1. مقدمة تشهد العلاقات المصرية التركية حالة غير مسبوقة من التوتر والاضطراب؛ بسبب المواقف التركية من ثورة الثلاثين من يونيو، وما ترتب عليها من عزل الرئيس السابق محمد مرسي، حيث اعتبر رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، أن ما قام به الجيش المصري يمثل انقلابًا على الشرعية والعملية الديمقراطية، وأتبع ذلك بحملة إقليمية ودولية لإدانة القيادة المصرية الجديدة؛ في محاولة لمحاصرتها وعزلها ونزع الشرعية الدولية عنها. وعلى الرغم من المحاولات المصرية لاستيعاب الموقف التركي، سواء من خلال التجاهل تارة أو عبر الرسائل الدبلوماسية والسياسية تارة أخرى، فإن تمادي القيادة التركية في التدخل في الشأن المصري، وانتقالها من حيز الطرف المعني بضمان مصالحه مع مصر، لنطاق “,”الطرف المنحاز“,” لجماعة ثار عليها الشعب، قد أفضى إلى تصاعد حدة التصريحات الرافضة للمواقف التركية المختلفة وصولاً لاستدعاء السفير المصري بأنقرة للتشاور، وإلغاء المناورات البحرية المشتركة، التي كان من المقرر إجراؤها في أكتوبر 2013. ارتبط ذلك بطبيعة الموقف الذي تبنته “,”صقور“,” النخبة الحاكمة بتركيا، والذي يصب لجهة عدم التخلي عن جماعة الإخوان المسلمين، وعدم التسليم بما ترتب على ثورة 30 يونيو من تطورات، وقد انعكس ذلك في تحركات تركية معلنة، عبرت عنها دعوة رئيس الوزراء التركي مجلس الأمن الدولي والجامعة العربية لاتخاذ موقف حازم حيال عملية فض اعتصام ميداني “,”رابعة“,” و“,”النهضة“,”، كما تجلى في محاولات تركية غير معلنة تستهدف استضافة عدد من قيادات حركة الإخوان وتهريبهم عبر البحر إلى تركيا؛ لتتحول أنقرة بمقتضى ذلك لمركز عمل هذه القيادات، بما يسمح لها، من ناحية، بمخاطبة الرأي العام الدولي، ومن أخرى، بالتواصل مع أعضاء الإخوان والتنظيمات الإسلامية داخل مصر. 2. تطورات الموقف التركي قطع رئيس الوزراء التركي عطلته القصيرة، على نحو مفاجئ، بعد عزل محمد مرسي؛ ليعقد اجتماعًا طارئًا مع هاكان فيدان، رئيس الاستخبارات التركية ( M İ T )، ليخرج بعد ذلك منددًا بموقف الجيش المصري، قائلاً إن الذين يعتمدون على السلاح في أيديهم، والذين يستندون إلى قوة الإعلام، لا يستطيعون بناء الديمقراطية التي تبنى عبر صندوق الاقتراع وحسب. ومنذ ذلك وتتوالى فصول التصعيد التركي انتهاجًا ل“,”إستراتيجية حافة الهاوية“,” مع القيادة المصرية الجديدة، التي رفضت تركيا تهنئتها والترحيب بها، بدعوى أنها غير منتخبة، بل وعملت على مواجهتها دوليًّا؛ عبر التنديد بما اعتبرته “,”ازدواجية المعايير“,” في المواقف الغربية حيال أحداث مصر. ترافق ذلك مع تصاعد وتيرة التظاهرات والاحتجاجات التي عمت بعض المدن التركية للتنديد بالجيش المصري، وهي تظاهرات شارك فيها مؤيدو حزب العدالة والتنمية، فضلاً عن الكثير من عناصر الإخوان المسلمين في تركيا، سواء من المقيمين أو من الدراسيين العرب. ورفعت خلال هذه التظاهرات صور الرئيس المعزول محمد مرسي، ورددت شعارات ضد الفريق أول عبد الفتاح السيسي، القائد العام للقوات المسلحة المصرية. وعلى جانب آخر فقد آثرت تركيا دوام التصعيد السياسي مع مصر، من خلال السماح بعقد التنظيم الدولي للإخوان اجتماعات سرية في تركيا؛ لبحث تداعيات سقوط حكم جماعة الإخوان بعد عزل مرسي. وحسب إستراتيجية وضعها ذراع التخطيط في التنظيم الدولي، الذي يحمل اسم “,”المركز الدولي للدراسات والتدريب“,”، تم وضع خطة تقضي بالعمل على زعزعة استقرار مصر بالتنسيق مع بعض القوى الإقليمية، على رأسها تركيا وقطر. استهدفت هذه