صانع السمسمية الأخير ينشئ متحفًا للحفاظ على آلة الحب والقتال غالى: صنعت أول آلة وأنا فى المدرسة وأحاول توريث المهنة لابنى حتى لا تنقرض شاعر المقاومة: أسسنا فرقة «النصر» بأوامر من الجيش وغنينا للمدنيين والجنود يجلس العازف العجوز فى المنتصف يحتضن آلته الصغيرة ذات الخمسة أوتار، وبجواره عازف الطبلة، يغنى وشفتاه لم تفارقهما الابتسامة «من بورسعيد الوطنية، شباب مقاومة شعبية، دافعوا بشهامة ورجولية وحاربوا جيش الاحتلال.. مبروك يا جمال»، أنغام السمسمية تشجى الحضور فينهض أحدهم وينشد وهو يتمايل راقصًا وسط تصفيق الجماهير المحتفلة بالنصر على العدوان الثلاثى، «السمسمية رجعت الحق للى التاريخ خذله» جملة ترددت أثناء حضورى ورشة «احكى يا تاريخ» لدراسة تاريخ بورسعيد، لتلخص كيف أن السمسمية لم تكن مجرد آلة موسيقية أو حالة شعبية أو أغانٍ موروثة، لكنها جزء من طرق حفظ التراث والتأريخ الشعبى. «الجاندوه»، «السمسمية» و«الطنبورة» الآت مختلفة الأحجام والأشكال لكن كلها نسخ مختلفة من آلة أهل القناة، كان أساسها المدن الساحلية على البحر الأحمر وخاصة فى إفريقيا وتنقلت عبر السنوات حتى وصلت إلى بورسعيد والإسماعيلية والسويس. صانع السمسمية «السمسمية نداهة».. جملة يرددها كل من يهوى هذه الآلة، أخبرنى بها محمد غالى الذى أسس متحف التراثية بالمجهود الذاتى فى أحد الأحياء الشعبية ببورسعيد ليؤرخ للآلة قديمة الأصل، «من أيام الفراعنة وهى مرسومة على جدران المعابد، ولما جم النوبيين عشان حفر القناة نقلوا الطنبورة اللى كانت بتستخدم فى الزار ومن بعدها دخلت السمسمية من البحر» يقول «غالى» الذى يفرق بين الآلتين، «الطنبورة كبيرة وصوتها غليظ، أما السمسمية فصوتها أرفع، واتسمت بالاسم ده لأنها مسمسمة» يضحك الرجل وهو يحكى قصة محبوبته. بدأت رحلته عندما كان صغيرا فى بلاد الهجرة يستمع إلى الراديو وإذاعة الأغانى المحلية، «سألت أبويا إيه الصوت ده؟ قالى دى السمسمية، ومن هنا اتعلقت بيها، وبعد العودة بقيت أحضر حفلات الضمة وأشوف العازفين» يقول «غالى» وهو يشرح، «الضمة هى أن الناس تقعد فى الشارع تعزف وكل اللى بيحبوا الغنا يضموا عليهم ونعمل سهرة للصبح»، التحاقه بقسم النجارة فى مدرسة الصناعة كان له الفضل فى إتقانه صناعة الآلة الصغيرة التى تتكون من ثلاث خشبات وصندوق صوت كان بالأساس طبقا مغلفا بجلد حيوان وخمسة أوتار، «عملت أول سمسمية فى حياتى وأنا فى المدرسة، ومن عشقى ليها بعد كده بقيت أبتكر وأغير فى شكلها، وأجمع كل الآلات القديمة من الناس، ومن هنا كانت فكرة أنى أعمل متحف». فى البداية كان يجول «غالى» بآلاته التى جمعها فى أنحاء بورسعيد، صوان فى الشارع يقيمه فى الاحتفالات كان كافيًا ليعرض مجموعته الخاصة، ومنذ عامين أتته الفكرة بإنشاء المتحف ليكون مقرا لكل من يهوى السمسمية، آلات مختلفة الأحجام والأشكال معلقة على الجدران، مجسمات صغيرة صنعها الرجل بيديه