"لا تحتقر أحدا أو شيئا فالله حين خلقه لم يحتقره".. "لن تبلغ من الدين شيئا حتى توقر جميع الخلائق.. وتحسب أنك جرما صغيرا وفيك انطوى العالم الأكبر". هذه بعض وصايا الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي الذي قال عنه الدكتور نصر حامد أبوزيد "إن كل من مسه طائف من فكره يظل يحلم دائما بتجديد صلته به سعيا للتدقيق المعرفي من جهة ولاستيعاب التجربة الروحية التي تتجلى في كتاباته من جهة أخرى. من هنا وكما قال أبوزيد في كتابه "هكذا تكلم ابن عربي" تأتي أهمية إحياء ما تركه الشيخ لنفهم قضايانا المعاصرة وأزمات عصرنا ربما نجد لحلها سبيلا. لن أخوض هنا في تناول أبوزيد لسيرة حياة ابن عربي على أهميتها البالغة ولن أخوض في ما قاله صاحب الكتاب عن علم الشيخ الأكبر وتصوفه ورؤيته للخالق والمخلوق وسلطانه على كثير من حكام وملوك عصره ومدى مكانته وتلاميذه ومريديه. كل ما شغلني هو ما جاء في مقدمة الكتاب لما فيها من تفسير بديع لما يعيشه العالم الآن، ففي تمهيد الكتاب لخص أبوزيد الأسباب الحقيقية الكامنة وراء كل الصراعات التي تملأ العالم وتضعه فوق صفيح ساخن فهو يرى" أن القرن العشرين بكل ما فيه من طفرات علمية وإنجازات مادية مذهلة جعلت من العالم قرية صغيرة بفضل الثورة التكنولوجية الهائلة لكن هذا التقدم الذي يفوق التصور أحيانا شغل المفكرين وزاد من مخاوفهم حول مستقبل البشرية لأنهم رأوا أن كل التطورات المتلاحقة والسريعة في عالم الاتصالات والتكنولوجيا قد كشف عن كم هائل من التناقضات بين الأغنياء والفقراء من ناحية، وبين المستغلين والمستغَلين من جهة أخرى، ليبرز الظلم والذي كان محصورا من قبل داخل حدود الأقطار القومية بوصفه ظاهرة عالمية لا بين أقطار "الشمال" وأقطار "الجنوب" فقط، بل بين الشرق والغرب نفسه من جهة، وبين "أغنياء الجنوب وفقرائه من جهة أخرى." في "هكذا تكلم ابن عربي" نعرف "أن التقدم الذي شهده القرن العشرين تجاوز ما حققته البشرية من تقدم في تاريخها كله بفضل الحداثة التي تمتد جذورها إلى عصر الأنوار في القرن الثامن عشر" ويوضح أبوزيد أن فلاسفة التنوير بذلوا جهودا كبيرة لتحرير الإنسان الفرد من إخضاع الكنيسة له ليكتشف بإرادته الحرة كل قوانين الطبيعة باستخدام علوم التاريخ والجغرافيا والاجتماع والانثروبولوجي. لكن السعي للوصول إلى هذا التحرر من قوانين الكنيسة المطلقة أدى وأدى التركيز على "الفردية" بوصفها قيمة مطلقة وإلى إسناد قيمة مطلقة أخرى لقوانين "العقل". هذا التحرر كان نتيجة الجهود الكبيرة التي بذلها فلاسفة التنوير لكنهم حين بذلوا جهودهم تلك لم يكن يخطر ببالهم إن ما قاموا بإنجازه سيحمل في طياته السياسية الإمبريالية للرأسمالية الوليدة التي سعت من خلال هذه الأيديولوجيا إلى امتلاك العالم لتستحوذ على المواد الخام والأيدي العاملة الرخيصة والأسواق المستهلكة. يقول أبوزيد في كتابه "أن حركة المد الإمبريالية الحامل الأيديولوجي لفلسفة التنوير تنظر إلى شعوب الجنوب بوصفها شعوبا في حاجة للتنوير ذلك أن المفهوم المطلق للعقل عند التنويريين يفترض النقيض "اللاعقل" بوصفه يمثل تهديدا مباشرا لسلطة العقل واستطاع التوظيف السياسي الاستعماري الإمبريالي لهذه الثنائية أن يصنف البشر إلى "متحضرين"-هم أبناء الغرب – و"همج" هم من سواهم من البشر أبناء الشعوب والثقافات غير الغربية وأصبح من واجب" المتحضرين" أن يسعوا لتنوير الهمج." ومن هنا جاءت كل صنوف العدوان التي مارسها الشمال ضد الجنوب، هذا العدوان هو ما جعل شعوب الجنوب تتمسك بثقافتها لمقاومة ثقافة الشمال التي تهدد ثرواته ومعتقداته بل ووجوده أيضا. يقول أبوزيد في كتابه أن مفهوم "نهاية التاريخ" لفوكو ياما هو مفهوم ديني في المقام الأول" لأن الأديان في مهدها تبشر بالخلاص وهكذا يبشرنا فوكوياما، أن التاريخ قد وصل إلى رحلته الأخيرة ولم يعد أمامنا إلا الراحة في جنة الرأسمالية والتمتع بنعيم الديمقراطية على النمط الأمريكي. مفهوم فوكوياما لم يرق إلى مستوى اليوتوبيا الدينية، التي يتحقق فيها العدل المطلق تعويضا لمن وقع عليه ظلم في هذه الحياة. والعولمة التي بشر بها فوكوياما ليس بها أي تعويض أو عزاء- ولو محتمل- للضعفاء والمنكسرين. بعد "نهاية التاريخ" لفوكوياما جاء "هانتجتون" ب "صراع الحضارات"، وهنا يطرح أبوزيد سؤالا مهما وهو:"أي حضارات تلك التي تنبأ بها "هانتجتون"؟ وهل سيكون الصراع بينها هو سمة القرن الحادي والعشرين؟ إنها كل الحضارات القديمة التي حلت محلها حضارة "الغرب" الحديثة، إنها حضارات "آسيا"، الصين واليابان على وجه الخصوص و"إفريقيا" و"الإسلام" تحديدا. لم يقل "هانتجتون" شيئا عن الأصولية المسيحية في أمريكا نفسها، ولم يذكر كلمة واحدة عن الأصولية اليهودية في إسرائيل، وكلتا الأصوليتين تستعيدان بهاءهما ومجدهما في عداء واضح لقيم الحداثة وعلمانيتها. لم يذكر "هانتجتون" شيئا عن تفاصيل المشهد لأنه كان مشغولا بأمر واحد محدد: خلق عدو جديد يحل محل "الشيطان الأحمر" وليكن العدو الجديد شيطانا أصفرا أو أخضر أو شيطانا بلا لون، فالمهم أن يقوم الشيطان بدور القناع الديني لإبراز وجه المخلص الأمريكي خصوصا والغربي عموما. أليس من الطبيعي وقد صارت العولمة دينا أن يسعى البشر لمقاومة هذا الدين الجديد والتصدي للاهوته المضمر باستدعاء "الدين" في كل الثقافات بلا استثناء حتى داخل المجتمعات التي صنعت الحداثة؟!"