نائب رئيس جامعة بنها يتفقد الامتحانات بكليتي الحاسبات والذكاء    تحت رعاية رئيس الجمهورية.. الداخلية تنظم الملتقى الخامس لشباب وطلائع المدن الجديدة بالسويس ( فيديو)    بروتوكول تعاون بين جامعة بنها والأكاديمية العسكرية للدراسات العليا    افتتاح مقر فرع توثيق الشهر العقاري بمجمع الألومنيوم بنجع حمادي | صور    البنك الدولي: مصر قطعت خطوات جيدة في تطبيق الحياد التنافسي    البورصة تخسر 45 مليار جنيه بختام تعاملات أولى جلسات الأسبوع    جانسن مصر تشارك في المعرض والمؤتمر الطبي الأفريقي الثالث 2024    تخفيف الأحمال.. مصدر ب"الكهرباء" يكشف حقيقة استثناء أسوان من الخطة    ماذا تقدم بي إم دبليو M3 موديل 2025 لتباع ب4.8 مليون جنيه؟    القاهرة الإخبارية: استشهاد 7 فلسطينيين وإصابة العشرات بقصف إسرائيلي فى النصيرات ودير البلح    اجتماع بالجامعة العربية لتقييم منتديات التعاون مع الدول والتجمعات الإقليمية    الحوثيون: استهدفنا مدمرة بريطانية وسفينتين في البحر الأحمر بصواريخ باليستية    قصف أمريكي بريطاني يستهدف منطقة الجبانة في الحديدة غرب اليمن    الزمالك يجهز مستحقات جوميز لصرفها خلال أيام    نجم كولومبيا يعلق على سحق أمريكا    محافظ الشرقية يهنئ لاعبي ولاعبات الهوكي لفوزهم بكأس مصر    الدنمارك تسعى لاستعادة ذكريات 1992 و2021 في اليورو    أسماء ضحايا حادث سيارة العمالة الزراعية في قرية دمشلي بالبحيرة | صور    المرور: ضبط 28776 مخالفة خلال 24 ساعة    عمرو دياب ظالم أم مظلوم؟.. القصة الكاملة ل«صفع» الهضبة لمعجب    وزيرة الثقافة: كثير من المبدعين والمصممين يشتكون تعرض إبداعاتهم للسطو    ما حكم الأضحية عن الميت؟    محافظ الشرقية يُفاجئ المنشآت الصحية والخدمية بمركزي أبو حماد والزقازيق    تصفيات كأس العالم.. منتخب مصر يواجه غينيا بيساو بالزي البديل    كرواتيا تحقق فوزا تاريخيا على البرتغال    ريان عربي جديد.. إنقاذ طفل سوري وقع داخل بئر بإدلب    الكويت تدين الهجوم الهمجي لقوات الاحتلال الإسرائيلي على مخيم النصيرات    مدرسة غبور للسيارات 2024.. اعرف مجموع القبول والتخصصات المتاحة    وزير الزراعة يوجه بتكثيف حملات التفتيش على منافذ بيع اللحوم والدواجن والاسماك والمجازر استعدادا لاستقبال عيد الأضحى    ضبط مالك مطبعة متهم بطباعة المطبوعات التجارية دون تفويض من أصحابها بالقليوبية    فى انتظار القصاص.. إحاله قضية سفاح التجمع الخامس إلى جنايات القطامية    اعتدال بسيط في درجات الحرارة بمحافظة بورسعيد ونشاط للرياح.. فيديو وصور    استقالة الحكومة لن تلغى المشروع الجديد خطة تصحيح مسار الثانوية العامة    مايا مرسي: إنشاء متحف المرأة المصرية داخل متحف الحضارة    بسمة داود تنشر صورا من كواليس "الوصفة السحرية"    «صورة أرشيفية».. متحف كفر الشيخ يعلن عن قطعة شهر يونيو المميزة    منورة يا حكومة    بروتوكول بين «التأمين الاجتماعي» وبنك مصر لتفعيل آليات التحصيل الإلكتروني    رمضان عبد الرازق يوضح فضل العشر الأوائل من ذي الحجة    موعد يوم التروية 1445.. «الإفتاء» توضح الأعمال المستحبة للحاج في هذا التوقيت    «التنمية المحلية» تتابع مواجهة الزيادة السكانية في 3 محافظات    