور جنوب لبنان    بايدن: ما يحدث في غزة ليس إبادة جماعية    فرنسا: ندعم المحكمة الجنائية الدولية واستقلالها ومكافحة الإفلات من العقاب    «بلاش انت».. مدحت شلبي يسخر من موديست بسبب علي معلول    هل يرحل زيزو عن الزمالك بعد التتويج بالكونفدرالية؟ حسين لبيب يجيب    «بيتهان وهو بيبطل».. تعليق ناري من نجم الزمالك السابق على انتقادات الجماهير ل شيكابالا    منافسة أوبن أيه آي وجوجل في مجال الذكاء الاصطناعي    اعرف موعد نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 محافظة المنيا    أحمد حلمي يغازل منى زكي برومانسية طريفة.. ماذا فعل؟    «في حاجة مش صح».. يوسف الحسيني يعلق على تنبؤات ليلى عبداللطيف (فيديو)    وزير الصحة: القطاع الخاص قادر على إدارة المنشآت الصحية بشكل اكثر كفاءة    الأنبا إرميا يرد على «تكوين»: نرفض إنكار السنة المشرفة    دونجا: سعيد باللقب الأول لي مع الزمالك.. وأتمنى تتويج الأهلي بدوري الأبطال    وزيرة التعاون الدولي تُشارك في فعاليات المؤتمر الإقليمي للطاقة من أجل المرأة    مندوب مصر بالأمم المتحدة: العملية العسكرية في رفح الفلسطينية مرفوضة    سائق توك توك ينهي حياة صاحب شركة بسبب حادث تصادم في الهرم    واشنطن: نرفض مساواة المحكمة الجنائية الدولية بين إسرائيل وحماس    خط ملاحى جديد بين ميناء الإسكندرية وإيطاليا.. تفاصيل    مبدعات تحت القصف.. مهرجان إيزيس: إلقاء الضوء حول تأثير الحروب على النساء من خلال الفن    مصطفى أبوزيد: احتياطات مصر النقدية وصلت إلى أكثر 45 مليار دولار فى 2018    7 مسلسلات وفيلم حصيلة أعمال سمير غانم مع ابنتيه دنيا وايمي    الخميس آخر يوم فى الموجة شديدة الحرارة.. الأرصاد تبشر المواطنين    «سلومة» يعقد اجتماعًا مع مسئولي الملاعب لسرعة الانتهاء من أعمال الصيانة    اتحاد منتجي الدواجن: السوق محكمة والسعر يحدده العرض والطلب    التصريح بدفن جثمان طفل صدمته سيارة نقل بكرداسة    الاحتلال يعتقل الأسيرة المحررة "ياسمين تيسير" من قرية الجلمة شمال جنين    وكيل "صحة مطروح" يزور وحدة فوكة ويحيل المتغيبين للتحقيق    إصابة شخصين في حريق شب بمزرعة بالفيوم    «الداخلية»: ضبط متهم بإدارة كيان تعليمي وهمي بقصد النصب على المواطنين في الإسكندرية    ميدو: غيرت مستقبل حسام غالي من آرسنال ل توتنهام    وزير الرياضة يهنئ منتخب مصر بتأهله إلي دور الثمانية بالبطولة الأفريقية للساق الواحدة    طبيب الزمالك: إصابة أحمد حمدي بالرباط الصليبي؟ أمر وارد    الدوري الإيطالي.. حفل أهداف في تعادل بولونيا ويوفنتوس    "رياضة النواب" تطالب بحل إشكالية عدم إشهار22 نادي شعبي بالإسكندرية    بعد ارتفاعها ل800 جنيها.. أسعار استمارة بطاقة الرقم القومي «عادي ومستعجل» الجديدة    موعد عيد الأضحى 2024 في مصر ورسائل قصيرة للتهنئة عند قدومه    دعاء في جوف الليل: اللهم ابسط علينا من بركتك ورحمتك وجميل رزقك    وزير الصحة: 5600 مولود يوميًا ونحو 4 مواليد كل دقيقة في مصر    بوتين: مجمع الوقود والطاقة الروسي يتطور ويلبي احتياجات البلاد رغم العقوبات    إيران تحدد موعد انتخاب خليفة «رئيسي»    إجازة كبيرة رسمية.. عدد أيام عطلة عيد الأضحى 2024 ووقفة عرفات لموظفين القطاع العام والخاص    كيف أثرت الحرب الروسية الأوكرانية على الاقتصاد العالمي؟.. مصطفى أبوزيد يجيب    أطعمة ومشروبات ينصح بتناولها خلال ارتفاع درجات الحرارة    على باب الوزير    متى تنتهي الموجة الحارة؟ الأرصاد الجوية تُجيب وتكشف حالة الطقس اليوم الثلاثاء    سعر الدولار والريال السعودي مقابل الجنيه والعملات العربية والأجنبية اليوم الثلاثاء 21 مايو 2024    حظك اليوم برج الميزان الثلاثاء 21-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    بدون فرن.. طريقة تحضير كيكة الطاسة    تكريم نيللي كريم ومدحت العدل وطه دسوقي من الهيئة العامة للاعتماد والرقابة الصحية    وزير العدل: رحيل فتحي سرور خسارة فادحة لمصر (فيديو وصور)    مدبولي: الجامعات التكنولوجية تربط الدراسة بالتدريب والتأهيل وفق متطلبات سوق العمل    تأكيداً لانفرادنا.. «الشئون الإسلامية» تقرر إعداد موسوعة مصرية للسنة    الإفتاء توضح حكم سرقة الأفكار والإبداع    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    وكيل وزارة بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذى الحجة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المشهد اليوناني يستدعي ثقافة جديدة في منطقة "اليورو"
نشر في البوابة يوم 08 - 07 - 2015

إذا كان المشهد اليوناني الراهن يشكل لحظة وصفت بأنها "فارقة في الاقتصاد العالمي" وتستدعي مراجعة الأدوات الاقتصادية التي سادت طويلا فإن هذا المشهد وفي القلب منه إشكالية الديون الثقيلة يستدعي بالضرورة ثقافة جديدة في العالم ككل بقدر ما يؤكد على الحاجة لعولمة مغايرة.