للضمة أو للصيادين وعازفى السمسمية، صور تحكى تاريخ الآلة، يشير إليها وهو يحكى: «السمسمية شاركت فى الصيد وفى الحفلات والزفة والأفراح، وأنا عملت الماكيتات بنفسى عشان أوثق التاريخ حتى لو مبقاش موجود»، ممسكًا بين يديه بآلة صغيرة صنعها بنفسه يشرح «غالى»: «السمسمية كانت 5 أوتار أساسها السلم الخماسى الإفريقى، بس بعد كده الناس بدأت تطورها عشان تواكب الآلات الحديثة، فى السويس بيعزفوا ب6 أوتار، وفيه عازفين وصلوا ل15 و18 وترا، بس الشكل الأساسى مبيتغيرش». أتساءل: لماذا لم يتعلم الرجل العزف أو الغناء؟! فيجيبنى: «هى ندهتنى وقالتلى اعملنى بس، مقالتليش أعزف أو أغنى، والسمسمية نداهة هى اللى بتختارنا مش إحنا اللى بنختارها» يقين يؤمن به «غالى» ويحكى عنه فى كل وقت يروى «غالى» «جوه المتحف أسسنا مدرسة لتعليم الأولاد الصغيرين العزف، وبحاول أجمع كل اللى أقدر عليه من آلات قديمة أو صور بتحكى تاريخ السمسمية، وعشان تاريخ الموسيقى فى مدن القناة ميضعش». يقف الطفل «مصطفى غالى» يتراقص وهو يغنى «أنا بورسعيدى أصيل يا بنى أنا واد مدردح يا أخينا، أجدع فتوة ما يعجبنى، وأسأل عليا فى المينا»، يضحك والده وهو يشاهد حركات ابنه الراقصة على أنغام السمسمية، يقول مصطفى: «اتعلمت الرقصة فى قصر الثقافة، كل حركة بعملها ليها معنى عند الصيادين والبمبوطية، حركة إيدى زى الشبك، ودبة رجلى زى دبة رجل الصيادين عشان السمك يطلع»، على درب الأب يسير الابن يتمنى أن يتعلم عزف آلته المحبوبة ويتقنها، «لسه مبعرفش أعزف إلا حاجات بسيطة بس هتعلمها عشان السمسمية لازم تتورث زى ما دايما بابا بيقولى» يقول «مصطفى». العازف الأكبر منفردًا يجلس محمد الشناوى 69 سنة أقدم عازفى السمسمية، وحافظ أغانيها وأحد المشاركين فى تأسيس فرقة الطنبورة، يتغنى بكلمات لا تحفظها الأجيال الجديدة، «أصبحت فى أسر الذى ملكنى، كان لى قلب خلى عنك اليوم، بدر أريد قاسى ما قاسى، يا حاوى العيش خلينى أسير وحدى»، أحد الأدوار باللهجة السودانية التى توارثتها الأجيال منذ عام 1936، يقول الشناوى: «الناس فاهمة الضمة غلط، الضمة الحقيقية حصلت سنة 36 لما الطنبورة والسمسمية انضموا على بعض وبقوا يعزفوا سوا والناس تغنى»، حالة مختلفة كان يعيشها الرجل العجوز على مدار سنوات حياته، يحكى وهو يبتسم متذكرا: «السمسمية كانت أحلى، كان فيها مونولوج وتمثيل وأدوار، والضمة كانت تبدأ بليل وتستمر لحد الصبح، الكل بيغنى ويرقص فرحان فى الشارع». مئات يجلسون فى واحد من مقاهى بورسعيد يستمعون لأنغام آلتهم الصغيرة المحببة، «كانت الكراسى بتخلص من كتر الناس، الستات فى البيوت يبعتوا عيالهم بكراسى المطبخ نقعد عليها، والكل يتفرج على الضمة ويغنى» يقول الشناوى الذى لا يحب أن يستمع ل«أغانى اليومين دول» كما يطلق عليها، فبحسب قوله: «السمسمية مش بس أغانى، لكن حالة كاملة وفرجة لكن دلوقتى الكل بقى يستسهل ويغنى حاجات غير اللى اتعودنا