قوات الاحتلال تمنع مئات الفلسطينيين من الوصول إلى المسجد الأقصى لأداء صلاة الفجر    لإنقاذ فرنسا، هولاند "يفاجئ" الرأي العام بترشحه للانتخابات البرلمانية في سابقة تاريخية    ساحات الشرقية تستعد لاستقبال المصلين في عيد الأضحى المبارك (صور)    بث مباشر.. ضيوف الرحمن يقومون برمي جمرة العقبة الكبرى بمشعر منى    الجمعية المصرية للحساسية والمناعة: مرضى الربو الأكثر تأثرا بالاحترار العالمي    حزب الله ينشر مشاهد من عملياته ضد قواعد الاحتلال ومواقعه شمالي فلسطين المحتلة (فيديو)    تشكيل منتخب هولندا المتوقع أمام بولندا في يورو 2024    عيار 21 الآن وسعر الذهب اليوم في السعودية الاحد 16 يونيو 2024    مصرع سيدة وإصابة 5 أشخاص فى حادث انقلاب سيارة فى الشيخ زايد    إصابة 9 أشخاص إثر انقلاب ميكروباص بالطريق الأوسطى    تمنتها ونالتها.. وفاة سيدة قناوية أثناء أداء فريضة الحج    ريهام سعيد: محمد هنيدي تقدم للزواج مني لكن ماما رفضت    باكية.. ريهام سعيد تكشف عن طلبها الغريب من زوجها بعد أزمة عملية تجميل وجهها    يوم الحشر، زحام شديد على محال بيع اللعب والتسالي بشوارع المنوفية ليلة العيد (صور)    تعرف على سنن وآداب صلاة عيد الأضحى المبارك    عاجل - الرئيس السيسي يشكر خادم الحرمين وولي العهد على حُسن الاستقبال ويشيد بتنظيم الحج    متلازمة الصدمة السامة، ارتفاع مصابي بكتيريا آكلة اللحم في اليابان إلى 977 حالة    93 دولة تدعم المحكمة الجنائية الدولية في مواجهة جرائم إسرائيل    دعاء لأمي المتوفاة في عيد الأضحى.. اللهم ارحم فقيدة قلبي وآنس وحشتها    موعد صلاة عيد الأضحى المبارك في القاهرة والمحافظات    موعد مباراة المقاولون العرب وطلائع الجيش في الدوري المصري والقنوات الناقلة    طقس أول أيام العيد.. أمطار وعواصف تضرب الوادي الجديد    «الموجة الحارة».. شوارع خالية من المارة وهروب جماعى ل«الشواطئ»    أثناء الدعاء.. وفاة سيدة من محافظة كفر الشيخ على صعيد جبل عرفات    إقبال متوسط على أسواق الأضاحي بأسيوط    تشكيل غرفة عمليات.. بيان عاجل من "السياحة" بشأن الحج 2024 والسائحين    الدعم العينى والنقدى: وجهان لعملة واحدة    الحج 2024.. السياحة: تصعيد جميع الحجاج إلى عرفات ونجاح النفرة للمزدلفة    طريقة الاستعلام عن فاتورة التليفون الأرضي    كرة سلة.. عبد الرحمن نادر على رأس قائمة مصر استعدادا للتصفيات المؤهلة لأولمبياد باريس    أنتم عيديتي.. كاظم الساهر يهنئ جمهوره بعيد الأضحى المبارك (فيديو)    شذى حسون تطرح أغنية «بيك تحلى» في عيد الأضحى    مش هينفع أشتغل لراحة الأهلي فقط، عامر حسين يرد على انتقادات عدلي القيعي (فيديو)    استقبال تردد قناة السعودية لمشاهدة الحجاج على نايل سات وعرب سات    عاجل.. رد نهائي من زين الدين بلعيد يحسم جدل انتقاله للأهلي    قبل صلاة عيد الأضحى، انتشار ألعاب الأطفال والوجوه والطرابيش بشوارع المنصورة (صور)    دعاء النبي في عيد الأضحى مكتوب.. أفضل 10 أدعية مستجابة كان يرددها الأنبياء في صلاة العيد    تأسيس الشركات وصناديق استثمار خيرية.. تعرف علي أهداف عمل التحالف الوطني    غرامة 5 آلاف جنيه.. تعرف علي عقوبة بيع الأطعمة الغذائية بدون شهادة صحية    «التعليم العالى»: تعزيز التعاون الأكاديمى والتكنولوجى مع الإمارات    «المالية»: 20 مليون جنيه «فكة» لتلبية احتياجات المواطنين    اتغير بعد واقعة الصفع، عمرو دياب يلبي طلب معجبة طلبت "سيلفي" بحفله في لبنان (فيديو)    أنغام تحيي أضخم حفلات عيد الأضحى بالكويت.. وتوجه تهنئة للجمهور    تزامنا مع عيد الأضحى.. بهاء سلطان يطرح أغنية «تنزل فين»    اندلاع مواجهات بين فلسطينيين وقوات الاحتلال فى جنين ورام الله    ملخص وأهداف مباراة إيطاليا ضد ألبانيا 2-1 في يورو 2024    خوفا من اندلاع حرب مع حزب الله.. «أوستن» يدعو «جالانت» لزيارة الولايات المتحدة    عاجل.. عرض خليجي برقم لا يُصدق لضم إمام عاشور وهذا رد فعل الأهلي    إقبال وزحام على محال التسالي والحلويات في وقفة عيد الأضحى المبارك (صور)    عاجل.. الزمالك يحسم الجدل بشأن إمكانية رحيل حمزة المثلوثي إلى الترجي التونسي    إلغاء إجازات البيطريين وجاهزية 33 مجزر لاستقبال الأضاحي بالمجان في أسيوط    شيخ المنطقة الأزهرية بالغربية يترأس وفداً أزهرياً للعزاء في وكيل مطرانية طنطا| صور    للكشف والعلاج مجانا.. عيادة طبية متنقلة للتأمين الطبي بميدان الساعة في دمياط    حلو الكلام.. لم أعثر على صاحبْ!    بمناسبة العيد والعيدية.. أجواء احتفالية وطقوس روحانية بحي السيدة زينب    فحص 1374 مواطنا ضمن قافلة طبية بقرية جمصة غرب في دمياط    رئيس الوزراء يهنئ الشعب المصرى بعيد الأضحى المبارك    وزيرة الهجرة: تفوق الطلبة المصريين في الكويت هو امتداد حقيقي لنجاحات أبناء مصر بمختلف دول العالم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"المسيحيون بين الوطن والمقدس".. الخلافة العثمانية (4)