ورغم احتفالات اليونانيين منذ ظهور نتائج الاستفتاء برفض شروط الدائنين بفرض المزيد من إجراءات التقشف القاسية مقابل تقديم قروض جديدة لليونان، فإن هذه الاحتفالات لا يمكن أن تحجب أسئلة صعبة حول المستقبل كما أنها تؤشر لإشكالية الديون ككل وبما يتجاوز وضعية هذا البلد صاحب الحضارة العريقة التي تشكل أحد أهم الأصول الثقافية للغرب.
وإذا كانت نسبة بلغت 61. 3% من اليونانيين قد رفضت شروط الدائنين أو بالأحرى اشتراطات الاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص مقابل موافقة نسبة بلغت 38. 7% على هذه الشروط التقشفية فإن اليونان المدينة ب323 مليار يورو التي عجزت عن تسديد دفعة من ديونها في الأسبوع الماضي بلغت قيمتها 1.5 مليار يورو مهددة بانهيار نظامها المصرفي ومرشحة للخروج من منطقة اليورو.
ولئن كانت أزمة الديون اليونانية قد بدأت منذ أواخر عام 2009 وبالتزامن مع ما عرف بالأزمة المالية العالمية التي صدرتها الولايات المتحدة للعالم فهل يتمرد التاريخ على هيمنة المركز الرأسمالي الغربي ويعقد حلفا مع الاقتصاد لتغيير العالم بصورة جذرية وكتابة فصل جديد في قصة صعود واضمحلال الإمبراطوريات ؟!.
صحيح أن اليونان كبلد سيبقى في كل الأحوال لكن من الصحيح أيضا التساؤل عن مضمون هذا البقاء وطبيعة الدولة اليونانية في حالة الخروج من منطقة اليورو والعودة للعملة اليونانية "الدراخما" التي تفيد تقديرات الخبراء الاقتصاديين أنها ستفقد حينئذ نسبة لا تقل عن 40 % من قيمتها وستزداد صعوبة تسديد الديون بما يعني تصنيف اليونان كدولة عاجزة عن تسديد ديونها.
وبعض الخبراء يتحدثون عن إغلاق البنوك اليونانية تباعا في سياق خروج اليونان من الاتحاد الأوربي وتصاعد مخيف في معدلات الهجرة لعناصر النخب والأيدي العاملة المدربة والماهرة لدول أخرى مع ارتفاع في معدلات البطالة ونسبة الفقر.
لكن هذه الآثار السلبية تنسحب أيضا على الاتحاد الأوربي حيث ستضرب فكرة الوحدة الأوربية في مقتل وقد تنخفض قيمة اليورو ناهيك عن خسارة مقدرة بمئات المليارات للبنوك الأوربية الدائنة لليونان إن عجزت هذه الدولة عن تسديد ديونها وباتت رسميا دولة مفلسة.
وواقع الحال أن "الملف اليوناني" حافل بالأسئلة ومفتوح على إجابات اللحظة القلقة كما تقدمها العديد من التقديرات والدراسات والطروحات لتتحول الجدران بالمعرفة إلى أجنحة!، إذا كان السؤال طريق المعرفة فلكل مرحلة أسئلتها والعالم يبدو على إيقاع الأزمة اليونانية كدراما كونية ملغزة لا تعرف فيها الأخيار من الأشرار!..العالم يتغير والكتب والطروحات تتوالى حول اتجاه التغيير وصورة العالم القادم ومعطيات المشهد المغاير.
والديون التي تبقى عنوانا رئيسيا للمشهد اليوناني كما هو المشهد في بلدان أخرى كانت موضع اهتمام مثقفين بارزين في هذا العالم وتناولها مفكرون كبار بالبحث والتمحيص من زوايا متعددة لا تنحصر في البعد الاقتصادي وحده.
وهكذا وفي سياق تأملات نقدية عميقة لإشكالية الديون التي كانت من أهم عوامل الأزمة الاقتصادية العالمية وتداعياتها التي تشمل الأزمة اليونانية الراهنة، صدر كتاب "تسديد الديون.. الديون وظلال الثروة" بقلم مارجريت اتوود وهى روائية وشاعرة وناقدة كندية يتردد اسمها ضمن المرشحين لجائزة نوبل في الأدب.
وفي هذا الكتاب الذي يتكون من خمسة فصول تناولت المؤلفة الديون من زوايا متعددة من بينها الأدب والعقيدة والمجتمع كما ناقشت اتوود طبيعة الخطيئة وبنية المكيدة وتركيبة المؤامرة وممارسات الانتقام ورد البيئة عندما يأخذ البشر من الأرض أكثر مما يعطوها.
