يطل علينا عيد ميلاد السيد المسيح كل عام بإطلالة مختلفة عن سابقه، في ظل معطيات مجتمعية جديدة. تخلق فينا تلك المعطيات أشواقًا جديدة لفهم معاني ما تورثناه من فكر ديني أصيل، وما نعتنقه من مبادئ روحية عميقة، تتغذى بها أروحنا، وتشكّل عقولنا وتنسج كياننا، ونترجمها إلى حياة معاشة في المجتمع. وإلا إن لم تكن هناك ترجمة على أرض الواقع لموروثاتنا ومبادئنا الروحية، فإننا نكون كمن يحفظ نصوصًا أو مادة علمية، ليسطرها على الورق يوم الامتحان، وينساها فور ظهور النتيجة أو من قبلها. كُتِب الكثير عن ميلاد السيد المسيح، وسوف يكتب الأكثر، لكن الظروف الآنية في مجتمعاتنا في الشرق والغرب، تلح علىّ أن أذكر القارئ الكريم، هل ميلاد السيد المسيح هو حدث تاريخي نحتفل به كل عام لمجرد تراث، أم أن نتذكر السيد المسيح أنه عاش بيننا فترة من الزمان وحسب؟ وهل هناك من علاقة بين ميلاد المسيح وأحداثنا الجارية؟ كتبت مقالًا في ديسمبر 2011، بعنوان "ميلاد المسيح.. ثورة على المجتمع، ابتعدت فيه المسافة بين الأرض والسماء. فقد وُلد المسيح في مجتمع كان يتسم بالبؤس والفقر والظلم والقمع، مجتمع استعدى الأرض ضد السماء بأحداثه المزرية، واتجاهاته المشوهة وأفعال العنف السياسي والانحلال الأخلاقي. وبالتالي تجسد الحضور الإلهي في طفل المزود، حيث التقت محبّة السماء بعداوة الأرض، عبر عن هذه الحالة الإنجيل َأن الملاك مع جُمْهُورٌ مِنَ الْجُنْدِ السَّمَاوِي سبحوا اللهَ، قَائِلِينَ: "الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَي الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ." لقد كسر الميلاد حواجز المجتمع المألوفة، وولّد فكرًا جديدًا في قلب الكثيرين. فقد أعاد بمولده قيمة الحياة للمهمشين والمنبوذين فأخرجهم من عزلتهم وتهميشهم، وهم جماعة الرعاة آنذاك. كسر مولود المزود حاجز الخصوصية الدينية والتزّمُت، فأعلن أعظم قيمة للحب الإلهي، وهي قبول الآخر أيا كان موقعه وحالته الاجتماعية أو الثقافية أو الدينية. فأسس قيمة التعددية الفكرية والثقافية والدينية. وعلى ما يبدوا أمامنا، أنه رغم قيام ثورتين خلال فترة قصيرة، على قيم أساسية للإنسان، عيش حرية كرامة إنسانية. يشعر البعض أن الواقع أصبح أكثر وحشية، والعداء بين الناس زاد أضعافًا. وكأننا نرجع إلى الوراء. فمساحة الفقر تزيد، والتفسخ المجتمعي يتفاقم، والتعايش في المجتمع محفوف بالمخاطر، وحرية الفكر أُغلق عليها في سجون من أبواب موصودة يصعب فكها. لقد ولد المسيح في مجتمع مشابه لمجتمعات اليوم، حيث كان المجتمع منقسم إلى طبقتين منفصلتين آنذاك، طبقة الإقطاعيين، وطبقة العبيد والفقراء الذين يعيشون في غُبن وظلم شديدين. وانعدمت الطبقة الوسطى - كما هي حال أيامنا الآن – التي تُعتَبر في كل عصر ووطن هي ميزان المجتمع الحقيقي، وبالتالي فقد استشرى الظلم الاجتماعي بكيفية أصبح فيها هو الشئ الطبيعي السائد الذي اعتاده الناس. وسادت الاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصراعات الفكرية والدينية والنفسية. وأنكسرت الروح الإنسانية وكانت تئن تحت ثقل الهموم والأحزان والمشاكل، ولم يعد هناك إلا الانتظار لمخلص لينقذ المجتمع من قسوة الحياة، وظلمها المدقع. ومن هنا ابتدأت تطل السماء برحمتها، والله القدير المحب بعطفه، على حال الإنسان المذري والمجتمع الذي أُهدرت إنسانيته، لقد أحب الله جل جلاله الإنسان، فتجسد بكلمته في حياة إنسانية، ليعطي معنى للإنسانية وقيمة وكرامة للإنسان. ولد الكلمة ليساند المساكين، الذين تخلَّي عنهم الكثيرون، واعتبروهم فقراء ورعاع الأرض. ولد يساند المسكين ليعطية كرامة وثقة في نفسه وفي وجوده وفي خالقه. جاء لنصرة المستضعفين، ومساعدة المظلومين. جاء ليعلن أن كل نفس عزيزة أمام الله، فلتكن عزيزة في عيوننا. جاء المسيح ليشفي القلوب المنكسرة بالكآبة والمرض والظلم. جاء ليفتح عيون العمي الذين يظنون إنهم القيّمين على أمور الحياة والدين، ونسوا أن الله محبة. أعطى للإنسان أولوية الاهتمام، فلم يخلط بين سياسة المحتل الروماني واحتياجه، فشفى ابن قائد من قادة الرومان، كما أنه شفى ابن أرملة فقيرة كنعانية الفكر والإيمان. حرر المرأة الزانية من حكم المتدينين عليها، وأطلقها حرة، وقال لها عيشي في سلام مع نفسك فتسلكين في سلام مع الله، أشبع الآلاف الذين لم يتبعوه وكان يعلم أنه لن يتبعوه، استنهض فيهم قيمتهم الإنسانية. حرر الهيكل من استغلال المتدينين، وانتصب ليشفي المرضى ويعلم الناس فتح أعين الكثيرين ليدركوا أن الحب المتجسد هو إنسان، وأن الرحمة هي إنسان، وأن العطاء هو إنسان، وأن الدين الصحيح هو إنسان، والعدل في قيمة الإنسان، والحرية في كونه إنسانا، إن حاجتنا الماسة ونحن نتذكر ميلاد السيد المسيح أن قيمة الإنسان فوق كل اعتبار، أليس في ميلاد المسيح قد تجسدت كل معاني الإنسانية؟!