نشر في البوابة يوم 09 - 08 - 2016

تنفرد "البوابة القبطية"، بنشر فصول كتاب "المسيحيون بين الوطن والمقدس" للدكتور إكرام لمعي أستاذ مقارنة الأديان، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب:
الفصل الرابع: المسيحيون والخلافة العثمانية ( 1517 - 1805 )
كان لهزيمة المماليك ( 39 )على يد العثمانيين عام 1517 م أثره الواضح على الوضع السياسي والاجتماعى على كل المصريين إذ صاروا جميعًا تحت حكم غريب من الأستانة وهكذا تغيرت الأحوال ثانية حيث أصبحت مصر خاضعة للإمبراطورية العثمانية تحت حكم السلطان سليم الأول الذي بعث إلى إسطنبول عدة آلاف من أمهر المصريين بينهم عدد كبير من الأقباط في كل المهن والحرف وهذه كانت عادة الإمبراطوريات القديمة عندما تجتاح البلاد فتختار أفضل ما فيها من علماء وحرفيين ومفكرين وترسلهم إلى العاصمة للاستفادة بعقولهم في بناء الدولة الغازية، هكذا فعل البابليون والآشوريون والفرس وهكذا تفعل الولايات المتحدة الأمريكية في هذه الأيام ليس قسرا لكن بإغراءات مادية عالية فهى تبحث عن الطلاب الذين تبدو في ملامحهم العبقرية المبكرة وتغريهم بالمال والجنسية الأمريكية والعمل وهي تقوم بذلك بطريقة منظمة في مصر ولبنان وباكستان والهند وجنوب شرق آسيا من خلال الجامعات الأمريكية المنتشرة بكثرة في هذه البلاد وذلك لسببين إفراغ هذه الدول من النابهين وتعضيد حضارتها بأذكياء العالم.
و كانت أحوال المصريين تحت الحكم العثمانى ( 40 ) مرتبطة بأنها ولاية تابعة تدار من على البعد من السلطة المركزية أي ليست دولة مستقلة كما كانت من قبل، ومن هنا كان من الضرورى التفرقة بين دور الإدارة المركزية في إسطنبول والإدارة المحلية في القاهرة وإمتداداتها الإدارية المنتشرة في طول البلاد وعرضها من هنا ندرك أن الدور الرئيس تلعبه الإدارة المحلية في القاهرة سواء بحكم السلطات الممنوحة لها من الإدارة المركزية في إسطنبول أو بحكم قربها من موقع الأحداث أو إلى نظرية الدولة الإمبراطورية التي تضم شعوبا متعددة، وهنا تختلف دولة عن أخرى فمصر مثلا كان نفوذ المماليك والقوى المحلية ومحاولات الخروج أحيانا على الدولة العثمانية أمرًا بديهيًا، لذلك كان الأقباط أقرب إلى السلطات المحلية من المركز في إسطنبول وقد كان الأقباط مطمئنون في ظل حاكم قوى مثل على بك الكبير لكن حكامًا آخرين طالبوا بمزيد من الأموال بإصدار قوانين ضرائبية جديدة خلقت معاناة لكل شعب مصر، وقد برز من الأقباط شخصيات لعبوا دورا هاما في الحياة العامة قبل ظهور مصر الحديثة مثل المعلم رزق الذي كان رئيسا للكتبة الأقباط تحت حكم على بك الكبيروخلفه بعد وفاته المعلم إبراهيم الجوهرى، في تلك الأثناء تحولت الجزية إلى ما هو أقرب إلى ( ضريبة دفاع ) منها إلى أنها جزاء كفرهم، يدعم هذا الرأي الإعفاءات التي تتمتع بها النساء والأطفال والرهبان ومرضى الجزام وأحيانًا الشيوخ وهي العناصر التي لا يمكنها الاشتراك في القتال ومن الواضح هنا أنه بدأت تقدم تفسيرات جديدة لنظم قديمة ( الجزية وأهل الذمة ) وكذلك تم رفع الحوافز المالية التي كانت تدفع الأقباط للتحول للإسلام نتيجة التطور الإنسانى العام وقد كان ذلك تمهيدا للتطور القادم في الطريق بالإنفتاح على العالم الجديد في أوروبا.
و قد تم ( 41) إلزام البطريرك القبطى بجمع الجزية من الأقباط وذلك للحيلولة دون تعسف من المحصلين وضمان وصول المال كاملا إلى خزانة الدولة.
و أيضا تم التغاضى عن إلزام النصارى بالأزياء التي كانت مفروضة عليهم ( الزناروالزنط والألوان ) ولم
نسمع طيلة العصر العثمانى عن إلزام النصارى بزيهم الأصلى إلا في الأيام العصيبة التي مرت بها مصر أيام حملة حسن باشا لردع المماليك المتمردين.
و قد كانت هنالك قيود أخرى مثل ركوب الدواب ودخول الحمامات العامة أو امتلاك الجوارى لكن ثبت أن المصادر القبطية تغالى كثيرا في هذا الأمر والمصادر الأخرى تقلل من شأنها لكن مصادر القناصل الأجانبالعائشون في مصر ( إنجلترا وفرنسا ) تحدثوا على أنها أمور هامشية وليست دائمة وكان هنالك أقباط يمتلكون عدة جوارى بما معناه أن القصة ترتبط بالمستوى الإجتماعى للفرد فمن يمتلك الكثير من مسلم أو مسيحى يستطيع أن يتجاوز القوانين المفروضة بسهولة والذي يمتلك القليل من السهل تخويفه وإخضاعه، وهي عادة مصرية قديمة جديدة يمكن رصدهافي المجتمع المصرى حتى اليوم في ملابس النساء التي توضح الطبقة الاجتماعية للمرأة وتختلف هذه الملابس من الأحياء الراقية إلى الأحياء الشعبية إلى الصعيد.. وهكذا رغم ارتباط الثياب بالتدين سواء للمسيحيات أو المسلمات.