ويقول الناقد جون جراى إن مارجريت اتوود قدمت في هذا الكتاب طرحا يمزج بين التحليل الصارم والضليع وبين الخيال الفاتن والطريف لتنتج عملا من أهم وأقوى الأعمال التي تصدت لسبر أغوار الأزمة المالية الأخيرة ومحاولة شرحها وإثارة نقاشات جدية حولها.
مشروع اتوود هو إظهار السبل التي تشكل بها تصورات الديون الفكر الإنساني بعمق والواقع أنها تركز في كتابها هذا على فكرة جوهرية فحواها أن الأنشطة الاقتصادية بما تتضمنه من إقراض واقتراض هي تجليات مجازية لشعور إنساني ملح بضرورة التداين أي بعدم الاستغناء أو عدم الاكتفاء بالذات ومن ثم الشعور بضرورة الحاجة للآخر.
ولئن مصطلح "الديون الدافعة للنمو" قد تردد في سياق الأزمة اليونانية فمسألة الديون من وجهة نظر مثقفة كبيرة مثل مارجريت اتوود ليست مجرد انعكاس لأنشطة مثل أنشطة البورصة وإنما هي قضية أوسع وأعمق بكثير وتضرب بجذورها في العديد من الأنشطة الإنسانية.
بل إن مارجريت اتوود تضرب أمثلة لتأييد فكرتها من عالم الكائنات غير الإنسانية.. تتوغل مارجريت اتوود في التاريخ وتستعير كلمة "ماعت" من التاريخ الفرعوني كمفهوم يعني عند الفراعنة أو المصريين القدماء العدل والفضيلة والتوازن والصدق كمبادىء حاكمة للطبيعة والكون.
وهذا المفهوم يتسع ليشمل أيضا السبل اللائقة التي ينبغي أن يتعامل بها الناس مع بعضهم البعض بما في ذلك التداين إضافة للنظام الاجتماعي السليم والعلاقة بين الأحياء والموتى جنبا إلى جنب مع معايير السلوك العادل والصادق والأخلاقي وتشمل تلاوين كلمة ماعت وظلالها الطريقة التي ينبغي أن تكون عليها الأشياء فيما يعني عكسها ونقيضها الفوضى بالمعنى المادي والأنانية والافتراء والكذب والممارسات الشريرة على وجه العموم وكل ما يجافي ناموس الحق.. وهكذا فمن الحق القول إن الممارسات الجائرة لبعض الأنظمة في حق شعوبها تتحول إلى ديون ثقيلة لابد وأن تسددها هذه الأنظمة عاجلا أو أجلا وهو ما ينطبق أيضا على ممارسات الشمال الغني في حق الجنوب الفقير.
وهناك أيضا ديون التاريخ التي لا يمكن شطبها عندما تتحول إلى جرائم في حق الشعوب وهى ديون أهم وأخطر بكثير من تقديرات البنك الدولي للديون المستحقة على بلدان كاليونان وغيرها وهذا المفهوم الواسع حقا للديون كما طرحته مارجريت اتوود في كتابها يربط بين التوازن في أمور البشر وبين نظام الكون والعدالة في وقت قدرت فيه تكاليف العمليات العسكرية الأمريكية في أفغانستان والعراق أثناء العقد الأول من هذا القرن ب1، 1 تريليون دولار وحصلت إسرائيل في العقد ذاته على معونات أمريكية بلغت 27 مليار دولار!.
وفي فصل بديع بكتابها "الديون وظلال الثروة" تناقش مارجريت اتوود دور الديون كفكرة أساسية وحاكمة في الأدب الروائي الغربي وخاصة في روايات وقصص القرن ال(19) وتوغل في كيفية توظيف كريستوفر مارلو للديون ضمن حبكته الروائية لرائعة "الدكتور فاوست".. إنها الرائعة التي كتبت أكثر من مرة بأقلام مبدعة من بينها قلم الأديب الألماني الأشهر جوته والذي صاغها في مسرحية شهيرة.
فالديون لا تعنى فقط عبئا ينبغي الوفاء باستحقاقه وتسديده وإنما تشكل أيضا أحد المحاور المهمة في الإبداعات الروائية والقصص والحكايات التي يحكيها الناس عن أنفسهم وعن الآخرين.. وفي الأزمة المالية العالمية الأخيرة كانت الديون في قلب المشهد عندما عجز أو امتنع كثير من الذين استدانوا في السوق العقارية عن تسديد ديونهم.
انتقلت الأزمة من سوق العقارات الأمريكية إلى القطاع المصرفي ومنه إلى شرايين الأنشطة الاقتصادية في شتى أنحاء العالم..لكن الكاتبة مارجريت اتوود رأت في كتابها أن ما حدث أدى لتدمير ثقة بعض من استدانوا في المجتمع الذي أغواهم على الاستدانة فيما أصيب هؤلاء الذين تبددت أغلب مدخراتهم بين عشية وضحاها بصدمة لن ينسوها.
كانت الصدمة ترجع أيضا لانهيار السرد الرأسمالي الذي اعتادوه واستخدموه كمرجع لتفسير الأحداث وفهمها!..وبالتأكيد فإن الصدمة ترج بلدا كاليونان مع الأزمة الاقتصادية والعجز عن استئناف النمو الاقتصادي لمسيرته قبل الأزمة الأخيرة في عام 2009 وقد يستخدم نموذج "العلة والمعلول" على مدى سنوات قادمة من جانب مؤرخين مهمومين بالإجابة على السؤال الكبير:"متى وكيف وضع الاقتصاد العالمي على الطريق الذي أدى لهذه الأزمة"؟.
