تبدو الثقافة حاضرة بقوة في قضية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والتي باتت تعرف اختصارا "بالبريكسيت" وتتجلى إشكاليات ثقافية وسط تداعيات القضية والجدل الذي يشارك فيه مثقفون مصريون مثل "الهوية" و"التعدد الثقافي" و"قبول الآخر والمغاير" ومعنى العولمة. وتحفل الصحافة الغربية بطروحات حول أسباب الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي وبعضها يتناول هذه القضية من "المنظور الثقافي" مثلما فعل الكاتب الانجليزي فيليب بولمان الذي يبدو معارضا بشدة لهذا الخروج الذي وصفه "بالكارثة". وانتقد ما وصفه "بأوهام إمبراطورية مازالت تسكن نفوس البعض في بريطانيا وأباطيل كالظن بأن هذا البلد مازال قوة عظمى" معيدا للأذهان غروب شمس الإمبراطورية البريطانية منذ هزيمتها في حرب السويس عام 1956. واعتبر فيليب بولمان أن الإحجام البريطاني الطويل عن الانضمام لكيانات أوروبية أفضى إلى مشاعر سلبية حيال الانتماء لأوروبا أو الالتزام بقضايا القارة الأوروبية ككل وحال دون الفهم العميق للروابط والعلائق الحقيقية بين بريطانيا وأوروبا. ولم يعف بولمان الزعيم الفرنسي الراحل شارل ديجول من بعض المسئولية عن هذه المشاعر السلبية للبريطانيين حيال أوروبا جراء رفضه انضمام بريطانيا للسوق الأوروبية المشتركة فيما رأى أنه لو انضمت بريطانيا مبكرا لكيانات أوروبية مشتركة لكانت فرصتها أكبر في تشكيل هذه الكيانات والتأثير على مسارات تطورها. وكان ديجول قد اعتبر أن بريطانيا "تكن كراهية متجذرة للكيانات الأوروبية" وحذر من أن انضمامها للسوق الأوروبية المشتركة سيفضي لتحطيمها حتى أنه أصر غير مرة على رفض طلبات تقدمت بها بريطانيا للانضمام لهذه السوق وهكذا لم يكتب لها الانضمام إلا بعد أن ترك ديجول الحكم في بلاده وخرج من الحياة السياسية الفرنسية والأوروبية. وفيليب بولمان الذي وصفته جريدة التايمز البريطانية بأنه "واحد من اعظم 50 كاتبا بريطانيا منذ عام 1945" حمل على الصحافة البريطانية في سياق تناوله لخروج بلاده من الاتحاد الأوروبي معتبرا انها في مجملها لم تؤازر الأفكار الوحدوية الأوروبية وخص بالذكر الصحف ووسائل الإعلام التي تمتلكها عائلة الملياردير روبرت ميردوخ والمتهمة دوما بالجنوح اليميني نحو الإثارة وتغذية النزعات الشعبوية الديماجوجية. وإذ خلص فيليب بولمان إلى أن بريطانيا باتت بحاجة ماسة "لتغيير جوهري" فإنها تساءل بأسى عمن يمكنه النهوض بهذه المهمة في المشهد الراهن الذي تتصدره صحف ووسائل إعلام تؤجج المشاعر العنصرية والنزعات الشعبوية غير المسئولة. ومن الدال أن صحيفة مثل "الجارديان" البريطانية اعتبرت أنه في "الأوقات المضطربة يكون من المطلوب والمفيد الاستعانة بإبداعات الأدب كدليل ومرشد للإلهام والحكمة " ومن ثم راحت تبحث في الإنتاج الأدبي البريطاني للحصول على إجابات عن أسباب "البريكسيت". وعادت الجارديان في سياق البحث عند "الجذور الثقافية والأدبية للظاهرة الانعزالية البريطانية" إلى قصة كتبها انتوني نرولوب عام 1882 بعنوان "عصر الشدة" وهي قصة جاءت في ذروة المد الاستعماري البريطاني واحتلال بلد كمصر التي زارها هذا الكاتب ضمن جولاته ورحلاته الخارجية. ومن الأعمال الأدبية التي توقفت عندها "الجارديان" أيضا قصة "نابليون نوتيينج هيل" بقلم جي.كى.شيستيرون وصدرت عام 1904 وقصة بقلم السياسي والأديب البريطاني الشهير ونستون تشرشل والفائز بجائزة نوبل في الآداب عام 1943 وكانت قد صدرت عام 1930 بعنوان " لو لم ينتصر لي في معركة جيتيسبيرج". ومع ذلك فان بعض من تناولوا هذا الموضوع في الصحف ووسائل الإعلام المصرية والعربية أعادوا للأذهان أن الزعيم البريطاني الراحل ونستون تشرشل كان من دعاة الوحدة الأوروبية وإقامة "الولاياتالمتحدة الأوروبية" كما ذهبوا إلى أن بريطانيا التي انضمت للاتحاد الأوروبي أو "الجماعة الأوروبية" عام 1973 حققت مكاسب اقتصادية جمة من انضمامها لهذا التجمع الأوروبي. وفي المقابل فإن "المرأة الحديدية مارجريت تاتشر كانت خلال رئاستها الطويلة للحكومة البريطانية من أشد معارضي فكرة إقامة الولاياتالمتحدة الأوروبية" ولم يكن حزب المحافظين بقيادة تاتشر يؤمن بإمكانية الاندماج الكامل لبريطانيا في أوروبا وكيانها الموحد. وثمة آراء تذهب إلى أن هذا "الخروج البريطاني" يحرر اقتصاد بريطانيا من أعباء والتزامات حيال "القارة العجوز" من بينها قيمة المساهمة المالية