و من أهم التغيرات التي أدخلها العثمانيون إلى مصر نظام الملل والنحل ( 42 )، ولقد ظهر هذا النظام ( الملة ) لدمج اتباع كل طائفة معا وطبقا لهذا النظام سمح لكل طائفة أن تعيش وفق عاداتها وتقاليدها وقوانينها الخاصة، على أن تعيش كل ملة بعيدة عن الملل الأخرى، ولم يكن هناك تعاملات مالية بين الملل المختلفة
و لا تزاوج بينهم، وبحسب مفهوم العثمانيين للحكم فكل أعضاء أي ديانة هم أهل ملة واحدة، ولكل ملة
رأس أو رئيس وكان رأس كل المسلمين هو ( السلطان ) العثمانى وهكذا كان بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية رأسا لكل المسيحيين ولقد أضعف هذا النظام مكان بطاركة الكنائس الأخرى خاصة الشرقية ومصر والذي كان أقوى أيام حكم العباسيين وإن كان قد حصل بعضهم على درجة من الإستقلالية بالقدر الذي سمح به القانون العثماني ولقد كان فصل أتباع الملل ( 43 ) سببًا رئيسيًا في زيادة عدد المسيحيين العرب في الهلال الخصيب في القرن السادس عشروالقرن التاسع عشر حيث وصلت نسبتهم إلى 20% من إجمالي عدد السكان وبدون شك فقد ساعدت القوانين المانعة للزواج المختلط والغاءالحوافز المالية المؤدية للتحول إلى الإسلام في هذه الزيادة وقد تميزت التجمعات المسيحية في المدن الساحلية ( بسبب الهروب من المغول ) بمجموعة من المميزات عن غيرها من التجمعات الإسلامية حيث صار المسيحيون أكثر انفتاحا على أوروبا من ناحية التجارة والحياة الاجتماعية وسبب آخر في ارتفاع نسبة المسيحيين هو حرصهم على وجود نظام صحى أفضل على عكس النظام الذي اتبعه المسلمون، فقد كان المسيحيون يقومون بعزل عائلاتهم عن بعضهم البعض وقت الأوبئة.كذلك تميز المسيحيون في مجال التعليم وصاروا قادة في هذا المجال، كل هذا أدى إلى زيادة عددهم في ظل الخلافة العثمانية ولكن تمثلت المشكلة في أن نموهم وازدهارهم تحول إلى هجرات جماعية إلى أماكن أكثر استقرارا من مجتمعات القلاقل والاضطرابات سواء كانت المناطق مسيحية أم غير ذلك هذا إضافة إلى الوضع الإقتصادى المتمدن، وتغيرالوضع منذ منتصف القرن التاسع عشر، إذ هاجر المسيحيون اللبنانيون مع بعض المسلمين إلى الولايات المتحدة الأمريكية والبرازيل واستمرت هذه الهجرة حتى القرن العشرين وتوجد الآن تجمعات مهمة من المسيحيين العرب في مدن أمريكا واستراليا وأوروبا وكندا وكذلك انتقلت معهم بالتوازي بطريركات قديمة وأسقفيات يعود تاريخها إلى ما قبل الإسلام كذلك حدث إنفتاح على الغرب في مصر من خلال الحملة الفرنسية ( 1798 م -1801م ) والذي سوف نأتى إليه بالتفصيل في الفصول التالية.
أما الآن فسوف نتحدث عما قام به المسيحيون المصريون من بناء للحضارة العربية الإسلامية في ظل الخلافة العثمانية وهو يتلخص في ثلاثة أمور هامة:
1 - الإدارة المالية.
2 - النشاط الاقتصادي.
3 -دور الكنيسة المصرية ( 44 ).
أولا: المسيحيون ودورهم في الإدارة المالية للدولة المصرية أثناء الخلافة العثمانية:
يرجع تميز المسيحيين في الإدارة المالية إلى اللحظات الأولى للفتح الإسلامي لمصروحاجة الحكام المسلمون الجدد إلى تصريف شئون البلاد بعد رحيل البيزنطيين، فالمسيحيون الوطنيون هم أدرى العناصر الوطنية بشئون البلاد في الوقت الذي لم يكن لدى المسلمين الخبرة الكافية لإدارة شئون البلاد ومنذ ذلك الوقت حرص المسيحيون المصريون على التميز في هذا المجال بل واحتكاره، ولقد وجد الأقباط في إحتكارهم لهذا الفرع الهام تعويضًا لهم عن عدم توليهم مناصب عليا في إدارة البلاد مع أن المسلمين يشاركون الأقباط في عدم وصولهم للمناصب العليا لأنها كانت حكرا على أرباب السيف ( الجيش ).( 45 ) وكان المسيحيون يقومون بإدارة ألاموال برصد الأرقام وتقسيم البلاد لجباية الضرائب باللغة القبطية.
