هل يستطيع الإخوان المسلمون وحزبهم( الحرية والعدالة) أن يتصالحوا مع الحداثة عموما, والديمقراطية خصوصا؟. وأن يلعبوا الدور نفسه الذي لعبه حزب العدالة والتنمية في النموذج التركي؟. ثمة تحفظ هنا علي الإجابة لا ينبع من فهم للتاريخ ينفي كل ضروب الحتمية, ويرفض كل أشكال الاحتكار والاستعلاء. وثمة تحفظ علي الإجابة نعم يتعلق بخلو السجل التاريخي للإخوان من الخبرات التي ورثها العدالة والتنمية, والتي جعلته مرحلة ثالثة في صيرورة إحياء إسلامي عميق قامت علي خليط مركب من التجريب العملي والنقد الذاتي, وسارت ليس فقط في اتجاه جدل( خارجي) مع بنية النظام الأتاتوركي المتطرف في علمانيته, بل وأيضا في اتجاه جدل( داخلي), مع مكوناتها هي نفسها, أدي إلي تطور رؤيتها للإسلام وللعالم من حولها, وربما لهذا أخذت توجها اعتداليا, تنامي عبر مراحل ثلاث أساسية: في المرحلة الأولي: حيث كانت جبهة الشرق الأعظم في الستينيات, برزت دعوة قائدها نسيب فاضل إلي إعادة بناء إمبراطورية الشرق الإسلامي ولو من خلال العمل السري بل والمسلح, ما كان يعني أن وجهته كانت الي الماضي, بأكثر مما هي الي العصر, تخاطب الموروث العثماني التقليدي بأكثر مما تخاطب الروح التركية الحديثة, وبدافع من جذريتها وماضويتها, كان فشلها السريع. وفي المرحلة الثانية: النظام العادل, نما توجه اعتدالي قاده نجم الدين أربكان, وتمكن بفضله من شق مسار عميق للصحوة الإسلامية تم تركيبه علي أكثر من حزب سياسي بدءا من السلامة الوطني أوائل السبعينيات, وصولا الي الرفاة الذي دخل أربكان باسمه منتصف التسعينيات, لأول مرة, في ائتلاف حاكم فشل في الحفاظ علي قيادته تحت ضغوط الأتاتوركية والجيش. أما المرحلة الثالثة: العدالة والتنمية, فانبثقت بدورها عن النظام العادل, مثلما انبثق النظام العادل عن جبهة الشرق الأعظم. ومثلما كان أربكان تلميذا لنسيب فاضل, كان رجب طيب أردوجان تلميذا لأربكان. فعندما تم تجميد أربكان وحل الرفاة, نشأ حزب الفضيلة من رحم الرفاة, ثم انقسم الفضيلة بين حزب السعادة الأكثر محافظة, وبين حزب العدالة والتنمية الأكثر تحررا وليبرالية, حيث بدأت مرحلة الإثمار الكامل بوصوله إلي موقع السلطة عام2002, ثم نجاحه في تعزيز مواقعه في انتخابات عامي2007,.2011 في هذا السياق أثبت التيار الإسلامي التركي قدرة هائلة علي التجدد بالتوافق مع الروح التركية الحديثة, خصوصا مع أردوجان الذي بلغ حد التصالح مع العلمانية السياسية المعتدلة, المتجذرة في التقليد الأوروبي, والقائمة علي مجرد الفصل بين الدين والمجال العالم, وليس علي محاربة الدين في المجال العام كما أرادت الصيغة الأتاتوركية التي مثلت في الحقيقة نوعا من الأصولية العلمانية, وإلي درجة تدفع بعض المتشددين الي اتهام أردوغان ب التواطؤ مع العلمانية, والتشكيك في ضميره الإسلامي, ما يعني أن الإسلام التركي بلغ حده الأقصي من النجاح, مع قدرته القصوي علي التكيف. والسؤال هنا هل يشبه تاريخ الإخوان المسلمين تاريخ العدالة والتنمية؟. تبدو الإجابة الأكثر موضوعية هي( لا), فالإخوان المسلمين جماعة ولدت( عام1928) في بيئة غير معادية للإسلام من الأصل, نحا مسارها إلي التشدد لا الاعتدال, كما تبدي في حركة اغتيالات متبادلة شاركت فيها الجماعة طيلة أربعينيات القرن العشرين, حتي طالت مؤسسها نفسه. وبعد ثورة يوليو, وضمن سياق ملتبس اتهمت الجماعة بمحاولة