طريشة تلدغ مسنا بواحة الفرافرة في الوادي الجديد    يحدد العوامل المسببة للأمراض، كل ما تريد معرفته عن علم الجينوم المصري    سر تصدر شيرين رضا للتريند.. تفاصيل    إدريس : أتوقع أن نحقق من 7 إلى 11 ميدالية في أولمبياد باريس    عاجل.. إعلامي شهير يعلن أولى صفقات الأهلي الصيفية    العمل: زيارات ميدانية لتفقد مواقع الإنتاج بأسيوط    عمرو محمود يس وياسمين عبدالعزيز في رمضان 2025 من جديد.. ماذا قدما سويا؟    «التضامن الاجتماعي» توافق على قيد ونقل تبعية 3 جمعيات بالقاهرة والغربية    الصحة: الانتهاء من قوائم الانتظار لعمليات قسطرة القلب بمستشفى السويس العام    أستاذ صحة عامة يوجه نصائح مهمة للحماية من التعرض لضربات الشمس    «الإفتاء» توضح أعمال يوم النحر للحاج وغير الحاج.. «حتى تكتمل الشعائر»    حزب الله يستهدف موقع الرمثا الإسرائيلي في تلال كفر شوبا اللبنانية المحتلة    «الداخلية»: ضبط 552 مخالفة عدم ارتداء الخوذة وسحب 1334 رخصة خلال 24 ساعة    الملامح النهائية للتشكيل الحكومي الجديد 2024    مجلس التعاون الخليجي: الهجوم الإسرائيلي على مخيم النصيرات جريمة نكراء استهدفت الأبرياء العزل في غزة    3 طرق صحيحة لأداء مناسك الحج.. اعرف الفرق بين الإفراد والقِران والتمتع    هذه الأبراج يُوصف رجالها بأنهم الأكثر نكدية: ابتعدي عنهم قدر الإمكان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الناس إللي تحت .... عبدالوهاب مطاوع

لقد شهدت من حيث لا أرغب لحظة قدرية، سجلتها بكاميرا الذاكرة فانحفرت فيها و ظلت تطاردني بإيحائاتها الكئيبة لفترة طويلة من حياتي.
فلقد كنت في ذلك الوقت أقيم في شقة صغيرة من غرفتين في حي قريب من جامعة القاهرة التي تخرجت فيها قبل عام واحد، و كنت أمر وقتها بمرحلة كئيبة من مراحل حياتي، فلقد رحل ابي عن الحياة قبل ايام و انا في الواحد و العشرين من عمري، فتزلزل كياني كله، و رجعت بعد أيام العزاء في مدينتي الصغيرة، الى عملي بالأهرام و حياتي بهذه الشقة الصغيرة فثقلت علي وحدتي فيها و جفاني النوم، فكنت لا أستسلم له كل يوم قبل ان تشرق الشمس. و كانت شفتي هذه تقع في الدور الأرضي فوق بدروم مقسم الى غرف مستقلة تقيم بكل غرفة منها أسرة من أسر العمال و الحرفيين، و كنت في أوقات الصفاء أطلق على سكان البدروم تعبير "الناس اللي تحت"، كما كنت اتأمل حياة هؤلاء الناس.. و أعايش شواغلهم و همومهم على البعد، فقد كانت أصواتهم تتسلل الي رغما عني عبر النافذة الخلفية لغرفة نومي المطلة على منور العمارة، و كان هذا المنور هو مستراح سكان هذا البدروم في الصيف، تتسامر فيه الزوجات و البنات في الأصيل، و يجتمع فيه الرجال في المساء، فاذا تحدثوا سمعت كل ما يقولون فكأنما يتحدثون في غرقتي، ومن هذه النافذة الخلفية سمعت نبأ اختفاء الابنة الكبرى لأسرة عامل بمحل بقالة، و ولولة امها عليها و ندبها لها: (( بعد ان كبرت؟.. بعد ان كبرت تتركنا و تذهب من حيث لا نعرف؟)). و من هذه النافذة ايضا سمعت بنبأ عودتها الى أسرتها بعد ايام حين اكتشفت خداع الشاب الذي أغواها بالهرب معه و مرواغته لها في الزواج بها و كيف أبت ان تسلمه نفسها و فضلت ان ترجع لأببا "و لو ذبحها" على ان تمضي معه في طريق الضياع.