و كان من الصعب على المسلمين تعلمها فتركوا الأمر لهم تمامًا وعندما تقرر تعريب الدواوين على مستوى الخلافة الأموية كما ذكرنا من قبل كان المسيحيون الذين يقومون بالإدارة المالية قد تعلموا العربية وأتقنوهاقبل تعميمها فلم يحتاجوا لأحد من المسلمين ليعلمها لهم كما تكاسل المسلمون في أن ينخرطوا في الإدارة المالية ووتعقيداتها، وكان المسيحيون يعلمون أولادهم ويوظفونهم في الإدارة المالية وبالطبع أعطت الإدارةالمالية للمسيحيين العاملين بها نوعا من الثراء وكذلك السطوة وقد أثار ذلك حفيظة المسلمين في مصر وحاولوا أخذها منهم بالشكوى سواء للحكام المحليين أو الخلافة لكن الواقع أثبت أنه لا بديل لهم حيث يحملون أسرار العمل ويورثونها لجيل بعد جيل وأحس الخلفاء والحكام أنه لو منع المسيحيون من الإدارة المالية ستحدث كارثة مالية في البلاد، وهكذا لم تثمر سياسات منع الأقباط من تولى الإدارة المالية عبر تاريخ مصر الإسلامية ولم تؤد إلى تنحية المسيحيين عن لعب دورهم التاريخى في الإدارة المالية ولقد استمر هذا الأمر في مصر الحديثة حتى قبل ثورة 23 يوليو 1952 حيث كانت البنوك والبوستة والإدارات المالية حكرا على المسيحيين وكان هذا أحد عوامل إنتعاش الاقتصاد المصرى على مدى التاريخ ومن أهم الوظائف التي شغلها المسيحيون وظيفة ( المباشر ) سواء في الإدارات الحكومية مثل ديوان الروزنامة المختص بمالية البلاد "وزارة المالية الآن" أو لدى الأمراء والمتنفذين ( أصحاب الثروات ) وحتى لدى المعمارباش ( وزارة الإسكان ) اشتغل المسيحيون أيضا بوظائف المباشر في الشئون السلطانية وأيضا بدار ضرب ( صك العملة ) حتى في إدارة الجمارك والعجيب أنه حتى ديوان الحسبة والمحتسب الذي تنبع وظيفته من مفهوم وفقه إسلامى كان هناك ( برسوم النصرانى ) مباشر الحسبة.
و نجد المعلم جرجس بن شنودة بن إيليا المباشر بخدمة دولارأغا ناظر الدشيشة ( أوقاف الغلال المخصصة... ) بل نراهم في إدارة الشئون المالية للأوقاف الإسلامية لكن هذا لا يمنع من وجود أسماء من غير المسيحيين المصريين من وقت لآخر ففي وثائق المحكمة الشرعية نجد المعلم موسى بن عامر بن موسى النصرانى الملكى عين ضمن مباشرى النصارى بالديوان العالى أي أنه مسيحى من أصول غير مصرية.وايضًا اشترك اليهود مع المسيحيين في إدارة الجمارك وايضًا اشترك المسلمون معهم في بعض الإدارات الحكومية فهناك وثائق تذكر اسم ( الشيخ عبد الخالق مباشر الأنبار ).
لقد كان دور الأقباط (46 ) يعطى بعدا سياسيا واجتماعيا وثقافيا ويعضد مفهوم قدرة الحضارة العربية الإسلامية على احتواء مواطنيها من غير المسلمين للعمل على بنائها وثرائها ويصف الجبرتى ( المعلم واصف القبطى ) بأنه "أحد الكتاب المباشرين المشهورين ويعرف الإيراد والمصاريف وعنده نسخ من دفاتر الروزنامة ويحفظ الكليات والجزئيات ولا يخفى عن ذهنه شيئا من ذلك" وعند نهاية القرن الثامن عشر يذكر أن "المعلم إبراهيم جوهرى رئيس الكتبة الأقباط بمصر كان هو المشار إليه في الكليات والجزئيات والروزنامة والميرى وجميع الإيراد والمنصرف وجميع الكتبة والصيارف من تحت يده".
و في الإدارة المركزية للدولة كانت دفاتر ترابيح الحملة الفرنسية والتي وضعها علماء الحملة عام 1800 م قد تم إعدادها بالأساس استنادا إلى دفاتر المعلمين الأقباط ( المسيحيين ) الصيارفة والمباشرين ولقد كان بعض كبار المباشرين الأقباط يستخدمون أختام خاصة بهم فالإخوان الشهيران إبراهيم وجرجس جوهرى كانا لهما أختام تختم بها الأوراق الصادرة منهما وعلامة خاتم المعلم إبراهيم جوهرى ( يا قاضى الحاجات وكافى المهمات.. إبراهيم جوهرى ) وخاتم جرجس جوهرى لا يقرأ منه سوى ( عبده جرجس جوهرى ). ولا شك أن الإدارة المالية تؤدى إلى الفساد الشخصي وقد تحدث بعض الناس عن فساد بعض من المباشرين الأقباط ومبالغتهم في فرض الضرائب على الفلاحين المسلمين لكن لا توجد قضية رسمية بهذا الخصوص
أدانت الصيارفة بل كانت مثل هذه القضايا تنتهى بالصلح بين الصراف والفلاح لعدم القدرة على إثبات مساحة الأرض بالضبط وقيمة الضريبة عليها بالتدقيق إلا أن بعض الصيارفة كانوا يستخدمون الأموال التي معهم من الجباية في قروض صغيرة للفلاحين بفائدة أو في تجارة رابحة.و يذكر أيضا إن بعض الملتزمين يولى النصرانى الصراف أمر القرية فيحكم فيهم بالضرب والحبس وغير ذلك، فلا يأتيه الفلاح إلا وهو يرتعدمن شدة الخوف.
و لعلنا نلاحظ هنا أننا عندما نأتى إلى المال والثروة بجانب السطوة والقوة يختفى الدين والقانون وحديث الأكثرية والأقلية فالبشر يستخدمون ما يريدون استخدامه من حديث الدين والتدين أو القانون والأعراف أو حديث الأقلية والأكثرية في الوقت الذي يرونه نافعًا لهم بأنانية شديدة ويتخلون عنه تمامًا عندما يحسبونأن ذكره سيكون ضارًا بهم وهو ما نراه بوضوح في مجتمعنا حتى اليوم وربما بصورة أكثر وضوحًا وانتهازية.
و لأن المباشرين من صفوة الأقباط لذلك كانوا يتمتعون بوعى ثقافى واضح ولقد وجدت في منازل بعضهم كتبًا دينية مسيحية وقام البعض منهم بنسخ مخطوطات قديمة فمثلًا نجد المعلم حنا غطاس مباشر يقوم بنسخ مخطوطة تتضمن عدة مجالات فهى تحتوى على رسالة أحد الباباوات وبعض المعلومات الجغرافية والفلكية والتنجيم، كما قام بعض المباشرين بتمويل عمليات ترجمة الكتب الدينية من اليونانية إلى العربية مثل المعلم جرجس جوهري الذي انفق في مقابل ترجمة كل كرأسة من المخطوط دنانير ذهبية.