إنها الأزمة التي جذبت بعض مشاهير الأدب والكتابة في العالم لمجال الاقتصاد الذي يتجاوز بكثير الأرقام الصماء والمعادلات الصارمة والتقارير الجافة!.. فهل ينجح الأدباء وأهل القلم في فض غلالة الأسرار التي أحاطت بهذه الأزمة وكيف ينظر المثقفون لتلك الأزمة بتداعياتها المستمرة وضرباتها الارتدادية المستمرة هنا وهناك ؟!.
البعض يسمي ما حدث ويحدث جراء هذه الأزمة بعاصفة النار الاقتصادية لكن ما حدث في الحقيقة يلفت أيضا بقوة للعلاقة بين التنمية والعدالة والحرية وأن القضية ليست مجرد أرقام صماء حول ارتفاع معدلات النمو وإنما هي في جوهرها سؤال كبير حول توزيع عائد التنمية ضمن صيغة العدل والحرية..ففي غياب هذه الصيغة تتحول معدلات وأرقام النمو الاقتصادي وأحاديث المعجزة الاقتصادية لأكذوبة وعهن منفوش!.
وكما تقول مارجريت اتوود بحذق فإن طريق المفاهيم ليس بطريق الاتجاه الواحد وهنا فإن الاقتراض أو استعارة مفهوم من مجال ما لمجال آخر أمر ملحوظ عبر التاريخ الإنساني وشعور البشر بأهمية التداين سواء في مجال الأفكار أو الاقتصاد وبقية الأنشطة الإنسانية بل إن البعض في الغرب قد تطرف لحد القول إن كل ما يملكه الإنسان جاء من خلال الاقتراض والاستعارة بما في ذلك جسده!.
هكذا يكون الإنسان في نظر المنتمين لهذا الاتجاه في الغرب "كائن مدين بديون ثقيلة وشاملة".. وحتى في خضم المساعي الأمريكية المحمومة للخروج من قبضة الآثار الجسيمة للأزمة الاقتصادية التي كانت الديون سببا رئيسيا لها فإن المزيد من الديون تشكل في نظر بعض خبراء الاقتصاد مخرجا وحلا على صعيد السبل الرامية لتشجيع الطلب فيما سيكون على الشركات أن تقترض لتمويل إنتاج المزيد من المنتجات لتلبية هذا الطلب!.
لكن الفارق كبير والبون شاسع وواضح بين الاقتراض للترف الشكلاني والاستفزازي والاقتراض للإنتاج والنمو الفعلي.. وتقول الكاتبة الكندية مارجريت اتوود لولا وجود مؤسسات تؤدي مهمة الإقراض بكفاءة ويسر في الغرب لما تطورت الرآسمالية الغربية كل هذا التطور ووصلت للدرجة العالية التي بلغتها.
والاعتقاد بأن الديون تنطوي على خطورة بقى أيضا كمكون هام في مدركات الرآسمالية رغم نظرة البعض للديون بوصفها ظاهرة حميدة ولا غنى عنها من أجل العافية الجماعية للمجتمع والحفاظ على قدراته الاستهلاكية بقدر ما تشكل أداة ضرورية لإقامة مشروع منتج وصنع الثروة وتعزز ثقافة التعاون والتفاهم بين البشر.
غير أن العالم بات ينظر للديون في ظلال الأزمة الاقتصادية الأخيرة وتداعياتها المستمرة في بلد كاليونان باعتبارها مرادفا للخطيئة.. وترصد مارجريت اتوود في كتابها ملابسات النظرة السيئة للديون بقولها إنها ترجع في الحقيقة لقيام البعض بالاستدانة دون أن تكون لديهم أدنى قدرة على تسديد هذه الديون بل إن الكثيرين من المنتمين لهذه الشريحة وجدوا من يشجعهم ويغريهم على الاقتراض وتلك هي المشكلة في نظر كاتبة تنتمى لتلك الفئة من الكتاب والمثقفين الشغوفين بالحقائق والذين يتمتعون برؤية نقدية متسائلة باستمرار عن معنى الأمور والطارحة لأسئلة لا تنتهى بقدر ما تجيب عن أسئلة ملحة.
وإذا كانت إشكالية الديون اليونانية هي الحاضرة الآن بقوة فإن هناك من يبعد الأنظار عن إشكالية الديون الأمريكية التي تحولت إلى كابوس عالمي فيما يرى الرئيس الأمريكي باراك أوباما إمكانية حل الإشكالية عبر النمو أو على حد قوله "فإن الشيء الأهم على الإطلاق لمعالجة الديون والعجز هو أن ننمو".
فالولايات المتحدة الأمريكية هي أكبر دولة مدينة في العالم وهى تعتمد بكثافة على شراء الصين للأوراق المالية والسندات الأمريكية.. ودون تدفق الرأسمال الصيني ما كان الدين الأمريكي ليصل لمستواه الراهن فيما كانت مستويات الحياة الأمريكية ستقل.
وواقع الحال أن الصين تساعد في تمويل العجز الفيدرالي الأمريكي ومن ثم فإنها تسهم في خفض تكاليف ديون الأمريكيين والمقابل لذلك كله ضمانات لأسواق مفتوحة أمام السلع الصينية في الولايات المتحدة ولأن هذا النوع من التفاهم كان مفيدا للجانبين في الماضي فإن تكاليف وتبعات وقفه فجأة ستكون شديدة الوطأة على الصين كما هو الحال بالنسبة للولايات المتحدة.