الخطة، حسب النص المنشور لها، صدع الجيش، وعسكرة الصراع، وتشويه المعارضة إعلاميًّا، ومحاصرة مؤسسات الدولة، ومحاولة تطبيق “,”النموذج السوري“,” في مصر. وقد أعقب اجتماع “,”التنظيم الدولي“,” في إسطنبول تصريحات لوزير الخارجية التركي في منتصف يوليو الخالي لقناة NTV التركية، أكد خلالها على أن عزل مرسي لن ينشر الفوضى والعنف في مصر وحسب، وإنما في كافة أرجاء الشرق الأوسط. عكست هذه التطورات طبيعة الارتباك التركي بسبب “,”الحدث الصدمة“,” الذي فشلت في توقعه، بسبب تركيز وكالة أنباء الأناضول -التي كانت أقرب ما تكون إلى الوكالة الرسمية لمصر- على الجوانب الإيجابية للأحداث المصرية، وبفعل ما أرسلته السفارة التركية بالقاهرة من تقدير موقف إلى وزارة الخارجية، أوضحت فيه أنه ليس بإمكان الحشود الشعبية عزل محمد مرسي. واتضح لاحقًا أن هذا التقدير اعتمد على تقارير كتبها أعضاء في حركة الإخوان المسلمين. هذا على الرغم من أن هذه التقارير توافقت إلى درجة بعيدة مع التقديرات الخاصة بسيفر توران، المستشار السياسي لرئيس الحكومة التركي، والذي عينه أردوغان مبعوثًا خاصًّا، يعنى من ناحية ببحث سبل إقامة علاقات وثيقة مع مصر، ويقوم من ناحية أخرى بإعداد تقرير أسبوعي عن الأوضاع المختلفة في القاهرة، وقد شارك توران إلى جانب مستشارين آخرين لأردوغان في تقديم المشورة إلى حركة الإخوان بشأن كيفية إدارة الأزمات السياسية المتلاحقة التي شهدتها مصر خلال الشهور الأخيرة من حكم مرسي. 3. أسباب التصعيد تنوعت الدوافع التركية للتصعيد السياسي والإعلامي حيال مصر، ما بين دوافع محلية وأخرى إقليمية، وهو ما يمكن رصده على النحو التالي: (أ) على الصعيد الداخلي ارتبط الموقف التركي من إسقاط حكم الإخوان المسلمين بما تشهده الساحة التركية من اضطرابات، بعدما اكتظت ميادين المدن التركية الثمانية والأربعين بنحو سبعمائة ألف متظاهر في الأول من يونيو الخالي، ينددون بالحزب الحاكم بعد أن لجأ للعنف المفرط في التعامل مع المتظاهرين السلميين. وقد ساهم ذلك في انخراط مجموعات شبابية في حركات احتجاجية جديدة تسعى لمواجهة سياسات الحكومة التركية، وتنسق تحركاتها وإستراتيجيتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وقد علق على ذلك أردوغان بقوله إن “,”الانقلابات العسكرية باتت تدبر الآن في الميادين ومواقع التواصل الاجتماعي، مثلما حدث في مصر.. في الماضي كانت الانقلابات العسكرية تحدث عندما يخرج الجيش للشوارع ويعلن الأحكام العرفية، والآن يتم إرساء هذه الأسس بالمظاهرات غير القانونية وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتأتي القوات المسلحة بعد ذلك مباشرة“,”. تصريحات أردوغان كشفت حجم التخوف من اندلاع احتجاجات شعبية ينحاز إليها الجيش التركي، في تكرار “,”للسيناريو المصري“,”، وقد عبر عن ذلك صراحة أردوغان ذاته حينما أشار إلى أن “,”القوى التي تقف وراء ما يحدث في مصر كانت تريد تطبيق نفس السيناريو في تركيا من خلال أحداث ميدان تقسيم الأخيرة، ومن خلال إخراج الناس إلى الشوارع وبعض الميادين؛ ليوضحوا للعالم أن تركيا كلها تقف ضد الحكومة، ولكنهم لم يفلحوا فيما أرادوا تحقيقه“,”. الربط الدائم بين الأحداث التركية والتطورات المصرية لخصه وزير الخارجية التركي، حينما أبدى قلقًا عميقًا من تداعيات الأحداث المصرية على بقية دول المنطقة، وفق “,”نظرية الدومينو السلبي“,”، وهو أمر لا يمكن فصله عن الدوافع التي وقفت وراء إقدام أردوغان على ما أسماه بعض معارضيه “,”قرصنة تشريعية“,”، وذلك بعد إقرار تشريع