و كان للمعلم رزق المباشر اهتمامات بعلم الفلك ويذكر الجبرتى أن المعلم واصف المباشر القبطى له معرفة باللغة التركية وهي حالة نادرة وتدل على ذكاء بعضهم لأن معرفة اللغة التركية تفتح له أبوابا واسعة من النشاط والإحتكاك بأعالى القوم.
ثانيا النشاط الاقتصادى:
عادة ما تلجأ الأقليات في البلاد إلى تعيق حركتها إلى النشاط الإقتصادى وذلك لأنهم لا يجدون لهم مكانا في الوظائف الحكومية أو العليا ( الوزراء والسفراء... إلخ ) وأيضا لا يجدون مكانا في الجيش الوطنى حيث قيادات الجيوش الوطنية عادة من الأكثرية لذلك لا يسمح بالترقية للأقليات إلا إلى حد معين والذي ينفذ منهم إلى القيادات العليا يكون شخصية استثنائية، من هنا جاء اللجوء إلى المجال الاقتصادى لأنه المجال الوحيد
الذي فيه يستطيع الإنسان أن يحقق ما يشاء بناء على ذكاءه وجهده. وعلى طول التاريخ المصرى كان هناك الأثرياء من المسيحيين في كل جيل، وكان منهم من يستخدم ثراءه في النشاط السياسي لكن معظمهم كانوا ومازالوا يكتفون بالوجاهة كأشخاص من علية القوم وقدرتهم على النفاذ لكل مفاصل الدولة من خلال أموالهم وإن كنا نرى ذلك اليوم فهو صورة مكررة مما حدث في العصر العثمانى ( 47 ) فقد شارك الأقباط في النشاط الاقتصادى السياسي حينئذ وهو الزراعة فالقرى المصرية عامرة بالفلاحين أقباطا ومسلمين ومن الملاحظ أن من يضبط مواسم الزرع والقلع التقويم القبطى لدورة فيضان النيل والزراعة ومن تقاليد الريف المصرى أن يوزعوا أولادهم بين التعليم والزراعة ولا يوجد في النشاط الزراعى أغلبية وأقلية فالقبطى يستأجر الأرض من المسلم أو يعمل عنده والعكس صحيح وقد امتد نشاط المصريين المسيحيين إلى حدائق الفواكه والنخيل وفي هذا الأمر أثبتت الوثائق أن المصلحة الاقتصادية مقدمة على النعرات الطائفية فهناك وثيقة لإستئجار مسلم إحدى الحدائق بحارة النصارى بمصر القديمة والحديقة من وقف كنيسة قبطية أرثوذكسية واستأجر مسيحي قطعة من حديقة مملوكة لمسلم... إلخ.
أما في التجارة فقد تميز المسيحيون في تجارة المعادن النفيسة (المجوهرات ) ومعادن الذهب والفضة... إلخ أما الحرفة التالية فكانتأعمال الخياطة وقد انتشر الخياطون المسيحيون عبر أحياء القاهرة المختلفة بشكل ملحوظ.يذكر أحد الرحالة الأجانب أن الأمراء البكاوات كانوا يحتاجون لخياط تركى لهم ولأتباعهم لكنهم لم يجدوا ووجدواخياطين مسيحيين يعملان لدى بعض الأمراء وهذا يبرز دور الأقباط.
و في حجة تركة المعلم ميخائيل الخياط القبطى بوكالة التفاح بخط الركن المعلق بالقاهرة فإننا نجد نماذج هامة للحرية الاقتصادية في المعاملات بين مختلف أتباع الديانات والطوائف والأعراق في أواخر القرن الثامن عشر، وهذا ما يميز النشاط الاقتصادي عن أي نشاط آخر خاصة أن أواخر القرن الثامن عشر كانت فترة قلاقل سياسية وأمنية ولقد مات المعلم ميخائيل الخياط وله باقي أجر خياطة في ذمة عملائه المسلمين وبعض منهم من السادة الأشراف، بل ويتضح أن عليه ديونا لصالح مسلمين ومسيحيين بعضهم عقادين ( تجار أو صناع خيوط ) لإرتباطهم بمهنته مثل الأسطى حسين ويوسف العقاد وعليه أيضا دين لصالح ديمترى الدخاخنى (تاجر دخان )و هو غالبا يونانى ودين لصالح جرجس الحمصى وهو مسيحى من الشام ودين لصالح بعض الأشراف المسلمين، وكذلك تذكر الحجة أن له تعاملات مالية للخياطة مع شخص يهودى يدعى إسحق.. وبمجرد قراءة هذه الحجة تكتشف التفاعل والحيوية والمصلحة في الحياة الاقتصادية حيث لا أهمية هنا لدين أو طائفة أو عرق فالأهمية فقط في المال وحساب المكسب والخسارة وهكذا دائمًا.
و من المهن التي برع فيها المسيحيون المصريون بجوار المسلمين مهنة التجارة وكذلك أعمال العمارة والهندسة وأعمال النسيج خاصة في الصعيد نسيج الحرير والصباغة وأيضا اشتهر الأقباط بتجارة العطارة وكان لكل طائفة من هذه الطوائف تنظيم يرأسه شيخ هذه الطائفة ولها نقيب وتوضح الوثائق مثلا أن طائفة الصاغة بالقاهرة كان شيخها ونقيبها من المسلمين وفي وثيقة أخرى يتضح أن شيخ الطائفة مسيحى، وقد قام المسيحيون بتكوين طائفة للصياغ خاصة بهم في سوق الصاغة الرئيسى وعملها فقط توزيع الميراث للمتوفى منهم وكان اختيار شيخ الطائفة لا يتم على أساس دينه لكن على أساس خبرته وسنه ولم تكن هناك أي حساسية دينية في التعامل في طوائف أغلبيتها من المسلمين أو العكس، لأن العمل هو العمل أو كما نقول اليوم Business is business ولأن الموضوع عرض وطلب وأموال وتجارة وإتقان وحرفية.