ولذلك يذهب أغلب علماء الاقتصاد إلى أن تلك العلاقة الأمريكية-الصينية ستستمر في المستقبل فيما ينحاز المضارب الشهير جورج سوروس للرأي القائل بضرورة قيام الصين بإعادة تقييم أكثر واقعية لعملتها الوطنية وعلى حد قوله فأمريكا مهددة اقتصاديا بالانكماش بينما الصين تعاني من ضغوط التضخم والأمريكيون يستهلكون أكثر بكثير مما ينبغي في مقابل استهلاك الصينيين لأقل مما ينبغي.
وإذا كانت أمريكا بحاجة لخفض عجزها التجاري فالصين لديها فائض كبير وها هي تشتري مليار يورو من الديون البرتغالية بفائدة أعلى من فائدة السوق في خطوة لن تغيب دلالتها عن ذهن اللبيب!..اما الكاتبة الكندية مارجريت اتوود فترى أن العامل الأهم في هذه العلاقة الغريبة بين الأمريكيين والصينيين أن الصين لم تعد فحسب هي الضامن لمستويات المعيشة المتعارف عليها في الولايات المتحدة وإنما هي أيضا التي تكفل استمرار المستويات العالية من النفقات العسكرية الأمريكية وهنا بالتحديد يكمن الخطر الكبير المتربص بالأمن القومي الأمريكي خاصة وأن الطرف الذي يمكنه إنهاء هذه العلاقة الغريبة ليس أمريكا وإنما الصين تلك القوة الصاعدة بثقة مقابل تراجع القوة الأمريكية المهيمنة!.
وإذا كان من المتصور أن المصلحة الاقتصادية الذاتية للصين قد تكون في لحظة ما أقل أهمية في اعتبارات صانعي القرار السياسي في بكين من الفرصة الجيبوليتيكية السانحة أمامهم مع افول الهيمنة الأمريكية فإن للمحلل أن يتساءل عن الفارق الفعلي بين السياسات المعلنة والسياسات الفعلية كواقع بالنسبة لأي دولة فيما يبقى السؤال الكبير حول مسار العلاقات الأمريكية-الصينية في القرن ال(21) هو:هل تتخذ هذه العلاقات صورة الشراكة أم تجنح نحو الصراع السافر وحرب باردة من نوع جديد؟!.
في الواقع ثمة حالة فريدة من التشابك بين المصالح الأمريكية والصينية حتى أن مفكرا إستراتيجيا في حجم زبجنيو بريجينسكى يرى أن أي أزمة داخل إحدى الدولتين يمكن أن تلحق أضرارا بالدولة الأخرى.. إنها حالة الشراكة الغريبة والحيوية والاعتماد المتبادل بين نظامين مختلفين.
لكن الضرورة تستدعي تقنين هذه الحالة ووضع دليل إرشادي لها خلال القرن ال(21) كما يرى زبجنيو بريجينسكى الذي يركز في سياق دعوته لإعادة تعريف العلاقات الأمريكية - الصينية للبحث عن الأهداف المشتركة وتقليل التناقضات قدر الإمكان فهل تنجح هذه الرؤية في الواقع أم أن الواقع أكثر تعقيدا ودهاء من رؤية بريجينسكى أحد دهاقنة الفكر الإستراتيجي الأمريكي؟.
ولئن كان هناك من تحدث عن الآثار الضارة التي ألحقتها الأزمة المالية الأخيرة بالرؤى السياسية التي شكلت مرتكزات للرأسمالية في الماضي فإن كتابا لهم شأنهم في الصحافة الأمريكية مثل فريد زكريا ذهبوا إلى أنه على الرغم من كل عيوب الرأسمالية فهى لاتزال المحرك الاقتصادي الأكثر إنتاجية الذي اخترعته البشرية. ومن الطريف أن فريد زكريا اختار عنوان "البيان الرأسمالي" على غرار "البيان الشيوعي" ليناقش بعض جوانب الأزمة المالية العالمية ويقول إن أفضل دفاع عن الرأسمالية جاء من بلدان مثل الصين التي تمكنت من النمو وانتشال ملايين الناس من الفقر من خلال دعمها للأسواق والتجارة الحرة.
والرأسمالية كما تحدث عنها فريد زكريا تعني النمو وعدم الاستقرار أيضا.. وها هو يقول إن ما نشهده الآن ليس أزمة رأسمالية بل أزمة مالية وديمقراطية وأزمة عولمة وفي النهاية أزمة أخلاق فسهولة الحصول على قروض مصرفية تؤدي إلى الجشع وسوء التقدير وفي النهاية إلى الهلاك.
وفي نقده للخطاب الاقتصادي السائد يؤكد عالم السياسة الأمريكي الشهير فرانسيس فوكوياما وصاحب كتاب نهاية التاريخ على أهمية الدور الذي تلعبه الثقافة في الاقتصاد سواء على مستوى التنمية الاقتصادية في الداخل أو الدور الذي تنهض به دولة ما في الاقتصاد العالمي غير أن صعود قوة مثل الصين لمناطحة الإمبراطورية الأمريكية يثير تساؤلات مبررة حول مدى صحة افتراض فوكوياما حول نهاية التاريخ بما اعتبره انتصارا نهائيا للرأسمالية الأمريكية.
