يمسكون ب«الطين» بين أيديهم، يضغطون عليه بطريقة حفظوها منذ طفولتهم، يحركون عجلة دولاب الفخار بأقدامهم وهم لا يرون أمامهم سوى الظلام الدامس، دقائق ويتشكل الطين ليصنع أشكالاً تخطف العقل والقلب، ينزعوها برفق ويتركونها لتجف قبل الإمساك بها، كل ذلك وهم لا يرون نتيجة عملهم، ولكن فقط «يشعرون» به. ثلاثة أشقاء كمال وحربى وسعيد رسلى، فقدوا حاسة البصر واحدًا تلو الآخر خلال ال11 عامًا الماضية، لكن ذلك لم يمنعهم من ممارسة مهنة صناعة الفخار المحببة لقلوبهم فى غرفة صغيرة بمنزلهم الذى يقع بمركز نقادة، جنوب محافظة قنا. فى الغرفة الصغيرة، يجلس الأشقاء الثلاثة، وأمامهم طاولة يتراص عليها «الطين»، المادة الخام للفخار، يجهزها أحدهم بإتقان متذكرًا ما كان يفعله قبل فقدان بصره، بينما يجهز شقيقاه القوالب، التى يصنعون عليها الفخار برفقة أطفالهم الذين يراقبون عن كثب حركات أيدى آبائهم آملين أن يتعلموا الحرفة فى يوم من الأيام ويشتهرون بها كما آبائهم. قبل نحو 35 عامًا بدأ الأشقاء «كمال وحربى وسعيد» تعلم حرفة صناعة الفخار من والدهم الذى كان يتقنها ويعمل بها، ليعملوا بها ويحترفونها بجانب مهنهم الأصلية، ولما فقدوا نور عيونهم، قرروا الاستمرار فى حرفتهم الفنية آملين أن تساهم فى تحسين دخلهم، وتغطية احتياجاتهم اليومية، يقول كمال رسلى، الأخ الأكبر بين شقيقيه: «من حوالى 10 سنين فقدت بصرى، لكن قررت أكمل عملى بالإحساس ونور قلبى، ربنا خد منى حاجة وعوضنى بغيرها، وأنا بقدر أصنع الأشكال وأجهز عدة الشغل حتى من غير ما أشوف». يحكى حربى رسلى، الأخ الأوسط، والذى يعمل مدرس لغة عربية فى الصباح ثم يعود ليمارس مهنته المحببة فى صنع الفخار: «فقدت بصرى بسبب وجود مية بيضا فى عينى أدت إلى انفصال شبكى أنا وإخواتى، بس إحنا حافظين حركات الإيد وبنقدر نعمل الأشكال». لم يكتف الإخوة بصنع الفخار فقط، ولكنهم ورثّوا المهنة أيضًا لأطفالهم، فيقول سعيد حربى، الأخ الأصغر: «عندنا 10 عيال اتعلموا مننا تحضير العجين اللى بنشتغل بيه، وبيعرفوا يعملوا قلل وطواجن، ويقولوا الشكل ده حلو ولا لأ، هما عيوننا اللى بتشوف شغلنا قبل الناس». ورغم الصعوبات التى واجهها الأشقاء الثلاثة فى مزاولة مهنة تعتمد بالأساس على الرؤية وهم لا يرون، إلا أنهم استطاعوا التغلب عليها، فيقول الأخ الأكبر: «قدرنا نعمل أشكال نشتغل بيها ونبيعها فى السوق وتبقى خاصة بينا، وربنا بيساعد ويكرمنا والناس عارفة شغلنا وواثقة فينا»، يحلم الأشقاء الثلاثة أن ينتشر عملهم أكثر ويحظى باهتمام، فالفخار لديهم مصنوع من الطين والإحساس.