يجرم معارضة النقابات العمالية والمهنية لأي من المشروعات العامة، فضلاً عن تغيير المادة 35 من قانون الخدمة الداخلية للقوات المسلحة التركية، وهي المادة التي كان الجيش التركي يستغلها للتدخل في الحياة السياسية. هذه التطورات عكست هكذا توترات وتخوفات مكتومة لدى النخبة الحاكمة في تركيا، عبر عنها الكاتب التركي محمد يلماز، في صحيفة حرييت، بقوله إن “,”أردوغان يعتقد أن الانقلاب الذي جرى في مصر هو انقلاب ضده، ويتصرف على هذا الأساس. ومع أن تركيا ليست مصر، وقد تجاوزت منذ زمن عهد الانقلابات، لكن أردوغان لا يعنيه شيء من هذا الواقع. لأنه يريد من ذلك أن يصل إلى هدف، وهو اتهام كل من ينتقده على أنه يخرج على الديمقراطية فيعتقله أو يطارده. ويتهم بالتالي كل من شارك في أحداث تقسيم على أنه يستدرج انقلابًا عسكريًّا“,”. (ب) على الصعيد الإقليمي أدت المحددات الخارجية دورًا أساسيًّا في تبلور نمط التعاطي التركي مع ثورة الثلاثين من يونيو؛ ذلك أن تركيا ربطت مشروعها الإقليمي ب“,”أسس أيديولوجية“,” تقوم على تعميق العلاقات مع الدول الإسلامية بصفة عامة، والتيارات الإسلامية داخل هذه الدول بصفة خاصة. وقد لعبت تركيا دور الوسيط بين حركة الإخوان المسلمين والعديد من الدول الغربية، وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية، وقد تضمنت هذه العملية -التي تعود بدياتها للعام 2009- تقديم تعهدات من قبل الحركة عبر أنقرة باحترام اتفاقية السلام مع إسرائيل والتعايش مع دولة عبرية تعيش في سلام مع الجار الفلسطيني، خصوصًا “,”الجزء الغزاوي“,” منه، والذي يتبع الحركة أيديولوجيًّا وتنظيميًّا. ومع اندلاع ثورات “,”الربيع العربي“,” بدا أنها اللحظة المناسبة للاشتغال على المشروع التركي، الهادف إلى تمكين حركات الإسلام السياسي في المنطقة العربية، وعلى رأسها حركة الإخوان، باعتبارها الحركة الأكثر تنظيمًا؛ أمأ؛؛ ليتم الإعلان عن تأسيس حزب الحرية والعدالة، في تشابه واضح من حيث الاسم مع الحزب الحاكم في تركيا. وقد تبع ذلك بقيام تركيا بتقديم توصيات إعلامية واستشارات سياسية لأعضاء حركة الإخوان المسلمين، على نحو جعل حزبي “,”العدالة“,” المصري والتركي يتحركان حيال بعضهما وعلى مسرح عمليات الإقليم، كأنهما حزبان لحركة واحدة. هذه التحركات بدت واضحة حينما طلب أردوغان خلال زيارته للقاهرة في سبتمبر 2011، خلال جلسة مغلقة مع بعض الحزبين والناشطين السياسيين، عدم السماح بوجود أي دور للجيش في العملية السياسية. كما تجلت في زيارته لمنزل سيف الإسلام، ابن مؤسس حركة الإخوان المسلمين، حسن البنا، وكذلك في انعقاد مؤتمر دولي ضخم في إسطنبول عن فكر حسن البنا ذاته، وذلك في مايو 2012. هذا بالإضافة إلى ما أبدته أنقرة من انتقادات متتالية للمجلس العسكري؛ بسبب تأخر إعلان الفائز بالانتخابات الرئاسية، ثم التهليل بفوز محمد مرسي، وجلوس السفير التركي بمفرده إلى جانب أسرة الرئيس المصري السابق أثناء إلقاء خطابه في جامعة القاهرة، ثم حضور محمد مرسي المؤتمر الرابع لحزب العدالة والتنمية في العاصمة التركية في سبتمبر 2012. وقد انعكس ذلك أيضًا في توقيع فرعي الحزبين الحاكمين في الإسكندريةوإسطنبول لبرتوكول تعاون مشترك، وقيام تركيا، سواء من خلال صيغ رسمية أو غير رسمية بدعوة أعضاء حركة الإخوان المصريين لزيارة تركيا؛ للاستفادة من التجربة التي قدمها حزب العدالة والتنمية. هذا ناهيك عن الترحيب التركي بقيام الرئيس السابق بإقالة المشير حسين طنطاوي والفريق سامي عنان. ارتبط التحيز التركي لحركة الإخوان