ويركز فوكوياما على ما يمكن تسميته "برصيد الثقة أو رأس المال الحضاري" وهو القواعد والقيم الأخلاقية غير المكتوبة التي تتيح لأفراد جماعة ما أن يثقوا في بعضهم البعض..فالثقافة سلوك يومي وأسلوب في التفكير ونمط في التعامل وليست فقط التحليق في سموات الحضارة وفضاء الفكر وعالم المذاهب والمعتقدات.
ويميل فوكوياما نحو الرأي القائل إن العامل الثقافي أصبح هو العامل الحاكم في عالم اليوم بدءا من العلاقات الدولية التي يلعب فيها العنصر الثقافي دورا رئيسيا وصولا إلى تطور عادات وممارسات الشعوب وطرائق وأساليب معيشتها ومن هنا فالحاجة ماسة "لثقافة الصدق" في عالم الاقتصاد بدلا من الخداع والكذب والتسلط كعناوين مأثورة لدى القوى الغامضة والمستترة في أسواق المال وخاصة بورصة وول ستريت وهى قوى معادية بالضرورة لثقافة الصدق.
بل إن فوكوياما يجعل من "رأس المال الحضاري" مقياسا يعيد من خلاله رسم خارطة الاقتصاد العالمي.. موضحا أن الدول التي تتمتع برصيد كبير من الثقة بمقدورها تأسيس كيانات اقتصادية عملاقة وذات ثقل كبير في الاقتصاد العالمي.. وهكذا توقف فوكوياما عند الالتزام الأخلاقي طويلا باعتباره الطريق لشيوع الثقة بين أفراد الجماعة الإنسانية.
وتلاحظ مارجريت اتوود أن هناك اتفاقا عاما في الغرب بين العديد من المنتمين للاتجاه الديني المستنير والاقتصاديين التنمويين والدوائر الاجتماعية النقدية الماركسية حول خطأ مقولة ندرة الموارد وهم يدحضون صحة هذه المقولة التي يعتنقها من يسمون "بالمالتوسيين الجدد" بأنه يمكن عبر التجدد الأخلاقي والروحي والإصلاح المؤسسي والابتكار التقني تجاوز الحدود الطبيعية للنمو.
ولعل ذلك ما يقصده الرئيس الأمريكي باراك أوباما عندما يتحدث عن "النمو الأخضر" أي تعزيز النمو الاقتصادي بالاستثمار في تقنيات صديقة للبيئة..لكن المشكلة أن تطوير هذه التقنيات الصديقة للبيئة واستخدامها على نطاق واسع وحصد منافعها قد يستغرق وقتا طويلا وسنوات عديدة فيما تبدو الحاجة للخروج من مأزق الكساد أولوية عاجلة وملحة ومن ثم فالاحتمال الأرجح هو استخدام كل السبل المتاحة لاستئناف النمو الاقتصادي حتى لو كانت بعض هذه السبل معادية للبيئة وتزيد من ديون الإنسان للكوكب الذي يعيش به بكل الأسف!.
والحكمة التي أرادت مارجريت اتوود نقلها عبر صيغ مختلفة في كتابها هي:"أن الديون لابد وأن تسدد"!.. بل إن أحد أهم أسباب الأزمة المالية الأخيرة ذلك النمط للاقتصاد السياسي الذي ساد في أمريكا على مدى نحو عقدين متجاهلا حكمة أن الديون لابد وأن تسدد.
غير أن المفارقة أن جوهر الخروج من الأزمة كان إعادة توزيع الموارد المالية وتحويلها من الذين ادخروا إلى الذين اقترضوا وبما يتنافى مع هذه الحكمة وغيرها من القيم التقليدية!..فالخروج من هذه الأزمة اقتضى خفض قيمة الديون السابقة والحصول على قروض جديدة ثم أن العودة لمستويات الاستهلاك التي سادت قبل الأزمة يعني ثقل فاتورة الديون البيئية!..فما العمل؟!..الإجابة عند اتوود هي تفعيل مبدأ المحاسبة والمساءلة وإعلاء الضمير السوي وثقافة الصدق.
ومن مواقع نظرية مغايرة لحداثة الغرب وتشدد على إقامة التوازن بين الأصالة والمعاصرة متحاشية الانغلاق على الذات أو الصدام مع الأخر يقول الباحث اللبناني مسعود ضاهر في بحث بعنوان "الشهرة الزائفة" إن الغرب فشل في الحفاظ على نظام القيم وأسس لعولمة همجية أضعفت الطبقة الوسطى إلى الحد الأقصى بعد أن دمرت الطبقات الفقيرة وشردت ملايين العمال وألحقت خسائر بشرية ومالية كبيرة لم تشهد البشرية مثيلا لها منذ الأزمة العامة للرأسمالية عام 1929.
في كتابهما "الحيوية: كيف يحرك علم النفس الإنساني الاقتصاد ولماذا يهم الأمر الرأسمالية العالمية؟"، يرى المؤلفان جورج اكيرلوف وروبرت شيللر وهما من أساتذة علم الاقتصاد أن المشكلة مشكلة فكر وفشل ممنهج في التفكير من جانب زملائهما علماء الاقتصاد على مدى العقود الثلاثة الأخيرة.
وهما يذهبان إلى أن المحور المفقود أو الغائب في المشهد العالمي الراهن لدراسات علم الاقتصاد إنما يتمثل في عدم منح الاهتمام الكافي لمسألة الحيوية التي تعني العناصر النفسية وحتى غير المنطقية أو التصرفات المنافية للعقل لكنها تتجلى في العديد من الخيارات الفردية والسلوك الإنساني وتنفذ للسلوك الاقتصادي أيضا فيما تدخل عناصر مثل النزاهة والضمير والثقة ومناوئة الفساد وكبح جماح الاوهام ضمن المكونات البارزة لمفهوم الحيوية كما يتحدثان عنه في هذا الكتاب.
