أفرزت ثورات الربيع العربى ظاهرة التدافع لحركات الإسلام السياسى فى العديد من دول المنطقة ، سواء التى شهدت ثورات حقيقية على غرار تونس ثم مصر ، او احتجاجات شعبية للمطالبة بالتغيير على غرار المغرب ، ففى تونس تصدرت الحركات الإسلامية واجهة الحكم فى هذا العهد الجديد من خلال حزب النهضة ، وفى مصر من خلال الحرية والعدالة وحزب النور ، وفى المغرب من خلال حزب العدالة والتنمية. وصعود أسهم تلك الحركات جعل الأنظار تتجه تلقائيا الى التجربة التركية ، والتى انطلق فيها حزب العدالة والتنمية ، وزاد من توجه الأنظار والمناداة باستلهام التجربة التركية فى بلداننا العربية تلك الجولة الاخيرة لرجب طيب أردوجان للمنطقة ، من بينها زيارته لمصر ، وهى الزيارة التى اعتبرها كثيرون محاولة تركية لنقل تجربتها الى البلدان العربية من جهة ، ومحاولة للاختراق التركى القيادى للمنطقة فى مرحلة تحولها الجديد. ولكن هل هذه الحركات الإسلامية فى صورتها السياسية الجديدة بالبلدان العربية معدة اعدادا حقيقا للمهام السياسية الكبيرة خاصة فى مصر ، أو تم توظيفها جيدا للقيادة فى تلك المرحلة الهامة والحساسة من تاريخ البلدان عامة التى تتصدرها الآن هذه الحركات ، وهل مرت بالمراحل التى مرت بها تركيا ، وخاضت ذات التجارب التى أصهرتها على غرار حزب العدالة والتنمية التركى ..؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بد وان نقرأ معا التجربة التركية التى تعتمد على خلفية إسلامية ، مع الوضع فى الاعتبار كل الظروف والمكونات التى أحاطت وشكلت تلك التجربة . فمنذ عام 2002 وهو تاريخ انطلاق حزب العدالة والتنمية التركى ، قام الحزب بعدة خطوات تتسم بالأهمية ، وهى خطوات مهدت له الطريق السياسى وأيضا المناخ الاجتماعى والحالة الاقتصادية للنجاح وهى خطوات حاول خلالها التخلص من الآثار السلبية والمعقدة التى خلفها عهد نجم الدين اربكان ، اذ كان الاخير يحاول فرض الايدلوجية الاسلامية تحت الشعارات القوية مما خلق صداما وعداء هائلا ضده من العلمانيين والفصائل الأخرى . لذا قام حزب العدالة والتنمية بتنفيذ سياسة مرنة متفتحة لاستيعاب كافة الخلافات السياسية والمشكلات التى كانت تشتجر على الساحة التركية ، واتبع فى ذلك منهجا قويا للتعامل بذكاء مع التيار العلمانى الذى حارب بشدة التيار الاسلامى المتشدد ، والذى تأسس فى أحزاب متتالية تحت قيادة نجم الدين أربكان ، منها النظام الوطنى ، السلامة الوطنى ، الرفاة ، السعادة ، لأن الخصوم من العلمانيين كانت لهم قوتهم لمحاربة هذا التيار الإسلامى فى صورته الحزبية الجامدة والمتقولبة فى العهد الاربكانى . وهو ما تنبه اليه اردوغان وحاول حل اشكالياته بالمرونة ، وبالسياسيات التى اعتمدت على المناورات بدلا من المواجهات ، وذلك لتلاشى الصدام الذى واجهه اربكان عندما حاول فى بداية السياسية ارساء النظام الاسلامى وفرضه على الدولة بصورة جامدة لا مرونة فيها ، رغم انه حاول فى أيامه الاخيرة مغازلة العلمانيين ومغازلة اسرائيل على حساب الفلسطينيين . الا أنه فى هذه المحاولات لاستعادة القاعدة المجتمعية ، تسبب فى تشويه صورته لدى الاسلاميين لانه مس القواعد والثوابت بالنسبة لهم ، واصبح مفككا بين الفكر والتطبيق ، الا أن اردوجان تمكن من تلاشى كثير من الرفض والعداء العلمانى مدنيا او عسكريا ، وكان هدف اردوغان الاساسى ، تهيئة المجتمع وبذر بذور الاسلام بصورته المرنة فى المجتمع اولا من خلال نشر القيم والمبادئ الاسلامية المعتدلة التى تتسم بالمرونة ، لجذب مزيد من التأييد الشعبى . ومن ثم عمد الى المؤسسات الحكومية ، أى صعد الهرم من القاعدة للقمة ، وهو تدرج طبيعى وصل به الى القمة على ارضية ثابتة ، بعيدا عن مخاوف الانزلاق التى يسببها القفز الفجائى الى القمة دون هذه القاعدة العريضة ، ونجح بذلك فى تجاوز العثرات التى واجهها اربكان ونظامه الاسلامى السياسى الايدلوجى فى صورته الجامدة . وهى الاخطاء التى يمكن تلخيصها فى اختزال المشروع الاسلامى وشخصنته فى أربكان نفسه ، فكان هو المفكر والمخطط والمتابع والمنفذ ، ولم يكن له خليفة ، لذا عندما انتهى به الحال الى سجنه بتهمة التحريض على الكراهية ومناهضة اللادينية حيث حكم عليه بالسجن لمدة عامين، ، وكاد المشروع الاسلامى كله أن ينهار . ثانيا مشروعه كان سياسيا بحتا بعيدا عن النطاق التربوى لدرء الشقاق والفتن والصراعات ، وهو ما انعكس سلبا على المشروع والحزب نفسه بحدوث الانشقاقات والانفصالات الداخلية ، ثالثا اتخاذ الاسلوب الاستعراضى المبكر للقوة وفرض اوامر ونواهى الاسلام بحدة ، وهو ما استعدى عليهم الكيانات العلمانية والاخرى بقوة . بجانب تضارب وتخبط القيادة مع قيادات أخرى او أشخاص لهم ثقلهم داخل الحزب ، الامر الذى اظهر الخلافات والتخبط ، واستبعد فكرة الشورى التى يقوم عليها الاسلام ، مما اعطى انطباعات سلبية عن المشروع ككل أمام العلمانيين ، الذين استثمروا كل هذا لمحاربة المشروع الاسلامى بقوة . ولعل كل هذه الاخطاء نلمسها الان بقوة على الساحة المصرية ، الامر الذى يؤكد اننا سنعيش فى ظل تصاعد الاسلاميين وسيطرتهم على البرلمان ومقاليد الحكم فى مصر المرحلة الاربكانية بكل اخطائها قبل ان نصل الى المرحلة الاردوجانية . فتنفيذا للسياسة الاسلامية المرنة وتجنب أخطاء أربكان لتقليل الصراع مع العلمانيين ، عمد اردوجان الى التخلى عن الشكليات والمظاهر المتقولبة التى يمكن ان تؤخذ على الاسلام السياسى ، وركز جهوده على جوهر الاسلام ، مخاطبا فى ذلك المصلحة الشعبية بالدرجة الاولى سيرا بها الى مصلحة الامة والدولة ككل . اى قام بتوظيف جوهر المفاهيم الاسلامية سياسيا ، اجتماعيا ، اقتصاديا ، لتهيئة المجتمع لقبوله والالتفاف حوله دون تعنت ، وتمكن فى ابتعاده عن الشكليات ، ترسيخ مفاهيم النظام الاسلامى بصورته المرنة التى تراعى معطيات المرحلة واشكالياتها بعيدا عن الجمود والقوالب الثابتة المعدة سلفا ، فتم تنحية الايدلوجية الاسلامية جانبا والتى كان يعتمد عليها اربكان بقوة ، واعتمد اردوجان على جوهر الاسلام بما يتلائم مع المتطلبات الداخلية للدولة التركية حكومة وشعبا ، والتعامل مع الخصائص الداخلية التركية بذكاء ، خاصة التيار العلمانى . ومن أجل عدم إثارة العداء السابق بين العلمانيين والتيار الاسلامى فى عهد اربكان ، تخلى اردوغان عن الشعارات الاسلامية مع عدم تخليه عن الجوهر ، وتخلى ايضا عن الخطاب الاسلامى الشمولى الموجه ، واستعان بكثير من المؤسسات الشعبية فى المجتمع لنشر المفاهيم الاسلامية الجوهرية دون تشدد ، على غرار المؤسسات والمنظمات الاهلية ، والجماعات الثقافية والفكرية والتربوية ، وجماعات المتصوفة . وكل ذلك لمساعدته فى الوصول الى حالة من التعايش السلمى بين الاسلام السياسى وبين التيار العلمانى بفصيليه السياسى والعسكرى ، والمتوارث من العهد الاتاتوركى ، من خلال تنفيذ مجموعات من البرامج التى اعدها الحزب ، وهى برامج نهضوية ، اى هدفها النهوض بكافة فصائل الشعب على كافة توجهاتها دون تمييز ، اقتصاديا واجتماعيا ، ثقافيا وفكريا ، وبذلك تمكن بصورة ذكية من جمه العلمانيين تحت اطراف