و أتذكر في طفولتى وصباى في الستينات أنه كان في احتفال المولد النبوي في بلدتنا ملوى يتم عرض مثير يبدأ براكبى الأحصنة ( فوارس ) ثم براكبى الحمير ثم يأتي من بعدهم الحرفيين الخياطين والحدادين
والصاغة والنجارين... إلخ كل طائفة على عربة ضخمة يجرها حصان ويمثلون الحرفة فالحداد فوق العربة يضرب الحديد المحمى بالناروالنجار يستكمل عمل باب أو شباك والصائغ يضع الذهب في النار ويعيد تشكيله... وهكذا وكنا نقف على جانبي الطريق نصفق لأصحاب الحرف وهم يحيوننا ويحيون الرجال والنساءالذين يتابعونهم من الشرفات والشبابيك ويلقون عليهم البونبون والشيكولاته والملح لكى لا يحسدهم أحد، وفي نهاية العرض تمر الجمال التي تحمل المحمل النبوى والطرق الصوفية ( الطريقة الشاذلية بعدها الطريقة البيومية... إلخ ) وأصحاب الحرف الذين كانوا يحتفلون كانوا من المسيحيين والمسلمين دون تفرقة وأيضا الجمهور الذي يحييهم ويشجعهم،وكصبيان كنا وأصدقائنا المسلمين نخرج معا لنحتفل بالمولد النبوى الشريف كما نحتفل بميلاد السيد المسيح أو مولد السيدة العذراء مريم.
ثالثا دور الكنيسة المصرية الأرثوذكسية:
يمتد تاريخ الكنيسة المصرية الأرثوذكسية ( 48 ) إلى القرن الأول الميلادى فهى كنيسة لها تراثها العميق، ومنذ بدأت وهي تتبنى النظام الهرمى في الإدارة فعند قمة الهرم البابا أو البطريرك وهو خليفة المسيح ومرقس الرسول يليه الأساقفة ثم الكهنة ( قمامصة وقساوسة ) منهم من تزوج وأنجب ومنهم المتبتل أو الراهب وأخيرًا الرهبان الذين يقطنون الأديرة ولا يخرجون منها حتى الموت وقد كان الباباوات الأوائل يختارون من العلمانيين منهم المتزوج وغير المتزوجفمن البابا الأول بعد مرقص الرسول ويدعى انيانوس(68-83 )حتى التاسع كالاوتيانوس(152-166)كانوا جميعًا من العلمانيين ثم من الثاني عشرديمتريوس الأول (188-230 ) حتى الرابع عشر ديونسيوس(246-264)وسابقه من مديري مدرسة الإسكندرية من العلمانيين ثم اشيلاوس (311-312) من مديري مدرسة الإسكندرية ثم جاء البابا رقم 58 قسما الثالث(920-930 ) من العلمانيين ثم جاء اثنان متتابعان من العلمانيين رقمي 73، 74 البابا مرقس الثالث (1166-1189م) والبابا يؤانس السادس(1189-1216)وهكذا كان آخر بابا يختار من العلمانيين في القرن الثالث عشر حيث أطبقت المؤسسةالرهبانية على مقدراتالكنيسة حتى اليوم ولم يعد مكانًا لعلماني بين الباباوات أو الأساقفة.
و في هذا المجال سوف نتحدث عن أربعة أمور: علاقة الكنيسة الأرثوذكسية بالخارج والدور الاجتماعى للكنيسة داخليا ثم علاقة الكنيسة بالدولة وأخيرا الإنشقاقات داخل الكنيسة.
1- علاقة الكنيسة الأرثوذكسية بالخارج:
كان من أخطر القرارات الكنسية في العصر العثمانى مسألة الاتحاد بين الكنيسة الأرثوذكسية المصرية والكنيسة الكاثوليكية بروما فقد أرسل بابا روما وفدا لإقناع البابا الأرثوذكسى بقبول الاتحاد بين الكنيستين واقتنع البابا رقم 96 يؤانس الرابع عشر(1571-1586) بصفة مبدئية بالقبول ودعا لانعقاد المجمع المقدس، وقد إنعقد المجمع المقدس قى مصر القديمة وانقسم الأساقفة بين مؤيد ومعارض لكن البابا كان يميل إلى الاتحاد وهكذا أصدر المجمع قرارا بقبول الاتحاد لكن هذا القرار لم ينفذ نتيجة اضطهاد الباشا للبابا حيث أثار الفريق المعارض الباشا ضد القراربإدعاء أنه ضد المواطنة المصرية للكنيسة وأهمية الحفاظ على استقلال الكنيسة ولم يكتفوا بذلك بل دسوا له السم ليموت القرار مع البابا، وهكذا لم ينفذ القرار ولم يكتفوا بذلك بل حرضوا الدولة لعزل البابا رقم 98مرقس الخامس(1603-1619) الذي مال نحو فكرة الاتحاد مع روما وبذلك اختفت تلك الفكرة بنزول البابا من على عرش الباباوية.
من هذا الحدث نستطيع أن نكتشف دور الدولة في القرار الكنسى ولجوء بعض الأرثوذكس النافذين المعارضين إلى الدولة لتأخذ موقفاضد قرار أصدره البابا، ومن هنا نلاحظ أنه هنالك ثلاثة عناصر لهم أهمية في صنع
القرار:البابا- الإكليروس( المجمع المقدس)- الشخصيات العلمانية الكبيرة. ولعلنا نلاحظ أن هذا الأمر مازال ساريا حتى اليوم، وعادة عندما يفشل العلمانيون في تحقيق ما يريدون يلجئون إلى الدولة والعلمانيون النافذون في ذلك الوقت كانوا المباشرين، ويمثلهم اليوم في المجتمع المصرى المعاصر رجال الأعمال الأقباط أصحاب الثروات الضخمة والذين لهم علاقة مباشرة بالكنيسة.
