يظل المفكر الكبير جمال حمدان، خالدًا في وجدان الأمة، بارزًا بأعماله الخالدة، مضيئًا نصب أعينها، رغم مرور سنوات على رحيله، فما كان لمشهد افتتاح قناة السويس الجديدة المهيب أن يكتمل دون ذكر إنجازات "حمدان"، لاسيما كتابه العبقري الاهم والباقي، "وصف مصر". ورغم أن "حمدان" لم يحصل على أي من حقوقه في حياته إلا أن الرئيس عبد الفتاح السيسي، أعاد له حقه في حفل افتتاح القناة الجديدة، بعد أن تحدث عنه وحلمه الذي تحقق بعد مرور العديد من السنوات على كتاباته ومؤلفاته وكلماته التي لا تزال حية في وجدان المصريين. ولد جمال محمود صالح حمدان، في قرية "ناي" بمحافظة القليوبية في 4 فبراير سنة 1928م، ونشأ في أسرة كريمة تنحدر من قبيلة "بني حمدان" العربية التي نزحت إلى مصر في أثناء الفتح الإسلامي. كان والده أزهريًّا ومدرّسًا للغة العربية، وقد اهتم بتحفيظ أبنائه السبعة القرآن الكريم، وتجويده وتلاوته على يديه، مما كان له أثر بالغ على شخصية "جمال حمدان"، وعلى امتلاكه نواصي اللغة العربية، مما غلّب على كتاباته الأسلوب الأدبي المبدع. حصل "جمال حمدان" على الثانوية العامة عام 1944م، وكان ترتيبه السادس على القطر المصري، ثم التحق بقسم الجغرافيا بكلية الآداب، وكان طالبًا متفوقًا ومتميزًا خلال مرحلة الدراسة الجامعية، حيث كان منكبًّا على البحث والدراسة، متفرغًّا للعلم والتحصيل. وبعد تخرجه عام 1948م تم تعيينه معيدًا بالكلية، ثم أوفدته الجامعة في بعثة إلى بريطانيا سنة 1949م، حصل خلالها على الدكتوراه في "فلسفة الجغرافيا" من جامعة "ريدنج" عام 1953م، وكان موضوع رسالته "سكان وسط الدلتا قديمًا وحديثًا"، ولم تترجم رسالته تلك حتى وفاته. بعد عودته من بعثته العلمية انضم إلى هيئة التدريس بقسم الجغرافيا في كلية الآداب جامعة القاهرة، ثم رُقّي أستاذًا مساعدًا وأصدر في فترة تواجده بالجامعة كتبه الثلاثة الأولى: "جغرافيا المدن"، و"المظاهر الجغرافية لمجموعة مدينة الخرطوم"، و"دراسات عن العالم العربي" وقد حصل بهذه الكتب على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1959م، وقد لفتت كتبه أنظار الحركة الثقافية عامة، كما أنها صوبت إليه سهام الغيرة من قِبَل بعض زملائه وأساتذته داخل الجامعة، حتى اضطر في عام 1963م إلى التقدّم باستقالته من الجامعة؛ احتجاجًا على ظلم إداري تعرَّض له. وباستقالة "حمدان" من الجامعة تبدأ مرحلة طويلة من التبتل في طلب العلم، والانقطاع للتأليف أثمرت نتاجًا علميًّا غزيرًا، يأتي في القمة منه موسوعته الفريدة "شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان"، ومن الإنصاف أن نؤكد - كما أشار عدد من الباحثين - أن "جمال حمدان" لم ينعزل تلك الفترة الطويلة ذلك النوع السلبي من العزلة، وإنما عَزَلَ ضجيج الحياة وصغائر همومها وتهافت صراعاتها عن فكره الراقي وعقله الثاقب؛ ليطلق لهما العنان في آفاق العلم الرحبة وغير المحدودة. كانت رؤية جمال حمدان للعلاقة بين الإنسان والطبيعة في المكان والزمان متوازنة؛ فلا ينحاز إلى طرف على حساب الآخر، يظهر ذلك واضحًا في كتابه العظيم "شخصية مصر"، والذي تبرز فيه نظرته الجغرافية المتوازنة للعلاقة بين الإنسان المصري والطبيعة بصفة عامة، و"النيل" - كمكوِّن أساسي للطبيعة المصرية - بصفة خاصة، وكيف أفضت هذه العلاقة إلى صياغة الحضارة المصرية على الوجهين: المادي والروحي. أصدر "جمال حمدان" كتابه المهم "اليهود أنثروبولوجيًّا"، الذي أثبت فيه أن اليهود المعاصرين الذين يدَّعون أنهم ينتمون إلى فلسطين ليسوا هم أحفاد اليهود الذين خرجوا من فلسطين قبل الميلاد، وإنما ينتمي هؤلاء إلى إمبراطورية "الخزر التترية" التي قامت بين "بحر قزوين" و"البحر الأسود"، واعتنقت اليهودية في القرن الثامن الميلادي، وهذا ما أكده بعد ذلك "آرثر بونيسلر" مؤلف كتاب "القبيلة الثالثة عشرة" الذي صدر عام 1976م. وقد ترك "جمال حمدان" 29 كتابًا و79 بحثًا ومقالةً، يأتي في مقدمتها كتاب "شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان"، الذي أصدر الصياغة الأولى له سنة 1967م في نحو 300 صفحة من القطع الصغير، ثم تفرغ لإنجاز صياغته النهائية لمدة عشر سنوات، حتى صدر مكتملًا في أربعة مجلدات خلال السنوات بين 1981م. حظي "جمال حمدان" بالتكريم داخل مصر وخارجها فقد حصل عام 1959م على جائزة الدول التشجيعية في العلوم الاجتماعية، ومُنح جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية سنة 1986م، 3- وحصل كذلك على وسام العلوم من الطبقة الأولى عن كتابه "شخصية مصر" عام 1988م، كما منحته الكويت جائزة التقدم العلمي سنة 1992م قبيل وفاته. وفي السابع عشر من إبريل 1993م، انتقل العالم الجليل الدكتور "جمال حمدان" إلى جوار ربه، إثر تسربٍ غامض للغاز في منزله، وكما شيَّد تراثه العلمي الخالد في هدوء فقد شاء الله له أن يرحل في هدوء، ويبقى على الأجيال اللاحقة أن تُحسن الالتفات إلى النماذج العلمية الشامخة التي يمتلئ بها تاريخ أمتنا القديم والحديث على حد سواء.