و سمعت الكثير و الكثير حتى ألفت اصوات هؤلاء "الناس اللي تحت" و اعتدت ان اميز شخصياتهم منها كما ألفت ان اسمع أحدهم يوقظ زوجته من نومها في الخامسة من صباح كل يوم لكي تذهب الى المخبز القريب و تشتري منه كمية محددة من أرغفة الخبز لتقوم بتوزيعها كراتب يومي على بعض الأسر و بعض مطاعم الفول و تعين زوجها بهذا الرزق الشحيح على حياة أسرتها، و ألفت سماع سيدة أخرى و هي توقظ زوجها باحترام شديد لكي يذهب الى عمله في محل البقالة، و كيف ينهض الرجل كل يوم و يقول لزوجته بوقار يليق بالعظاما: "صباح الخير يا فلانة” كما ألفت ان اسمع ايضا معاتبة زوجة طيبة لزوجها الوسيم المتعاجب الذي ينفق بعض دخله كعامل نقاشة على شراء زجاجة من أردأ انواع الخمور من حين الى آخر، و تذكيرها له برفق بأن ابناءه أحق بثمن هذا السم الذي يضر بصحته.
فاذا لمزته بعض الزوجات في مجلس الأصيل و نوهن بتكاسله عن العمل حتى لتضطر زوجته للعمل نيابة عنه في بعض الأيام لتلبي مطالب الأسرة سمعت نفس هذه الزوجة تدافع عنه بحرارة في غيبته و تلتمس له العذر في خلافاته مع مقاول العمل و تنفي عنه كل تقصير، فتضحك الزوجات و يغمزنها بأنه "الحب" الذي يغفر له عندها كل نقيصة!
الى ان كنت في فراشي ذات ليلة أقرأ في كتاب فاذ بي اسمع دبيب الحياة يتسلل الى بدروم "الناس اللي تحت" مع صوت الرجل الذي يوقط زوجته بائعة الخبز كل صباح. و ترقبت ان أسمع نداءه التقليدي لها مرتين او ثلاثا ثم تنهض الزوجة و تستعيد نشاطها، و اسمع وقع قدميها و هي تغادر البدروم. و لم يتأخر النداء عن موعده، لكني لاحظت هذه المرة ان صوت الرجل يعلو اكثر من المعتاد و هو يقول لها يا فلانة... يا فلانة.. اصحي قبل ما يفوتك موعد الراتب" و لم اسمع صدى للنداء و انما سمعت الرجل يعود لمحاولة ايقاظها بصوت أعلى و بشيء من الضيق:
- يا فلانة مضت ربع ساعة انا احاول ايقاظك ماذا جرى لك؟"
و لم اسمع للمرة الثانية اي اجابة، و واصل الرجل الالحاح على زوجته للاستيقاظ و قد ازداد ضيقا بكسلها فصاح: و بعدين معاكي يا فلانة؟ الف مرة طلبت منكي ان تنامي مبكرا لكي تستيقظي بسهولة بدلا من هذا العذاب كل يوم.. اصحي يا امرأة.