إنهما يعليان من شأن هذا المفهوم حتى إنهما يعتقدان أن إغفال مفهوم الحيوية بعناصرة ومكوناته يحول دون فهم الأزمة الراهنة وطرح أفكار مفيدة للتعامل معها.. وإذا كان جورج اكيرلوف البروفيسور بجامعة بيركلى قد حصل على جائزة نوبل عام 2001 فإن روبرت شيللر بدوره من أساتذة الاقتصاد في جامعة يال الذين يشار لهم بالبنان وله بمفرده كتاب آخر صدر بعنوان:"كيف حدثت الأزمة المالية العالمية وما العمل بشأنها؟.
ويدعو شيلر في هذا الكتاب لتعزيز مبدأ الإفصاح ونشر البيانات المالية وإتاحة المعلومات لمن يطلبها واستحداث هيئة أو وكالة حكومية جديدة على غرار لجنة حماية مستهلكي السلع وتكون مهمتها حماية المستهلكين بإطلاعهم على مدى سلامة المنتجات المالية.
والحق أن اكيرلوف وشيللر عمدا بصيغ متنوعة لإظهار مدى ضيق ومحدودية التيار الرئيسي في الفكر الاقتصادي الكلي خلال العقود الأخيرة بدعوى الانضباط والتمسك بمعايير بحثية صارمة وهو ما أدى من وجهة نظرهما لتكبيل قدرة علم الاقتصاد على تفسير ظواهر مثل الأزمة المالية الحالية أو اقتراح حلول لها.
وبالمناسبة فإن اكيرلوف وشيلر أظهرا في كتابهما تأييدا لمسألة تدخل الحكومة بإجراءات فورية وقسرية لإعادة الانضباط سواء في المصارف أو في المؤسسات المالية اللامصرفية.. هل هي عودة لأفكار الأشتراكية في مجتمع يمثل ذروة الرأسمالية؟!.
ويرى الكاتب والروائي اللبناني أمين معلوف في مؤلفه "اختلالات العالم" أن هذه الاختلالات ليست صراع حضارات وإنما هي مظهر لتفريغ الحضارات من محتواها الحضاري والحل من وجهة نظره يكمن في إعادة صياغة مفاهيم الرأسمالية لتكون أكثر إنسانية بعد أن جعلت العالم يصل لمرحلة الكفاءة اللاأخلاقية!.
لا يمكن لأي نظام رأسمالي أو اشتراكي أو غيره أن يعمل دون حس أخلاقي وقيم تديره..ومهما كانت الإصلاحات المعتمدة فهى لن تكون فعالة من دون الفطرة السليمة والقرارات الحكيمة والمعايير الأخلاقية.
وتتناول مارجريت اتوود في كتابها عن الديون إشكالية خطيرة في خضم الأنماط الاستهلاكية المعاصرة وهى مسألة إنهاك موارد الطبيعة واستنفادها لتلبية متطلبات الا"ديون لانهائية للطبيعة" فكيف سيسدد البشر هذه الديون التي ترجع في المقام الأول لممارسات الرأسمالية المنفلتة ومشاريعها التي لا تلقى بالا للتوازن البيئي فيما اندفعت بحمق لتؤثر بصورة سلبية خطيرة على مفردات التكامل الوظيفي البيئي مما سبب ظاهرة مثل الاحتباس الحراري بكل نتائجها المدمرة والتي تؤثر على العالم قاطبة؟!..إنها تتحدث عن "افتراس الإنسان للطبيعة" لإشباع دوافع استهلاكية غير سوية.
وترى الكاتبة الكندية مارجريت اتوود أن العالم يعود الآن للتصور النقي والواضح حول أهمية فضيلة الادخار وعدم التبذير في مواجهة سياسة عامة وتقليدية في الغرب كانت تشجع وتحفز على الاقتراض والاستدانة.
والنظرة الجديدة في الغرب هي أن يكون ضخ المال من جانب البنوك المركزية هدفه إعادة العافية والطاقة للأنشطة الاقتصادية "حتى يكون بمقدور المجتمع إقراض نفسه خارج الإطار التقليدي للاستدانة" وهى فكرة تقترب مما طرحه الاقتصادي الشهير جون كينز للتعامل مع الكساد العظيم في سنوات الثلاثينيات من القرن العشرين.
ويلاحظ جورج سوروس أن الأزمة ترجع أساسا لإخفاقات أسواق المال بسبب عدم الالتزام بأي ضوابط وقد تطرقت مارجريت اتوود في كتابها لأحد الجوانب اللاأخلاقية في ممارسات الرأسمالية كما تجلت في الأزمة الأخيرة وهى:أن الذين تحلوا بفضيلة الادخار والحرص خسروا بينما كان الفوز من نصيب الذين اقترضوا برعونة وجشع.