في ميزانية الاتحاد الأوروبي التي تبلغ 8، 5 مليار جنيه استرليني فضلا عن التحرر من قوانين العمل الأوروبية والحد من تدفق متزايد للعمالة القادمة من أوروبا الشرقية. ولم تكن انعكاسات "البريكسيت" على عالم الكتاب لتغيب عن اهتمامات الصحافة الثقافية البريطانية والغربية عموما مع تركيز واضح على توقعات وتوجهات النشر ونوعية العناوين في مرحلة ما بعد الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي فيما بدا أن العديد من الناشرين البريطانيين يشعرون بإحباط حيال هذه الخطوة الانعزالية والتي يمكن أن تؤثر سلبا على مبيعاتهم من الكتب. وإذ يعترف الكاتب الكبير وعالم الاقتصاد المصري الدكتور جلال أمين بأن نتيجة الاستفتاء البريطاني والتي جاءت بالخروج من الاتحاد الأوروبي كانت "مفاجأة مدهشة" له فإنه يرى أن ما حدث "ينبيء بتحول خطير في أحوال العالم"و"محنة تمر بها العولمة". وبدا جلال أمين حزينا للخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي فيما رأى أن "الديمقراطية ليس من الواضح تماما أنها أصابت هذه المرة" موضحا أن الأمر لا يتعلق بالإثار المحتملة على الاقتصاد البريطاني وإنما "المغزى المهم يتعلق بما تتعرض له العولمة من محنة في السنوات العشر الأخيرة". ويسعى محللون مصريون لتحديد مدى انعكاسات هذا الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي على الاقتصاد المصري في ضوء حقائق من بينها أن الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري لمصر كما أن بريطانيا هي أكبر مستثمر أوروبي داخل مصر. ولئن ذهب بعض المعلقين المصريين والعرب ممن تصدوا للكتابة عن هذا الموضوع إلى أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيفضي قريبا لتفكك المملكة المتحدة ذاتها فقد يكون على هؤلاء المعلقين التحلي بقدر واجب من الحذر والرصانة المنهجية قبل الاندفاع لمثل هذه النتيجة بيقين مثير للدهشة !. وحول "البريكسيت" رأى المفكر والاقتصادي المصري الدكتور سمير أمين أن الارتباك "مخيف" و"الاتحاد الأوروبي معطل" فيما استطاعت ألمانيا أن "تؤكد هيمنتها في إطار البناء الأوروبي" أما بريطانيا "فلا تنوي بالتأكيد أن تمارس سيادتها في طريق يبعدها عن الليبرالية الجديدة". وأضاف:"بل على العكس فان لندن تأمل أن تزيد انفتاحها على الولاياتالمتحدةالأمريكية بينما تبدو دول الكومنولث والدول الآسيوية الصاعدة بديلا عن الأولوية الأوروبية ولا شييء آخر ناهيك عن عدم وجود برنامج اجتماعي أفضل". وما كتبه سمير أمين وجلال أمين في جريدة الأهرام يشير إلى أن قضية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي متصلة على نحو أو آخر بقضية أخرى تثير اهتمام مثقفين عرب وأجانب وهي "ماهية الحدود في عصر العولمة" فيما استشهد الفنان التشكيلي المصري عادل السيوي بمقولة للمفكر الفرنسي ريجيس دوبريه فحواها أن "من لا حدود له لا مستقبل له". واعتبر أن البشر سيجدون أنفسهم مجبرين أمام شراسة العولمة على إعادة الاعتبار "لأبوابهم القديمة التي كان قد جرى فتحها تحت دعاوى براقة وكأنها الطريق الوحيد للدخول في روح العصر". وانتقد السيوي تلك الرؤية التي توظف دعاوى العولمة وفتح الحدود ليس من أجل تواصل البشر وتوسيع دوائر الحرية وإنما "كي يواصل رجال المال تعظيم الأرباح وتحويل أي حلم إنساني إلى مشروع للكسب وكأن الغاية من التطور هو أن يتحول البشر إلى مجموعات من المستهلكين وكأن عالمنا يجب أن يتحول بأكمله إلى سوق كبير" على حد قوله. ويخلص هذا المثقف المصري إلى أن "سؤال الحدود سيظل يؤرقنا لأنه سؤال عن الحقوق وعن السيادة من جهة ولأنه سؤال عن مصائر البشر من الجهة المقابلة وعن تجاوز البؤس المهين والثراء الخرافي جنبا إلى جنب". وقد تكون المشكلة الحقيقية للاتحاد الأوروبي الآن ككيان وحدوي أوروبي أن أحزاب اليمين المتطرف في عدة دول أوروبية أعضاء بالاتحاد تطمح بدورها لاحتذاء حذو بريطانيا والخروج من هذا الكيان وشن "الحملات الكريهة ضد المهاجرين" فيما يعاني اليسار من "الهشاشة" على حد وصف الدكتور سمير أمين. يبدو أن "البريكسيت" خطوة جديدة في عالم مرتبك لكنه يتشكل من جديد والغرب يراجع حساباته بدقة وعلينا هنا أن نتشبث بجذورنا الحية في الأرض المصرية والعربية..في الغرب ومراكز القرار الدولي يتحدثون عن معنى جديد للحقيقة لكننا لا يجوز أن نسمح بخديعة جديدة تغتال أحلام المستقبل في عالم حافل بالشراك !!.