لكن كان نتيجة ما حدث أن تحول رجال الدين الأرثوذكس الذين كانوا يؤيدون قرار الوحدة مع كنيسة روما إلى الكاثوليكية وكان هذا التحول نتيجة مخطط مدروس من جانب الكاثوليك الذين كانوا يريدون الوحدة فتكون الكنيسة الأرثوذكسية المصرية تابعة لكرسى روما، ولقد أرادوا أن يحولوا الكهنة الأرثوذكس ليصيروا هم دعاة للكثلكة ومن الذين تحولوا الأنبا أثناسيوس أسقف بيت المقدس الأرثوذكسى في عام 1741 م وأصدر بابا روما أوامره لتنصيبه ( نائبا رسوليا ) له في مصر وراعيا عاما على جميع الأقباط الكاثوليك إلا أنه ما لبث أن عاد إلى أرثوذكسيته عام 1744 م، ثم تحول الأنبا أنطونيوس فلايفل وكان أسقف لجرجا وانتمى للكثلكة وفي عام 1761 م أصدر بابا روما أوامره بتنصيبه ( نائبا رسوليا ) له ولقد تصدت الكنيسة لهذا الأمر واستطاعت أن تحتفظ بوحدتها.ومن جهة أخرى قامت الكنيسة الأرثوذكسية المصرية برعاية السريان الأرثوذكس والوقوف في وجه محاولات تحويلهم إلى الكثلكة.
لقد كانت العلاقات بين روما والكنيسة الأرثوذكسية من أهم العلاقات الخارجية تأثيرا على الساحة المصرية على عكس طبيعة العلاقات بين الكنيسة الأرثوذكسية المصرية وكنيسة الحبشة الأرثوذكسية والتي لم تترك أثرا يذكر على الساحة المصرية بينما تركت آثارا عظيمة على أوضاع الحبشة فقد كانت الأرثوذكسية المصرية من القوى المهمة إن لم تكن أقواها وأهمها في التأثير على الأحداث في الحبشة.
2 - الدور الاجتماعى لكنيسة:
في أثناء الخلافة العثمانية انتشرت أمراض اجتماعية عدة في صفوف المسيحيين المصريين مثل تسرى أثرياء الأقباط بالجوارى وتروى المصادر القبطية عن زيارة البابا يوحنا 99 لمدينة أبنوب بالصعيد ونزوله ضيفا على أحد أثريائها واكتشافه ممارسة هذا الثرى للتسرى فنهاه عن ذلك ووبخه ويبدو أن هذا الرجل أحسها إهانة شخصية له في وسط مجتمعه الصغير المغلق فقام بدس السم في طعام البابا مما أدى إلى مصرعه أثناء خروجه من المدينة كذلك أصدر الأنبا يوساب منشورا ينهى المسيحيين المصريين من بعض المظاهر اللا أخلاقية التي تمارس أثناء أفراح الزواج وقد تعودوا عليها مثلما يحدث في المجتمع بإحضار الراقصات لهذه الأفراح وانتقد بشدة لمس أجساد الراقصات وأيضا كان هناك عادة أن يلبس رجل "زى النساء الزوانى وترقصوه في وسطكم"على حد نص المنشور ولعلنا ندرك أن هذا يحدث حتى اليوم في الأفراح بِشكل عام في المجتمع ونراه في الأفلام وكذلك واجهت الكنيسة ألعاب الميسر ( القمار ) بين الأثرياء المسيحيين وأيضا رفضت الكنيسة اللجوء للسحر والسحرة لإلحاق الأذى والضرر بالآخرين.
3 - علاقة الكنيسة بالدولة ( 49 ):
يذكر التاريخ أن الكنيسة في العصر العثمانى لم تبادر أحدا بالعداء، وأيضا كانت تدخلات الدولة في شئون الكنيسة تتم غالبا لصالح أطراف مسيحية مصرية أخرى مثل ما حدث في أمر الاتحاد بكنيسة روما أما علاقة الكنيسة بالمسلمين على وجه العموم وعلى مستوى الأفراد فتذكر الوثائق أن الكنيسة استخدمت محامين عنها من المسلمين.
المعضلة تحدث عند عملية صناعة القرار في الكنيسة في فترات خلو الكرسى الباباوى عقب وفاة البابا وكانت هذه المدة يمكن أن تمتد لعدة سنوات حتى يتم اختيار بابا جديد، فقد ظل الكرسى الباباوى شاغرا بعد وفاة
البابا 101 مرقس السادس(1646-1656 ) أربع سنوات، ومن المرجح أنه كان يقوم مقام البابا أقدم الأساقفة لحين انتخاب البابا الجديد وهو ما حدث بعد وفاة البابا شنودة الثالث حيث قام الأنباء باخوميوس أسقف البحيرة مقامح البابا حتى تم اختيار البابا تواضروس.
