عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: هَلْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَهُوَ قَاعِدٌ؟. قَالَتْ: نَعَمْ، بَعْدَ مَا حَطَمَهُ النَّاسُ. [رواه مسلم] ومعنى (حطم فلاناً أهله إذا كبر فيهم؛ كأنه لما حمله من أمورهم، وأثقالهم، والاعتناء بمصالحهم؛ صيروه شيخاً محطوماً، والحطم كسر الشيء اليابس). [شرح النووي على مسلم] قرأت هذه الرواية المؤثرة مرات ومرات؛ وفي كل مرة استشعر معاني أكثر وأطيب؛ على الرغم من الشجون، والآثار النفسية التي تثيرها تلك القراءات!؟. أهكذا كانت أحماله ومعاناته صلى الله عليه وسلم مع رعيته؟!. ثم أهكذا فعلت به همومه وأثقاله القيادية صلى الله عليه وسلم؟!. وأخيراً؛ أهكذا فعلتم أيها الناس وفعلنا بحبيبنا صلى الله عليه وسلم؟!. إنهم يحطمون قياداتهم؟؟؟!: وعندما نظرت إلى هذه القضية من خلال رؤية بحثية في بعض المؤسسات الإدارية والتربوية والدعوية؛ هالني هذا الكم الهائل والمنوع من الأساليب والطرق؛ التي تمارس لتحطم أشد وأقوى القيادات!؟. فماذا عن هذه المدمرات أو المحطمات السبع؛ التي من شأنها أن تنهك أي رمز وأي مسؤول في أي موقع؛ حتى وإن كان الوالد أو الوالدة داخل أي أسرة!؟. حيث وجدت أن من أخطرها؛ قسمين رئيسين: القسم الأول: المدمرات القاسية: وهي التي يمكن اكتشافها بسهولة، لأنها ظاهرة ومحسوسة، وغير مرغوبة من القائد أو المسؤول!؟. 1-عدم التقدير: وهذا السلوك له صور كثيرة وأهمها خُلُق الاحترام بين الناس؛ خاصة التفسح في المجالس!؟. لذا كان من أبرز الآداب الاجتماعية؛ التي جاءت بها التوجيهات القرآنية: "يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسّحُواْ فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُواْ يَفْسَحِ اللّهُ لَكُمْ". [المجادلة 11] وهو سلوك ذوي الفضل؛ الذين يعرفون لذوي الفضل فضلهم؛ كما فعل الرائع أبو بكر رضي الله عنه. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وقد أطاف به أصحابه إذ أقبل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فوقف فسلم ثم نظر مجلساً يشبهه فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوه أصحابه أيهم يوسع له وكان أبو بكر رضي الله عنه جالساً عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزحزح له عن مجلسه وقال: ههنا يا أبا الحسن. فجلس بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر. قال أنس: فرأيت السرور في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أقبل على أبي بكر فقال: يا أبا بكر إنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذوو الفضل". [مسند الشهاب] 2-كثرة الشكوى: وهي التي تنهك الرموز؛ عندما تتزايد معدلات الشكوى داخل المؤسسة، وتتضاخم معدلات التناحر. فتعطي المسؤول أو القائد باقة من الرسائل السلبية القاسية؛ التي معناها أن من تحت مسؤوليته ليسوا أصفياء مع بعضهم البعض، وأن النفوس مشحونة، وأن جهوده كلها في التوفيق ما هي إلا هباءً منثوراً!؟. وتخيل نوعية الشكوى التي كانت تأتيه صلى الله عليه وسلم؛ كل يوم بل وكل لحظة؛ فمنها: (1)المشاكل الأسرية: كما حملت المجادلة خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها شكواها إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم. فلم تذهب لغيره صلى الله عليه وسلم، وانفردت به صلى الله عليه وسلم ولم تشرك أحداً في حل قضيتها؛ حتى ولو كانت عَائِشَةَ رضي الله عنها التي روت: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأصْوَاتَ لَقَدْ جَاءَتِ الْمُجَادِلَةُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُكَلِّمُهُ وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ مَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا) إِلَى آخِرِ الآيَةِ [المجادلة1]". [مسند الإمام أحمد] (2)المشاكل المعيشية: ومن أمثلة ذلك ما ورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كان أخوان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكان أحدهما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر يحترف فشكى المحترف أخاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لعلك ترزق به". [سنن الترمذي حسن صحيح قال الشيخ الألباني: صحيح] (3)المشاحنات النفسية: وهي الهنات التي تحدث بين الأفراد أمام المسؤول؛ فيكون أجمل رد هو الصمت وعدم التعليق حتى لا يتعمق الخلاف!. وتأمل هذه الحادثة: "ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب بن مالك؟ فقال رجل من بني سلمه: يا رسول الله حبسه برداه، والنظر في عطفيه. فقال له معاذ بن جبل رضي الله عنه: بئس ما قلت! والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم". [متفق عليه] (4)المشاكل الداخلية المنزلية: وهي المشاكل التي تحدث يومياً في الجبهة الداخلية؛ ونقصد به البيت، والعلاقات بين الزوجين!. وتدبر عمق الخطر أو الخلل الذي يصيب جبهتنا الداخلية؛ في القصة التي رواها الفاروق رضوان الله عليه: "وَكُنَّا تَحَدَّثْنَا أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ النِّعَالَ لِغَزْوِنَا، فَنَزَلَ صَاحِبِي يَوْمَ نَوْبَتِهِ، فَرَجَعَ عِشَاءً فَضَرَبَ بَابِيا ضَرْبًا شَدِيدًا. وَقَالَ: أَنَائِمٌ هُوَ؟!!!. فَفَزِعْتُ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ. وَقَالَ: حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ. قُلْتُ: مَا هُوَ أَجَاءَتْ غَسَّانُ؟!!!. قَالَ: لَا؛ بَلْ أَعْظَمُ مِنْهُ وَأَطْوَلُ وفي رواية أهول طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ. قَالَ: قَدْ خَابَتْ حَفْصَةُ وَخَسِرَتْ، كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ هَذَا يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ". [رواه البخاري ومسلم والترمذي] فتأمل هذا الصحابي الجليل؛ الذي لا يذكر الحديث اسمه، وهو يعود هلعاً إلى صاحبه عمر رضي الله عنهما، أثناء نوبته لمتابعة آخر أخبار الوحي، وكيف كان في ميزانه الراقي لأولويات الخطر؛ أن أي خطر يمس بيته صلى الله عليه وسلم، لهو أهول وأعظم، وأطول من أي خطر لغزو خارجي!؟. (5)الناقدون ... المحيرون!؟: وتدبر كيف أن المسؤول يصله من البعض ما لا يصدقه، ولكنه يتحرى الأمور بدقة، حتى يعدل!؟. وذلك كما جاء في هذا الأثر: "عن أبو عوانة عن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال: شكى أهل الكوفة سعداً في كل شيء حتى قالوا: إنه لا يحسن يصلي!. قال: فأرسل إليه عمر فقال: إنهم قد شكوك في كل شيء؛ حتى زعموا أنك لا تحسن تصلي!؟. فقال سعد: والله إن كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أخرم عنها؛ أصلي صلاتي العشاء فأركد في الركعتين وأحذف في الأخريين. قال: ذلك الظن فيك أبا إسحاق!. فأرسل معه رجلاً أو رجلين يسأل عنه أهل الكوفة فلما قدم عليهم لم يدع مسجداً إلا سأل أهله فيذكرونه خيراً ويقولون: معروفاً. حتى أتى مسجداً لبني عبس فقام رجل منهم يكنى أبا سعدة؛ فقال: أما إذ انشدتنا فإن سعداً لا يسير بالسرية، ولا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية!؟. فقام سعد فقال: أما والله لأدعون عليك دعوات؛ اللهم إن كان عبدك كاذباً فأطل عمره، واشتد فقره، وعرضه للفتن. قال عبد الملك بن عمير: فأنا رأيته بعد ذلك شيخاً كبيراً مفتوناً؛ إذا سئل: كيف أصبحت؟!. يقول: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد!. فقال يعد فأنا رأيته وإنه ليتعرض للجواري في الطرق؛ يغمزهن، قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر". [مسند البزار] 3-كثرة الأعباء: لأن القادة يتحملون من الأعباء ما لا يطيقون، ويتابعون من المهام فوق ما يتحملون!. وذلك له أسباب: (1)القائد هو أول من يستشعر الخطر والتبعة فلا ينام أو يرتاح حتى تنتهي؛ كما روى أنس بن مالك: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان أحسن الناس. وكان أجود الناس. وكان أشجع الناس. ولقد فزع أهل المدينة ليلة؛ فانطلقوا قِبَل الصوت؛ فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبقهم إلى الصوت ، وهو على فرس لأبي طلحة عرى ما عليه سرج، في عنقه السيف؛ وهو يقول: يا أيها الناس لن تراعوا. يردهم، ثم قال للفرس: وجدناه بحراً!. أو: إنه لبحر!. [سنن ابن ماجه قال الشيخ الألباني: صحيح] (2)أن يستشعر المسؤول كسل أو تهاون البعض في تنفيذ ما يكلفون به؛ فيضطر المسؤول لمتابعة الأمور بنفسه!؟. (3)أن بعض المسؤولين قد يجنحون إلى المركزية التي تشل الأفراد ولا تعطيهم صلاحية في التنفيذ!. فكل شيء لابد أن يكون عليه ختم: (حسب توجيهات الزعيم)!؟. (4)ومنها أن المسؤول لا يمارس التفويض؛ فلا يصنع مثلما صنع الفاروق رضي الله عنه في توزيع المسؤوليات والمهام والصلاحيات: "من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أُبي بن كعب، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني فإن الله قد جعلني خازناً وقاسماً". 