إنها ظاهرة انتقال الأموال من المدخرين للمقترضين وكأن الرأسمالية لا تستطيع أن تعمل بعدالة ونزاهة!..وكما تقول اتوود فإن إشكالية الظلم واللاعدالة بلغت حدا خطيرا وكانت محسوسة بقوة في خضم الأزمة الأخيرة للرأسمالية ولو استمرت هذه الممارسات الرأسمالية الوحشية فإن تأثيرها الاجتماعي المدمر قد يقضي في نهاية المطاف على الرأسمالية بحلوها ومرها ثم أن الدعاوى الخاصة بأن الرأسمالية الأمريكية هي النموذج الاقتصادي المنشود للعالم كله قد سقطت تحت سنابك الأزمة ودوى انفجاراتها.
في خضم هذه الأزمة كانت هناك إشارات اتهام نحو ما يعرف" بالقوى الغامضة والمستترة" أو شرائح الرأسمالية المتطرفة التي يصفها حتى المضارب الرأسمالي الشهير جورج سوروس بأنها أكبر عدو للمجتمع المفتوح بقيمة الديمقراطية.
لقد تطرق باراك أوباما لهذه "القوى الغامضة والمستترة" في كتابه "تراث أبي" عندما تحدث عن الدور الأمريكي في الإطاحة بنظام الزعيم الأندونيسي الوطني أحمد سوكارنو في منتصف الستينيات من القرن المنصرم بدعوى القضاء على النفوذ الشيوعي الذي استشرى في ظل نظام سوكارنو.
لكن أوباما الذي عاش جزءا من سنوات طفولته في أندونيسيا يقول إن ما حدث أدى للتمكين "لسلطة ظالمة" جاءت لتمنح العقود السخية لرجال الأعمال الأمريكيين الفاسدين مقابل رشاوى فهو يعرف ما تسببه القوى الغامضة والمستترة من ألام وشرور لهذا العالم.
لكن السؤال الذي يمكن بسهولة الإجابة عليه:"ما الذي فعله أوباما كرئيس للولايات المتحدة في مواجهة تلك القوى التي تقف ضد أي ضوابط في الاقتصاد وتناهض القوانين وتجافي العدالة وتنتهك القواعد الأصيلة للرأسمالية بقدر ما تكرس الظلم وتستغل العولمة لزيادة المظلومية في العالم الذي تنتقل مراكزه المتقدمة في الشمال من عصر الحداثة لعصر ما بعد الحداثة ومازالت تنظر للحروب بوصفها فرصة لتحقيق أرباح هائلة فيما تهدد أبسط معاني السلام الاجتماعي داخل المجتمع الواحد"؟!.
وهذه القوى الغامضة والمستترة التي تتحكم في تدفقات رأس المال تقوم بدور كبير في تشكيل ما يعرف بالعولمة والنظام العالمي الجديد فكيف لعالم الجنوب بما فيه عالمنا العربي أن يتعامل مع هذه القوى إن كان له أن يسعى للنمو الخلاق بدلا من أفكار خرجت من عباءة الرأسمالية الأمريكية المتطرفة ومراكز البحوث المتعددة التي تشكل إسنادا فكريا لهذا التيار وتنحت مصطلحات ومقولات تثير جدلا طويلا مثل مقولة الفوضى الخلاقة التي روجت لها وزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس؟!.
ومن المثير للتأمل أن هذه القوى المنتمية للاتجاه الرأسمالي المتطرف تنظر للحروب باعتبارها مشروعا رأسماليا مربحا وتعتبر الحرب مخرجا من الأزمات الاقتصادية حتى أن البعض يتخوف من إمكانية أن تؤدي هذه النظرة الرأسمالية المتطرفة في خضم الأزمة الاقتصادية الحالية لإشعال حرب كبيرة في منطقة كالشرق الأوسط.
ومع تسريبات القائمين على موقع ويكيليكس الإلكتروني الذي أثار زوابع في العالم بنشره وثائق سرية أمريكية فإن هذا الموقع لم يف بعد بوعده بنشر وثائق تخص عالم الشركات العملاقة وقد تساعد في كشف النقاب عن بعض ملامح القوى الغامضة والمتسترة في بورصة وول ستريت بقدر ما تجيب عن بعض ألغاز الأزمة المالية العالمية وتداعياتها في بلد كاليونان غير أن هذه التسريبات تكشف على أي حال بوضوح عن تغير نوعي في مفهوم الأمن القومي الأمريكي واتجاهه نحو التركيز على البعد الاقتصادي.
موحية ودالة كلمات الكاتب فريد زكريا عندما يقول: نحن في وسط أزمة كبيرة واللائمة تقع على الجميع ويجب إصلاح الكثير من الأمور بدءا من النظام الدولي وصولا إلى الحكومات الوطنية والشركات الخاصة لكن في الصميم هناك حاجة إلى إصلاح أعمق في داخلنا وإلى تحكيم الضمير وهنا بالتحديد تتجلى أهمية الثقافة وتبني نموذج ثقافي جديد يعلي من الاعتبارات الأخلاقية والضمير السوي.
إن كل أزمة تنطوي على فرص بقدر ما تشكل مخاطر وثمة فرصة تلوح الآن لإعلاء ثقافة الصدق في مواجهة ما تشكله "القوى اللاأخلاقية الغامضة والمستترة" من تحديات خطيرة تصل لحد انهيار النظام الرأسمالي العالمي كما أنذرت الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة وتداعياتها في أوربا التي تروعها الآن إشكالية الديون اليونانية!.. إنها إشكالية تؤشر لحقبة جديدة في الصراع على حركة التاريخ بين العولمة ذات الوجه الإنساني والعولمة ذات القبضة الرأسمالية المتوحشة بقيادة قوى غامضة ومستترة !.. فلمن تدق الأجراس؟!!.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.