كذلك لا توجد معلومات تاريخية عن كيفية صناعة القرار في الفترات التي يختفى فيها البابا عن بطريركته لفترات طويلة فمثلا ترك البابا 100 متاوس الثالث(1631-1646) مقره الباباوى وسافر إلى مسقط رأسه وبقى هناك لمدة عام ورحل البابا 103يؤانس السادس عشر(1676-1718) إلى ديرواستمر به لفترة طويلة حتى ذهب إليه كبار الشخصيات المسيحية المصرية وطلبوا منه الحضور معهم إلى القاهرة،والسؤال الذي يلح علينا في مثل هذه الحالات هو ماذا كان موقف الدولة أثناء هذه الأحداث ؟
أتصور أننا نستطيع الإجابة عن طريق القياس مع ما حدث من خلاف بين الرئيس السادات والبابا شنودة في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات عندما قام السادات بعزل البابا شنودة بسحب مصادقته على اختياره بابا، وقد استقبل الرئيس السادات الأب متى المسكين وعرض عليه القيام بأعمال البابا لكنه رفض لأن تقليد الكنيسة يمنع ذلك، وقام الرئيس بتكوين لجنة من خمسة أساقفة للقيام بأعمال البابا أثناء غيابه لكن الواقع يقول أن هؤلاء الخمسة لم يكن لهم وجود أو نشاط حقيقي في هذا الشأن وربما الذين أشاروا للسادات بهذا التصرف من الأرثوذكس المصريين كانوا قد قرأوا في التاريخ أنه حدث في أيام البابا98مرقص الخامس (1603-1619) أن الباشا عزله وقام بتنصيب بابا مكانة وأمر بذلك ونفذت الكنيسة أمره، لكن لم يذكر التاريخ طبيعة القرارات التي اتخذها كل منهما وهل وقعت صدامات أو شيء من مثل ذلكولقد حاول الدارسون أن يجدوا أي أثر تاريخى لذلكوفشلوا.وحل هذه المعضلةيتضح بجلاء بما حدث أثناء حكم السادات فقد كان البابا الذي سحبت الدولة اعترافها به (البابا شنودة) يدير شئون الكنيسة من الديروكل الكنائس بدون استثناء يصلون باسمه ويتشفعون به كرئيس للكنيسة ولا تستطيع اللجنة الخماسية أن تتخذ اية قرارات واللجنة لم تحاول ذلك من الأصل وكانت القرارات تصدر من البابا مباشرة للتنفيذ وسار الأمر كذلك حتى توسط لعودتهلكرسي البابوية د. القس صموئيل حبيب رئيس الطائفة الإنجيلية حينئذ وطيب الذكر د. ميلاد حنا في عصر مبارك بعد مصرع السادات وقام البابا شنودة بالتوقيع على وثيقة عدم معارضة سياسة مبارك وعدم التدخل في السياسة كشرط للعودة واعتقد أن هذه القصة تفسر ما لم يستطع المؤرخون فهمه في أن البابا يدير شئون كنيسته من أي مكان كان سواء كان في مسقط رأسه ( متاوس 100 ) أو من ديره ( يؤانس السادس عشر 103 ) أو عندما تعين الدولة بابا آخر محله وهذا يوضح فشل مشيروالسادات من الأقباط المقربين له لعل الحكام يعتبرون.
4-الإنشقاقات داخل الكنيسة:
في القرن السابع عشر ( 50) تعرضت الكنيسة إلى انشقاق خطير في عصر البابا98 مرقص الخامس (1603-1619) وقد كان إنشقاقا فكريا ( لاهوتيا وكتابيا ) وهو أيضا له تأثير عملى على الأرض في نفس الوقت، فلأول مرة في تاريخ الكنيسة يخرج أسقف على الإجماع المسيحى وهو أسقف دمياط حينئذ وصرح تصريحا غريبا أن المسيحية لا تحرم تعدد الزوجات، وقد كان هناك عدد من المسيحيين متعددي الزيجات ووجدوا لهم في تصريح الأسقف ظهيرا فكريا مقدسا كنسيا في مواجهة الموقف الرسمي للكنيسة لتحريم الزواج لأكثر من واحدة، وقد قام هذا الأسقف وكان واعظا مفوها بإلقائه المواعظ أمام الجماهير التي توضح وجهة نظره باعتبار أن المسيحية بها نص في الإنجيل يحرم الطلاق لكن لا يوجد نص إنجيلي مباشر يحرم التعدد بنفس الوضوح كما أن العهد القديم يبيح الطلاق والتعدد وفي البداية حاولت الكنيسة معالجة الأمر بسياسة اللين لإحتوائه وإعادته إلى صوابه لكنه رفض فاضطر البابا إلى إصدار قرار بحرمانه وهذا يؤدى إلى قطعه
تماما من الكنيسة الأرثوذكسية لكن المسألة لم تقف عند هذا الحد بل إزداد الأمر حدة لأنه كانت هناك مطالب شعبية بتعدد الزوجات وهو الأمر الذي تسمح به المسيحية من وجهة نظره حيث لا يوجد نص مباشر بذلك وطالبوا الدولة بعزل البابا الذي استجاب للشعب الأرثوذكسي وقام بعزل البابا مرقس 98 ربما لأن الدولة ترى أن تعدد الزوجات لا مشكلة فيه إذ الإسلام يسمح بذلكو قام الشعب المطالب بتعدد الزوجات بتنصيب أحد الرهبان المؤيدين للتعدد بابا جديدا وهكذا للمرة الأولى في التاريخ تشهد الكنيسة الأرثوذكسية مثل هذا الانقسام العقائدى حول واحدة من أهم عقائد المسيحية الثابتة ( شريعة الزوجة الواحدة )، ولقد كان انقسام الكنيسة حول هذا الأمر أصاب في مقتل هيبة وقدسية الباباوية بوجود باباوين في ذات الوقت هذا فضلا عن عزل الدولة للبابا والاعتراف بالآخر، إلا أن جموع الأرثوذكس كانت تؤيد البابا المعزول لأنه البابا الرسمي ولم تقف خلف البابا الحكومى سوى بعض الشخصيات الأرثوذكسية الكبيرة ذات الصلة بإدارة الدولة وبعض رجال الدين وهو ما حدث بالضبط في مشكلة السادات والبابا شنودة كما ذكرنا من قبل وبمرور الوقت وكالعادة فقد أولئك الأشخاص علاقاتهم المتينة بالدولة لأن الدولة استشعرت أن الأغلبية العظمى من الشعب الأرثوذكسى ليس معهم وهكذا تبدلت الأحوال ووجد البابا الحكومى ظهره في الحائط فترك الكرسى الباباوى وعاد إلى الديرومع هدوء الحال عاد البابا مرقس 98 إلى كرسى البابوية ثانية.
بعد أن انتهينا من دراسة المسيحيين والخلافة العثمانية نستطيع أن ندرك ونفهم جيدا تعبير هنرى كيسنجر تعليقا على هزيمة مصر عام 1967 م في مذكراته( بهزيمة 5 يونيو 1967 انهارت الدولة المصرية تماما ولم يبق فيها سوى مؤسستين لم ينهارا الجيش والكنيسة الأرثوذكسية لأن هاتين المؤسستين تتمتعان بنظام إدارى قوى مصمت يصعب إختراقه، لذلك استطاع الفريق محمود فوزى إستعادة قوة الجيش في ست سنوات وكان العبور الناجح 1973 وهو ما لم يحدث في تاريخ الجيوش المهزومة ووقفت الكنيسة الوطنية صامدة أمام كل التيارات ولم تهتز )وخرجت سالمة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.