بما تقدمه من “,”روح أيديولوجية“,” مشابهة، وباعتبار أنها تقدم دليلاً على شعبية الإسلام السياسي في المنطقة، والتي ترتبط بطبيعة الإستراتيجية التركية لتوثيق العلاقات مع الدول العربية على أساس الرابطة الدينية لا القومية، التي تثير ريبة العرب من توجهات تركيا الخارجية، والشكوك في طبيعة رغبتها في إعادة الخلافة العثمانية، وإن كان ذلك على نحو أكثر عصرية، من خلال دعم تيارات الإسلام السياسي والأحزاب ذات التوجهات الدينية للوصول إلى الحكم، ونسج علاقات معها تجعل مركز تفاعلات الإقليم تركيا، وليس أيًّا من هذه الدول. لذلك، فإن التصريحات التركية والغضب العارم الذي ينتاب القيادات التركية، يعني أن ثورة الثلاثين من يونيو مثلت ضربة كبيرة للبناء الذي اشتغل عليه أردوغان، واستكمالاً للهزيمة الإستراتيجية للمشروع التركي في المنطقة، والذي جعل من مصر “,”بوابة مفتاحية“,” لتجاوز الحواجز إلى ساحات منطقة الخليج العربي وبقية الدول العربية والإفريقية، بعد إغلاق “,”البوابة السورية“,” بسبب قطع العلاقات لدعم أنقرة المتظاهرين ضد نظام بشار الأسد، فيما “,”البوابة المصرية“,” أغلقت للتو بسبب دعم تركيا لنظام الرئيس المعزول، محمد مرسي، وإدانة معارضيه من المتظاهرين. 4. مسارات محتملة التقييمات التركية للحدث المصري وتأثيراته الإقليمية المرجحة، قد تعني تزايد احتمالات أن تشهد علاقات البلدين توترات كبرى خلال الفترة القادمة، لا سيما بعد أن غدا واضحًا أن تركيا لن تراجع مواقفها، حتى بعد إقدام مصر على استدعاء السفير المصري بتركيا للتشاور؛ للاعتراض على السياسيات والتصريحات التركية الأخيرة. قد يكون ذلك السبب الأساسي في اتخاذ القاهرة قرارًا برفع درجة التوتر النسبي؛ لإثناء تركيا عن مواقفها الحادة حيال القيادة السياسية الجديدة في مصر، عبر إلغاء المناورات البحرية المشتركة. إن فصول التوتر في العلاقات المصرية مع تركيا مرشحة للتصاعد على نحو أوضح وأكبر خلال الفترة المقبلة، فالعلاقة باتت طردية بين استقرار مصر وتوتر العلاقات المشتركة مع تركيا، وذلك في ظل ما باتت تدركه القيادة المصرية بشأن الدور السلبي الذي لعبته تركيا على الساحة المصرية المحلية في مواجهة مؤسسة الجيش المصري، وعلى الساحة الخارجية من خلال محاولة نزع الشرعية عما قام به القائد العام للقوات المسلحة المصرية، عبر الترويج دوليًّا وإقليميًّا بأن ما قام به الفريق أول عبد الفتاح السيسي يمثل انقلابًا على رئيس مدني منتخب. لذلك؛ فإن المباراة أضحت “,”صفرية“,”، بمعنى أن مكسب كل طرف يمثل بالضرورة خصمًا من رصيد الطرف الآخر، ارتباطًا بأن تركيا وضعت ذاتها في خندق الإخوان، دون أن تراعي ضرورة الحيطة من الخسارة الإقليمية حال نجاح الجيش المصري في العبور بمصر من هذه المرحلة الصعبة، بما يجعلها تحاول التضييق عليه، وإعطاء حركة الإخوان في مصر جرعات من الأمل تجعل هذه الحركة على “,”سرير المرض“,” المؤقت وليس على “,”خشبة الموت“,” السياسي الدائم. هذا الأمر قد يرفع من تكلفة مهمة الجيش وأجهزة الأمن والقيادة المصرية الجديدة، غير أنه في الوقت نفسه قد يجعل تركيا تقضي على حلمها الإقليمي بنفسها في قيادة منطقة الشرق الأوسط؛ لسقوطها في الامتحان الأصعب، سواء في مواجهة القوى الشعبية والأحزاب المدنية، أو في مواجهة أكبر وأهم جيش عربي، فضلاً عن التداعيات الوخيمة لذلك على صورة تركيا الإقليمية ومستقبل علاقاتها مع قوى عربية تقليدية ما زالت ترى أن مفتاح الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط ومركزه القاهرة وليس تركيا.