و لكن الزوجة واصلت الاستسلام فيما يبدو لسلطان النوم اللذيذ و لم تستجب للنداء، فازدادت نبرة الضيق في صوت زوجهتا، و مد يده اليها فيما يبدو ليهزها بعنف و هو يقول:" يا فلانة اصحي.. اصحي.. ما هذا الوخم؟ و الله لئن لم تستيقظي لأتركنك و اخرج الى عملي.. و ذنبك على جنبك!
و في كل مرة يصيج الزوجة مناديا على زوجته يتشتت تركيزي في القراءة فأضيق بهذه المقاطعة لكني أعزي نفسي بأنها لن تطول، ولن تلبث الزوجة ان تنهض من نومها معتذرة ثم يخرج الزوجان طلبا للرزق، فاذن بي أشعر بشيء طارئ يلفت انتباهي و يدفعني دفعا لمتابعة هذا " المسمع" الذي اقتحم علي خلوتي!. فلقد تحولت نبرة صوت الرجل من الضيق الى شيء من القلق و هو يقول: "يا فلانة.. يا فلانة.. ماذا جرى لك اليوم؟ اصحي.. يا بنت الناس اصحي.
ثم ازدادت نبرة القلق في صوته و خالطها لأول مرة شيئ جديد من الخوف فسمعته يقول:
يا فلانة.. يا فلانة.. استر يا رب.. استر يا رب
فتسلل بعض هذا القلق من صوته الي و وجدتني أضع الكتاب جانبا و أركز كل انتباهي معه و هو يحاول ايقاظ زوجته، و أترقب بلهفة اللحظة التي تستجيب فيها للنداء، اما هو فقد واصل النداء على زوجته بخوف متزايد و قد عادت الى صوته من جديد نبرة الرفق و العطف و اختفت نبرة الضيق و التهديد، الى ان سمعته فجأه يصرخ: الحقوني يا ناس.. الحقوني يا ناس.. فلانة ماتت.. فلانة ماتت.. لا حول و لا قوة الا بالله.. لا حول و لا قوة الا بالله!
ثم ينفجر في الصراخ و العويل و الولولة.. و تتصاعد الاحداث في هذه اللحظة القدرية المؤلمة فأسمع وقع خطوات تهرول و أصوات رجال و نساء يتحدثون.. و اسمع الرجل الذي كان قبل لحظات ينهر زوجته ساخطا لكي تنهض من نومها يولول متشكيا و يقول: اين أذهب بأولادي الخمسة يا ربي.. لماذا تركتيني في نصف الطريق يا فلانة؟.. و الجيران من سكان البدروم و من حوله يهدئون من روعه و يشدون من أزره و قد خيم على المكان كله ظل ثقيل من الكآبة و الوجوم، فلقد كانت الزوجة المكافحة بين يدي خالقها منذ وقت لا يعلمه الا الله و زوجها يحاول ايقاظها لتحرج الى الحياة و تواصل فيها الكفاح من اجل الرزق!.
و كان من سوء حظي أن شهدت هذه اللحظة القدرية بكل مفارقاتها المؤلمة، فضاعفت من اكتئايي و ضيقي و احزاني و يئست من ايه محاولة للنوم بعد ذلك فارتديت ملابسي و غادرت مسكني لأذهب لعملي بلا نوم، و رأيت و انا أغادر العمارة الرجل المنكوب يقف امام مدخلها يبكي بين عدد من جيرانه فتقدمت منه بلا سابق معرفة و واسيته في مصيبته، و سمعته و انا ابتعد عنه يقول لمن معه: ظللت اوقظها من النوم
ساعة طويلة بغير ان تتحرك!.
و لأيام بعدها عجزت عن النوم في هذا المسكن الخالي فحملت حقيبتي منه و نزلت ضيقا على احد اقاربي في حي بعيد، و كلما خلوت الى نفسي سمعت صوت الرجل في مخيلتي و هو ينهر زوجته "لكسلها" و "وخمها" ثم يولول عليها بعد لحظات اخرى معلنا رحيلها عن الحياة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.