اغتيال قائدها فكانت موجة اضطهاد نالت من المنتسبين إليها, ودفعت ببعضهم إلي المزيد من التشدد واعتناق الفكر التفكيري في السبعينيات, وصولا إلي اغتيال الرئيس أنور السادات أول الثمانينيات, وهو الحادث الذي أدي لحظرها قانونيا, وقمعها أمنيا طيلة ثلاثين عاما تلت, وإن كان هذا القمع قد توقف دوما عند خطوط معينة لم يتجاوزها, علي نحو سمح لها بممارسة دور سياسي ما, ودخول عدة برلمانات, بالمشاركة في عدة تحالفات مع الوفد(1984), والعمل(1987), والفوز بنحو20% من مقاعد برلمان.2005 وهكذا نجد الخبرة الإخوانية مترددة في توجهاتها بين الاعتدال والعنف, علي العكس من الخبرة التركية المتنامية في اعتدالها. فإذا ما حاولنا مقاربة موقف الإخوان الآن بمراحل الإحياء التركي, فربما قاربناها بمرحلة الرفاة, الذي فاز ب20% من مقاعد برلمان.1996 وعلي الرغم من حصول الحرية والعدالة في الانتخابات البرلمانية السابقة(2011) علي النسبة ذاتها التي حصل عليها العدالة والتنمية في انتخابات2002(40%), فإن هذا التشابه علي صعيد التمثيل العددي والطاقة الانتخابية, لا يعكس تشابها موازيا علي صعيد التمثل القيمي, والتكوين السياسي, فالعدالة والتنمية في تركيا وريث تجربة تحديث عنيفة بلغت حد( التغريب) وإن كانت فاشلة, وقد تعلم من فشل الأتاتوركيين والإسلاميين التقليديين معا. وفي المقابل لا يملك إخوان مصر خبرات في الحكم تبدو ضرورية لإنضاجهم, كما أنهم لا يملكون هامشا كبيرا أو حتي واضحا للمناورة يبرر مجرد وصفهم ب( الإخوان المسلمين), ففي تركيا وحيث الأتاتوركية تمثل أصولية علمانية, يمكن بروز علمانية معتدلة تتوافق مع الإسلام علي نحو يوفر لها مجالا للعمل والإضافة والتجديد, بل يبرر وجودها من الأصل. أما في مصر حيث الدولة مدنية حقا منذ القرنين, فهي ترتكز إلي علمانية معتدلة توقر الإسلام وتحترم الأديان, فمن الصعب إضافة جديد يذكر من داخل فضاء الدولة المدنية نفسه, ومن المتعذر وجود هامش واسع للتجديد, فيما تؤدي المحاولات المصطنعة لصوغ ذلك الفضاء أو توسيع ذلك الهامش باسم الإسلام إلي القضم من جوهر الدولة المدنية, والنحر في عضد القيم الديمقراطية. هنا يواجه الإخوان مأزقا حقيقيا لا يمكن الخروج منه إلا بطريق واحد قويم, فيما البديل زائف وغامض. أما الطريق الصحيح فهو الاعتراف الشجاع بأن ما كانته مصر عبر قرنين هو الدولة المدنية الحقة التي نرجوها, وإن شوهتها بثور عسكرة وشمولية يجب استئصالها, ما يجعل دورهم المنتظر مجرد الإبحار عميقا في بني الديمقراطية, والاحترام العميق لقيمها ومفاهيمها, من دون بذل جهد ضائع لتمييز أنفسهم عمن سواهم من قوي مدنية أو ليبرالية. وهكذا وفي نهاية الطريق سوف يكتشفون أنهم ليسوا أكثر من جماعة أو حزب سياسي وطني, مجرد إخوان مصريين. وأما البديل لهذا الطريق فهو الإبحار عميقا في رحلة عبثية من اللف والدوران والغموض, يسودها جدل بيزنطي حول علاقة الهوية بالحداثة, والديمقراطية بالإسلام, والحرية بالإيمان, علي نحو ما تجسده مقولة الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية, والتي لا تعدو أن تكون عرضا لهذا الغموض الملتبس, الناجم عن محاولة اصطناع خصوصية سياسية غير قائمة في الحقيقة, وسموا أخلاقيا غير قائم في الواقع, ولا حاجة إخوانية لهما سوي المزايدة علي القوي المدنية الأخري, حشدا للمصوتين, ونفاقا للمريدين. [email protected]