عليها، والحفلات بقت صغيرة مبقاش فيه لمة زمان». أثناء سنوات التهجير سافر «الشناوى» إلى رأس البريحكى العازف الأكبر ضاحكًا: «كنا بنقعد هناك ندور على أى حاجة نعملها، نجيب النار ونولع فى العشة عشان نضحك شوية، الناس الأول كانوا بينادوا المطافى بعد كده اتعودوا على النار ولعبنا»، خدع شبابية ورغبة فى الابتسام لم تفارق «البورسعيدية» فكانت الدافع وراء تأسيس «فرقة شباب المهجر»، يروى «الشناوى»: «الفرقة كانت حوالى 300 واحد، إحنا لوحدنا بس مش محتاجين معازيم» يقولها ضاحكاً ويكمل، «فى بورسعيد اتعودنا أن الفرقة تكون كبيرة عشان نعمل كل حاجة، ونغنى ونرقص ونمثل، ونروح الأفراح نحييها ونغنى فيها، لكن فى دمياط مرة راحت الفرقة لفرح فوجئوا بالعدد الكبير»، يغمض عينيه ويتغنى بكلمات فرقته المفضلة «يا مسافر بورسعيد عند الأرض الحزينة، سلم على كل إيد ترفرف على المدينة، وهات حفنة تراب واتطمن ع اللى غاب» ثم يعاود حديثه: «كانت أغانى الهجرة بتصبرنا على كل حاجة عشناها فى الأيام دى ونحلم بالعودة لبلدنا وبيوتنا». بعد العودة إلى بورسعيد انتشرت السمسمية، وتجولت وتعددت حفلات الضمة احتفالًا بالرجوع، ولكن مع بدايات المنطقة الحرة بدأت السمسمية فى الاندثار، يقول «الشناوى»: «ناس كتير جت لبورسعيد من بره البلد ومحدش بقى مهتم بالفن زى الأول، وده خلى السمسمية تختفى ومتبقاش زى زمان». شاعر السمسمية بعد قرار التهجير الإجبارى عقب حرب 67، أصدرت الحكومة المصرية قرارا باستبقاء بعض العاملين فى هيئة قناة السويس فى بورسعيد كان من بينهم شاعر السمسمية كامل عيد، الذى مكث السنوات السبع فى مدينته المحببة يكتب الأغنيات ويلحنها وينشدها، يقول «عيد»: «من قبل التهجير وأنا بكتب عن كل حاجة اتحكتلى فى تاريخنا عشان نسجلها وتفضل الأجيال ترددها»، من ضمن هذه الأغنيات حكاية عن «سعيد» العسكرى المصرى المكلف بحراسة القنصلية الإيطالية ببورسعيد أثناء العدوان الثلاثى، والذى رفض الاختباء بالداخل حتى قصفته المروحية البريطانية ومات الشهيد البورسعيدى وظلت الأجيال تردد حكايته بهذه الكلمات: «سقط شهيد الحرية، على رصيف القنصلية، وتانى يوم الصبحية بكوا عليه الإيطاليين». فى بورسعيد كانت حياة كامل عيد مختلفة عن حياة من هاجروا من أبناء مدينته، بين خدمة الجيش وحفر الخنادق والتدريب على السلاح، يحكى الشاعر: «كانت بتجيلنا الأوامر من قادة الجيش المسئولين عن هيئة قناة السويس، وإحنا بنسمع الكلام من غير نقاش، وخلال الوقت ده كنا أحيانا بنعمل حفلات سمر بليل نغنى بيها سمسمية»، كان قرار تأسيس فرقة شباب النصر قرارا عسكريا، يروى «عيد»: «القائد قالى اعمل فرقة تغنى سمسمية للناس اللى مهاجرتش والجنود وتفضل تقول حكايات بورسعيد، قلتله أجيب ناس منين يغنوا معايا؟! قالى خد من زمايلك فى الدفاع المدنى»، وبالفعل بدأت اختبارات شباب النصر فى مقر نادى بورسعيد الذى أصبح مقرا للفرقة، 35 فردا كانوا