4-كثرة الهموم: وهي الأعباء النفسية التي يتحملها أي مسؤول أو قائد وهو يخشى على رعيته ومن تحت إمرته من المستقبل، واحتمالات تغيير التابعين في منهجه الذي أرساه لهم، وطريقه الذي تعب وكد في توضيحه!؟. فعن إبراهيم قال الأسود: كنا عند عائشة رضي الله عنها؛ فذكرنا المواظبة على الصلاة والتعظيم لها. قالت: لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات فيه؛ فحضرت الصلاة؛ فأذن. فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس. فقيل له: إن أبا بكر رجل أسيف؛ إذا قام في مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس. وأعاد؛ فأعادوا له فأعاد الثالثة فقال: إنكن صواحب يوسف؛ مروا أبا بكر فليصل بالناس. فخرج أبو بكر فصلى فوجد النبي صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة فخرج يتهادى بين رجلين كأني أنظر رجليه تخطان من الوجع فأراد أبو بكر أن يتأخر فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن مكانك ثم أتي به حتى جلس إلى جنبه. [البخاري ومسلم] فتدبر غضب الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهمومه التي التي جاءت من أن الآخرين لا يرون في خليفته رضي الله عنه؛ ما يراه من القوة، فيرون أنه رضي الله عنه رجل أسيف؛ أي رقيق القلب سريع البكاء، لا يقدر على هموم الخلافة!. القسم الثاني: المدمرات الناعمة: وهي التي يصعب اكتشافها؛ وذلك لكونها غير محسوسة، ومرغوبة من المسؤول؛ فهي تقتله ببطء، وتحطمه بسلاسة، وتدمره بنعومه!. 5-المدح والتلميع: وهذا قسم هو أن البعض يمارس عادة المدح للمسؤول؛ حتى تصل إلى درجة التجميل والنفاق!؟. فإذا سمع يوماً ما نقداً من شخصٍ ما؛ أشعره على الفور بالفرق؛ فيؤلمه، ويؤثر فيه نفسياً؛ لدرجة الغضب؛ لأنه لم يتعود إلا على المديح المعسول؛ لهذا كانت التوصيات النبوية قاسية في من يبالغ في مدح الآخرين: "قام رجل يثني على أمير من الأمراء؛ فجعل المقداد يحثي عليه التراب، وقال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثي في وجوه المداحين التراب". [صحيح مسلم] 6-التقديس والتأليه: وهي النتيجة المباشرة للمديح المفرط، والثناء المبالغ فيه؛ حيث يصل مدح البعض لمسؤوله إلى درجة ترفع قيمته فوق البشر؛ فيستشعر أنه لا ينبغي أن يسأل عما يفعل، أو أنه لا يخطئ!. فإذا سمع نقداً من أي شخص؛ فيشعر وكأنه أفاق من غفوته؛ فيغضب، أو يرى في هذا الناقد أنه تعدى الأدب والاحترام، و...، و...!؟. وتدبر كيف ربط الحبيب صلى الله عليه وسلم بين الثناء وبين قطع العنق؟؟؟!!!: "أثنى رجل على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ويلك قطعت عنق أخيك ثلاثاً من كان منكم مادحاً لا محالة؛ فليقل أحسب فلاناً والله حسيبه ولا أزكي على الله أحداً إن كان يعلم". [صحيح البخاري] ولهذا كان النهي عن الإطراء وهو الإفراط في المديح؛ لدرجة قد تصل إلى الكذب؛ لأنه باب للضلال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم؛ فإنما أنا عبده فقولوا: عبد الله ورسوله". [صحيح البخاري] 7-التوثين والتصنيم: وهي النتيجة الأخرى لظاهرة المديح المستمر المبالغ فيه، والثناء الدائم المفرط فيه!؟. حيث يتحول المسؤول أو القائد إلى صنم يدور حوله الآخرون؛ بوعي أو دون وعي كالقطيع!. أو تصل أوامره إلى درجة التوثين؛ فلا يصح أن تراجع أوامره، ولا ينبغي أن تناقش قراراته!؟. لهذا كان موقف الحبيب صلى الله عليه وسلم من ذلك الذي قابله فارتعش خوفاً، وارتعد هلعاً؛ فرده إلى وعيه، ومنعه من توثينه؛ حتى لا ينسى أنه عبد مثله؛ يأكل اللحم المجفف والمملح مثله: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل؛ فكلمه؛ فجعل ترعد فرائصه؛ فقال له: هون عليك؛ فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد". [سنن ابن ماجه قال الشيخ الألباني: صحيح] د. حمدي شعيب زميل الجمعية الكندية لطب الأطفال (CPS) خبير تربوي وعلاقات أسرية E-Mail: [email protected]