العباءة الاسلامية ، دون أن يشعرهم بالذوبان أو أنهم قدموا تنازلات ايدلوجية ما . واستثمر اردوجان علاقته بالاتحاد الاوروبى ، والطموح الشعبى فى الانضمام لعضوية الاتحاد ، استثمرها بذكاء وحرفية شديده لتقليص النفوذ العسكرى بشقية الاسلامى والعلمانى ، وتنفيذ عدة إصلاحات اجتماعية متوازنة لا تتعارض فى مضمونها مع الاسلام المعتدل ، وذلك تنفيذا لاشتراطات الاتحاد الاوروبى ، أملا فى الاقتراب من باب العضوية ، وهذه الورقة لعب بها أردوجان بقوة للحد من صلاحيات المؤسسة العسكرية ، وتحقيق إصلاحات فى القوانين وفى مجال القضاء والاقتصاد . وكل هذه الخطوات كانت سبب النجاح للتجربة الاردوجانية ، أما مصر الان ، وعلى ايدى الجماعات الاسلامية التى تفتقر الى خبرة الاداء والممارسة السياسية رغم أنها تضم فى جماعاتها واحزابها كوادر سياسية جيده لديها الاستعداد للقيادة ، الا أن مصر مع هذه الفصائل الاسلامية ستعيش المرحلة الاربكانية بكل اخطائها التى ادت الى الصدام المباشر بين مكونات المجتمع المختلفة . وقد يمر وقت طويل قبل ان يتم تجاوز أخطاء تلك المرحلة للوصول الى ما وصلت إليه تركيا الان فى المرحلة الاردوجانية ، وهى المرحلة التى تم فيها نوع من المصالحة والتوافق بين الاجندة الاسلامية وبين الفصائل الاخرى وعلى رأسها العلمانيين ، من خلال التخلى خلق خطاب سياسى دينى متطور يتجاوز النمطية والتقليدية ، ويتواءم مع القيم الحضارية ومتطلبات حقوق الانسان والنسق الديمقراطية دون التخلى عن القاعدة الإسلامية . وهى معادلة صعبة لا نعتقد أن الجماعات الاسلامية فى مصر الان يمكن ان تستوعب تعقيداتها بسهولة ، وتتعامل معها بخبرة وحرفية ، لتحدث نقاط تفاهم او على الاقل لتجنب الصراع بين المفاهيم الدينية الاسلامية وغير الاسلامية سواء مع المسيحيين او العلمانيين او غيرهم . لذا ستمر مصر بالمرحلة الأربكانية وبكل مشكلاتها ومخاطرها التى ادت الى اشتجار الصراع بالمجتمع التركى بين كافة الفصائل مع الاسلاميين ، غير أن الفارق أن الجيش التركى الذى تهمين عليه النزعة المعادية للاسلاميين المتشددين والذى يجنح للعلمانيين وينتصر لهم ، قد تمكن من ممارسة الضغوط القوية على الاسلاميين فى عهد أربكان ، افرزت هذه الضغوط المتغيرات التى حصدها اردوجان ، والذى اضطر الى تقديم التنازلات للتأقلم مع معطيات واقع المجتمع التركى لتحقيق السلام الاجتماعى . وهى معطيات تختلف كثيرا عما يستشعره المصريون الان من حدوث تفاهمات او ما وصل تسميته الى زواج غير شرعي بين الاسلاميين والجيش ، وتلاقح بعض المصالح بين الطرفين ، وهو ما ينبئ تماما بأن الجيش المصرى لن يكون له دور الجيش التركى مع هذه الجماعات الاسلامية ، على الاقل فى المرحلة المقبلة . فهل يمكن ان ينجح الاسلاميون فى تجاوز المرحلة الاربكانية بسرعة للوصول الى الاردوجانية ، انه سؤال شائك ، خاصة مع تصاعد لغة الخطاب المتشدد من قبل السلفيين على وجه التحديد ، وظهور بوادر تثير خوف المجتمع ، وشعارات ونداءات تهدد فصائل من المجتمع فى ارزاقها وحياتها الطبيعية التى اعتادتها ..؟ لكن ما يجب التأكيد عليه ان معايشة مصر لمرحلة اربكانية يشكل تهديدا كبيرا على نسيج المجتمع المصرى ، خاصة وان هناك بالفعل نذرا لفتن وخلافات طائفية وغير طائفية فى المجتمع المصرى ، وستتواجد اطراف واصابع خارجية واخرى داخلية ستنتفع بإذكاء تلك الخلافات لتتسع الفجوة بين فصائل المجتمع ، لذا الحكمة ، والتخلى عن الشعارات القاسية والتزام المرونة أمور مطلوبة بقوة حتى يتم تقسيم مصر وتمزيقها شيعا وفرقا .