بداية تأسيس الفرقة التى أحيت فيما بعد عددا من حفلات أعياد بورسعيد وانتصارات أكتوبر، وعدة مناسبات حضرها كبار رجال الدولة، فبحسب الشاعر: «جمعت الأصوات وروحت على عازف سمسمية قديم قاعد فى بورسعيد قلتله عايز ناس تعزف معانا، واتكونت الفرقة وأغانينا انتشرت فى بورسعيد وكل بلاد الهجرة». تتوقف غارات العدو ويهدأ الوضع فى المدينة الباسلة، فينتهز الشاعر الفرصة ويمسك بقلمه وأوراقه ويكتب واصفا حال مدينته: «بيتنا اللى عشش فيه يا ناس العنكبوت، بيتنا اللى متعودش أبدًا على السكوت، مبقاش سامع غير أزيز الطيارات بتهد المصانع والبيوت» باكيًا أوضاع بورسعيد يكتب «عيد» وتتغنى الفرقة، سهرات ليلية للجنود فى مقار قوات الدفاع الشعبى ومواقع القوات المسلحة، وتجمعات المدنيين تذكرهم بسنوات الحياة فى مدينتهم وسط الأهل والأحباب، يحكى «عيد»: «كنا بنقعد نغنى ونفتكر بقى كل حاجة كانت فى بورسعيد، ومع الوقت بقينا نسافر كمان بلاد الهجرة نغنى لأهالينا هناك وأنا أكتب عن أوضاعهم»، الأوضاع المتردية لبعض المهاجرين دفعت الشاعر لكتابة أغنيته: «كام بطانية فى الشتا حسب العدد حسب المدد، وأوضة واحدة فى مدرسة، ومعسكرات متكدسة بالمهجرين، وتحويشتنا اتبعترت وسط السنين ووسط القلق» حالمًا بيوم عودة أهله وأصدقائه إلى بورسعيد. «فرقة شباب المهجر» فى رأس البر، و«شباب النصر» فى بورسعيد لم يكونا الفرقتين الوحيدتين، ظهرت فرقة شباب البحر بالقاهرة، وفرقة مصنع الغزل والنسيج بالزقازيق، وتنقلت بقية الفرق بين تجمعات الطلبة البورسعيدية ومعسكرات التهجير والمقاهى التى يؤمها أهل المدينة الباسلة فى المحافظات والنجوع المختلفة. وبعد قرار العودة ينشد شباب المهجر من رأس البر «فجر الرجوع أهو لاح.. روح يا دمع العيون واطلع يا نور الصباح»، فيجيب المغنى متلهفًا من القاهرة: «يابورسعيد جاى ضمينى هاتى جناحك غطينى»، وتنشد فرقة شباب النصر فى بورسعيد، «يا فنارة لالى يا فنارة رجعولك تانى البحارة، ويا فرحتكم يا بمبوطية لما تهل عليكوا سفينة». وبطبيعة الحال لم تصاحب «السمسمية» أهالى مدن القناة فى أغانى المقاومة الشعبية فقط، وإنما تعدت ذلك لتشمل حياتهم اليومية، فيكتب عيد: «طازة وعال يا أم الخلول، حلوة وعال يا أم الخلول» ويتراقص على أنغامها الصيادون وأبناء بورسعيد، ويغنى عمال القناة، «تسلم يا قنال يا أبو رزق حلال»، وإلى يومنا هذا تقام الحفلات الأسبوعية فى بعض مقاهى مدينة بورفؤاد وحدائق بورسعيد العامة، ولكن اندثر معظم عازفى السمسمية واختفت الآلة الوترية عن الحياة، فلم تعد بكامل نشاطها كما كانت سابقًا، يقول «الشناوى»: «فيه أغانى وحفلات بس أغلب حافظي الأغانى القديمة ماتوا والناس مبقتش مهتمة بالسمسمية زى زمان»، محاولات فردية للحفاظ على التراث يتبعها متحف التراثية لفنون السمسمية، وبعض المراكز الثقافية فى مدن القناة ودور الثقافة وهم يأملون المحافظة على أغنياتهم من الانقراض.