داعب النموذج التركي خيال الكثيرين قبل وبعد ثورة 25 يناير، وروَّجت بعض الدوائر السياسية والأكاديمية في الداخل والخارج إلى إمكانية تحوّل تيارات الإسلام السياسي في مصر إلى النموذج التركي الذي يمثل لهم الإسلام الحديث وعلاقته بالمجتمع الرأسمالي. ولا أُخفي على القارئ أنني شخصيًّا تمنيت في لحظةٍ ما أن تتوافر لنا في مصر شخصية أردوجان وتطبيق النموذج التركي الذي استطاع بحق أن يقفز بتركيا خطوات سريعة على طريق الديمقراطية والتنمية. وكان من الطبيعي أن تكون جماعة الإخوان الفصيل الأكبر في تيار الإسلام السياسي هي المؤهلة لهذه التجربة. لكن تجربة جماعة الإخوان بعد ثورة 25 يناير أصابها الكثير من الاخفاقات، فضلاً على الاحباطات حتى لأبناء الجماعة أنفسهم. وكان من الطبيعي ليّ كباحث في التاريخ أن أحاول الإبحار في التاريخ المقارن بين التجربة الإسلامية في تركيا والتي انتهت بوصول أردوجان وفريقه إلى الحكم وتشكيل حزب العدالة والتنمية، وبين تجربة الإخوان المسلمين في مصر وتشكيلهم لحزب الحرية والعدالة ووصولهم إلى سُدة الرئاسة. وسنلاحظ من الوهلة الأولى التشابه الكبير بين اسمي الحزبين في البلدين، وهو ما يعبر عن رغبة الإخوان المسلمين في التبرك من البداية باسم حزب أردوجان والاستفادة من نجاحه الشهير. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا نجحت التجربة التركية وأخفقت حتى الآن التجربة المصرية؟ والسؤال الأهم: هل يمكن استنساخ النموذج التركي في مصر، أم أن التاريخ والاجتماع يباعدان بين التجربتين؟ إن أولى الملاحظات التي لفتت انتباهنا في المقارنة بين التجربتين هي طبيعة التكوين التنظيمي للحالة التركية واختلافها عن مثيلتها في مصر. حيث لم يأتِ حزب العدالة والتنمية التركي من فراغ، وإنما من تحولات في الحركة الإسلامية وانتقالها إلى التنظيم الحزبي، ثم أخيرًا فشل تجربة حزب الرفاه على يد أربكان وخروج التيار الحداثي الأكثر شبابًا من عباءة أربكان، ونقصد به أردوجان وفريقه، من أجل تكوين حزب جديد هو “,”العدالة والتنمية“,” يعبر عن نفسه بأنه “,”حزب سياسي محافظ يحترم قيَّم الإسلام ومبادئ الدولة التركية الحديثة، وليس حزبًا معبرًا عن الإسلام السياسيط. وعلى النقيض من ذلك كانت تجربة الإخوان في مصر إذ رفضت جماعة الإخوان منذ البداية فكرة تحولها إلى حزب سياسي، وكان لها العديد من الملاحظات السلبية على العملية الديمقراطية والدستورية. واستمرت الجماعة تعمل كجماعة “,”محظورة“,” تصطدم مع النظام السياسي أحيانًا وتتصالح أحيانًا أخرى، تميل إلى العمل الدعوي والاجتماعي أكثر من ميلها إلى العمل السياسي المنظم. ولم تمارس الجماعة عملية الانتخابات والعمل السياسي إلا في عصر مبارك ومن خلال صفقات غير متكافئة. وعندما انتقلت الجماعة بعد ثورة 25 يناير إلى مرحلة جديدة من العمل العام وخرج إلى حيز الوجود حزب الحرية والعدالة تباهى بعض الإخوان بأن هذا الحزب الوليد هو في الحقيقة صاحب تاريخ طويل هو في نفس الوقت تاريخ الجماعة. وهي مقولة في الحقيقة خارج السياق التاريخي، إذ تناسى هؤلاء أن طبيعة عمل الجماعة الدعوي والاجتماعي يختلف عن طبيعة تكوين وصيرورة الحزب السياسي. من هنا أصبحت الجماعة بتاريخها الطويل عبئًا كبيرًا على الحزب وليست دعمًا له، وأصبح الحزب في الحقيقة مجرد واجهة شرعية للجماعة، بينما الصوت الحقيقي هو صوت الجماعة ومكتب الإرشاد. وربما يفسر ذلك الصراع المكتوم بين الجماعة والحزب ومؤسسة الرئاسة، والذي أدى أحيانًا إلى التخبط في العديد من القرارات والإجراءات التي شهدتها مصر في الأشهر الأخيرة. المشكلة هنا في التجربة المصرية هي جماعة الإخوان وتاريخها الطويل وطبيعتها الدعوية والمغلقة واختلاف كل ذلك عن طبيعة العمل الحزبي وانفتاحه وبرجماتيته، فالجماعة في الحقيقة ربما تتحول إلى القطة التي تأكل وليدها. فلابُد من رفع يد الجماعة عن الحزب والرئاسة. وربما هو نفس المأزق الذي تعاني منه التجربة التونسية، من هنا ناشد الشيخ عبد الفتاح مورو (أحد كبار مؤسسي حركة النهضة) الشيخ راشد الغنوشي الابتعاد عن الحزب والاكتفاء بالعمل الدعوي. هل تستجيب جماعة الإخوان المسلمين للتاريخ وتعود إلى بدايتها الأولى على زمن الإمام حسن البنا إلى كونها جماعة دعوية اجتماعية وتترك العمل السياسي إلى الحزب الوليد “,”الحرية والعدالة“,”؟ أم أن القطة ودون قصد ستأكل وليدها؟ وللحديث بقية.