أخيراً نجحت القمة الأوروبية في اختيار مفوضية جديدة بعد خلاف احتدم أكثر من ثلاثة أشهر "25 مفوضاً" كان آخرها رفض البرلمان الأوروبي لوجود عناصر أصولية. وقد نجح رئيس المفوضية الجديد البرتغالي جوس باراسو في احتواء الخلاف حين استبعد الإيطالي رونو بونو جليوني الذي كان مرشحاً لتولي مفوضية العدالة والذي ثبت أنه كاثوليكي متعصب يقف ضد حقوق المرأة وحقوق الإنسان وحقوق الأديان الأخري. والبرتغالي جوس باراسو الذي جاء خلفاً للإيطالي برودي ينتمي إلي الاتجاه اليساري الليبرالي كان في يوم من الأيام ماركسيا نجح أيضاً خلال الأسبوع الماضي في إقامة احتفالية تاريخية للتوقيع النهائي علي الدستور الأوروبي. وفي قاعة يوليوس قيصر، في قصر كامبودوليو التاريخي في روما، اجتمع رؤساء 25 دولة أوروبية للتوقيع علي الدستور الجديد، وقد وقع الرؤساء ووزراء الخارجية علي الدستور بأقلام صنعت خصيصاً من البلاتين. وتذكر الجميع أن نفس القاعة في روما قد شهدت منذ 47 عاماً (1957) ولادة الاتحاد الأوروبي من خلال توقيع معاهدة روما بين الدول الست التي أسست السوق الأوروبية المشتركة والتي تعتبر الأساس الذي قامت عليه الوحدة الأوروبية، والدول الست التي كانت تعدادها في ذلك الوقت 100 مليون "فرنساألمانيا إيطاليا بلجيكاهولندا لكسمبرج" أصبحت الآن 25 دولة تضم 450 مليون نسمة. وكان مشروع الدستور الأوروبي قضية خلافية طوال السنوات الثلاث الماضية وتركز الخلاف حول ما سمي بصراع الثقافات داخل دول الاتحاد فقد عارضت فرنسا ومعها ألمانياوبلجيكا الاقتراحات التي تقدمت بها إيطاليا وبولندا وأسبانيا "مراكز الكاثوليكية الأوروبية" ليتضمن مشروع الدستور الأوروبي إشارة واضحة إلي القيم والجذور المسيحية لدول الاتحاد. وقادت فرنسا الاتجاه الذي رفض النص علي القيم المسيحية لأن ذلك يعطي للدستور طابعاً دينياً ويفوض الأساس العلماني للدولة الأوروبية الحديثة، بينما أكدت ألمانيا أن الفقرة التي تتحدث عن الجذور الثقافية والإنسانية بشكل عام تفي بالغرض دون النص علي الجذور المسيحية، وعارضت بريطانيا وإيرلندا وبلجيكا النص علي القيم المسيحية فقط حيث توجد في أوروبا جاليات كبيرة إسلامية وبوذية وهندوكية ويهودية. وجري في هذا الصدد مناقشات بل ومباريات ثقافية وفكرية مثلما جري بين الرئيس البولندي الذي كان يسهب في الحديث عن دور الكنيسة في الوحدة والمستشار الألماني جيرهارد شرويدر عندما حذر بولندا بألا تبدأ عضويتها الجديدة بالمعارضة الدينية. أيضاً حين أسهب برليو برلسكوني رئيس وزراء إيطاليا في الحديث عن ضرورة النص علي القيم المسيحية قال له الرئيس الفرنسي جاك شيراك شكراً أيها الأب المبجل.. كفانا صراعات دينية.. ويحلو للبعض أن يحلل المواقف الأوروبية المختلفة من الدستور الجديد علي أسس مذهبية دينية مثل الكاثوليكية والبروتستانتينية أو الدول اللاتينية والدول الأنجلوسكسونية، بينما نري أن الأمور اتخذت شكلاً سياسياً وأيديولوجياً. فالدول الأوروبية التي تحكمها أحزاب اشتراكية وليبرالية رفضت وجود نصوص دينية، بينما طالبت الدول التي تحكمها أحزاب يمينية محافظة ومسيحية بضرورة الإشارة إلي الجذور والقيم المسيحية، ولعل أكبر مثل علي ذلك هي أسبانيا التي كانت تؤيد الاتجاه الذي يطالب بوجود نص في الدستور عن القيم المسيحية قبل الانتخابات الأخيرة ثم غيرت موقفها بعد الإطاحة بالحكومة اليمينية ووصول الاشتراكيين إلي السلطة. وانتصار الاتجاه العلماني في إقرار الدستور الأوروبي الجديد يمثل ملمحاً خاصاً ومهماً في الاتجاه الأوروبي العام ازاء الصراعات الدينية والعرقية وجاء النص الدستوري الذي اتفق عليه ليقول إن الاتحاد الأوروبي يستوحي الإرث الحضاري والإنساني لأوروبا والذي التقت فيه القيم العالمية الثانية لحقوق الإنسان والديموقراطية والمساواة والحرية وحكم القانون.. علي أن الصراع الثقافي حول النصوص الدينية لم يكن هو وحده مصدر الخلاف الذي اتصل علي مدي ثلاثة أعوام حول الدستور الجديد فقد ثارت الخلافات حول الموارد التي تحدد آليات التصويت التي تشترط موافقة 50% من أعضاء الاتحاد علي أي مشروع قرار بحيث يشكلون 60% من السكان، وهو الأمر الذي أثار حفيظة الدول الصغيرة التي أحست أنها ستفقد إلي حد كبير دورها في التأثير علي القرارات التي ستنفرد بها الدول الكبيرة "ألمانيافرنساإنجلترا" خاصة وقد سحب الدستور الجديد الحق السابق لمجموعة دول أو حتي دولة منفردة علي تنفيذ القوانين. كما ينص الدستور الجديد علي أن أي مشروع قانون يصبح نافذاً وملزماً إذا حصل علي موافقة ثلثي دول الاتحاد شريطة أن يمثلوا 80% من سكان الاتحاد، وهي ميزة أخري اختص بها المشروع الجديد البلدان الكبيرة، واشتراط النسبة العالية من السكان يكاد يعطي الحق لهذه الدول الكبيرة باستخدام الفيتو ضد أي مشروع قرار لا توافق عليه. وتضمن الدستور الجديد أيضاً عدداً من الأسس التي تتعلق بتشكيل البرلمان والحكومة الأوروبية وسلطات كل منهما حيث أعطي الدستور سلطة واسعة للبرلمان الأوروبي الذي عليه أي يوافق علي رئيس المفوضية وأن يرفض أو يقبل أو يسحب الثقة من أي رئيس أو من المفوضية كلها. وقد بدأ البرلمان الأوروبي بالفعل أولي ممارساته الدستورية حين اعترض علي تشكيل المفوضية الأوروبية علي أساس أنها تضم بعض العناصر الأصولية وأرغم رئيس المفوضية علي تغيير هذه العناصر المرشحة، رغم أن الدستور الجديد لن يوضع موضع التنفيذ قبل سنة 2009. والدستور الأوروبي الجديد وضعته لجنة خاصة ضمت عدداً من الحكماء الأوروبيين الذين لعبوا دوراً مهماً في تأكيد الاتحاد ودوره وعلي رأسهم الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان والمستشار الألماني الأسبق هيلموت شميت، والاثنان يعتبران من المهندسين الأوائل لتطوير السوق الأوروبية المشتركة ونقلها إلي صيغة الاتحاد بعد معاهدة ماستريخت في أواسط التسعينيات. والذي لاشك فيه أن الدستور الأوروبي الجديد يعتبر خطوة مهمة وأساسية علي طريق دعم الجانب السياسي والاقتصادي للوحدة الأوروبية، ويحقق الحلم الأوروبي القديم في الوحدة من جبال البرانس في أسبانيا وحتي جبال الأورال في روسيا. لقد حاول نابليون توحيد أوروبا بالقوة وجعل باريس عاصمة لها، بينما كان هتلر يعمل بأساليبه النازية والبربرية علي توحيد أوروبا تحت زعامته وأن تكون برلين هي العاصمة. ولكن أوروبا تتوحد من جديد بعيداً عن هواجس السيطرة والهيمنة، وإن كان من المؤكد أن فرنساوألمانيا تلعبان دور القاطرة الدافعة لهذه الوحدة.