أخيراً قررت المفوضية العامة لدول الاتحاد الأوروبي فتح باب المفاوضات مع تركيا بشأن الانضمام إلي الاتحاد. وقد يبدو الأمر وللوهلة الأولي نجاحاً لحكومة الطيب أردغان ذات التوجه الإسلامي، خاصة بعد أن استطاع هو وحزبه الذي جاء بتيارات إسلامية أن يغير الكثير من القوانين في الاتجاه الذي يرضي دول الاتحاد آخرها كان قانون (الزنا) الشهير الذي أقره البرلمان، ثم عاد وأجري تعديلات جوهرية عليه. ولكن هذا النجاح قد لا يصمد كثيراً أمام التحديات الكثيرة التي تواجه تركيا والنظام القائم بها في محاولة اللحاق بركب أوروبا واتحادها، فالتوصية الأخيرة الصادرة عن المفوضية لا تحدد زمناً أو موعداً للانضمام مثلما فعلت في المرات السابقة ولكنها تركت الباب والنوافذ مفتوحة لكل الاحتمالات والأهواء والعواصف التي جعلت البعض يؤكد أن التفكير الجدي في انضمام تركيا إلي الاتحاد الأوروبي قد لا يتحقق قبل عشرة أعوام وربما عشرين عاماً. وتجارب العضوية الجديدة لدول الاتحاد الأوروبي كانت لها دائماً حكايات وتفسيرات منذ إنشاء السوق الأوروبية المشتركة من سبع دول أساسية هي فرنسا وألمانيا وهولندا وبلجيكا وإيطاليا والنمسا ولكسمبرج وانضمت بريطانيا (1973) بعد أن كانت فرنسا في عهد ديجول تقدم ما يشبه الفيتو لانضمام الجزيرة البريطانية علي حد تعبير جنرال فرنسا، ثم انضمت بعد ذلك اليونان (1981) ثم الدول الفقيرة في شبه جزيرة ايبريا (أسبانيا والبرتغال سنة 1986). وبعد أن تحولت السوق الأوروبية المشتركة إلي الاتحاد الأوروبي في أعقاب معاهدة ماستريخت انضم إلي الاتحاد عدد من الدول الاسكندنافية ثم أخيراً موجة الانضمام الكبري التي ضمت عشر دول من دول وسط وشرق أوروبا والتي انضمت في مايو 2004 وكان منها بولندا والمجر والتشيك ودول البلطيق ورومانيا وقبرص وارتفع عدد الاتحاد من 15 دولة إلي 25 دولة وتحول الاتحاد الأوروبي إلي ثاني أكبر تجمع اقتصادي عالمي (25% من الإنتاج العالمي الكلي بينما تقدم الولاياتالمتحدة 27% من قيمة الإنتاج العالمي الكلي). وفي كل هذه المراحل التي كانت الأبواب تفتح فيها لقبول أعضاء جدد في الاتحاد الأوروبي لم يكن الأمر يمثل مشكلة حقيقية بقدر ما تمثله تركيا، فقد كانت تحفظات بعض الدول علي قبول هذه الدولة أو تلك تحفظات اجرائية وشكلية سرعان ما كان يتم احتواؤها ولكن الأمر مع تركيا يختلف. وتركيا كانت من أوائل الدول التي طرقت باب الاتحاد الأوروبي ومن قبيله السوق المشتركة، وكان المنطق التركي والمؤيد لذلك ينطلق من أن هناك جزءاً من تركيا نفسها يقع جغرافياً في أوروبا، إضافة إلي أن تركيا تشرف علي معابر شرق ووسط أوروبا إلي البحر المتوسط، ثم والأهم من ذلك كله أن تركيا ارتبطت ومن البداية بالنظم الدفاعية الغربية حين انضمت إلي حلف الأطلنطي في الخمسينيات جنباً إلي جنب مع فرنسا وألمانيا وإيطاليا وعدد من الدول الأوروبية المهمة إضافة بالطبع إلي الولاياتالمتحدة وأصبحت تركيا ومنذ ذلك التاريخ أحد قلاع الغرب الرئيسية في مواجهة الاتحاد السوفيتي ومعسكر شرق أوروبا في ذلك الوقت. ويبدو أن انفكاك عقد الثنائية القطبية وتحلل الاتحاد السوفيتي وانهيار المعسكر الشرقي قلل كثيراً من أهمية تركيا بالنسبة لحلف الأطلنطي أو بشكل أكثر دقة بالنسبة للدول الأوروبية الغربية في الحلف، وإن كانت هذه الأهمية قد زادت بالنسبة للاستراتيجية الأمريكية فتركيا مازالت تقدم نموذجاً للدولة المفصلية التي تطل علي الشرق والغرب وتقف بين آسيا وأوروبا. أما العوامل التي تقف في وجه انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي والتي يثيرها الكثير من الأعضاء فتتمثل في عدد من الأسباب، فهناك البعد التاريخي لتركيا العثمانية باعتبارها أكبر دولة غازية لأوروبا من الخارج، وقد كانت الامبراطورية العثمانية تمتد وسط وشرق أوروبا من الدانوب حتي البوسفور وتشمل دولاً مثل رومانيا ويوغوسلافيا وبلغاريا واليونان وأجزاء من المجر، وهذا الاحتلال التركي الذي تواصل علي مدي قرنين ترك جروحاً كثيرة في أوروبا وفي شعوب هذه الدول بشكل خاص. وارتبط التاريخ الاستعماري لتركيا في أوروبا بالصراع الديني الذي كان قائماً وبالمذابح التي اتهم العثمانيون باقامتها في المجر ويوغوسلافيا وأرمينيا الأمر الذي جعل هناك قطاعاً مهماً من شعوب تلك البلدان يعارضون بشدة دخول تركيا، والغريب والمثير أن هذا الصراع الديني حول دخول الهلال إلي جانب الصليب، انعكس في المناقشات التي جرت عند مناقشة بنود مشروع الدستور الجديد الموحد لدول الاتحاد الأوروبي والذي سيجري التصويت النهائي عليه في العام القادم. ومن المعروف أن تلك المناقشات شهدت صراعاً حاداً بين بعض بلدان شرق أوروبا وخاصة بولندا وبلغاريا والذين كانوا يريدون إضافة بند للدستور يؤكد الديانة المسيحية للاتحاد وبين الدول العلمانية التي رفضت ذلك، واكتفت بالنص الذي ووفق عليه مؤخراً وهو احترام التراث والمعتقدات الدينية الأوروبية. وهناك عوامل أخري مازالت تقف في وجه الالتحاق التركي بالركب الأوروبي منها أنها دولة فقيرة بالمعايير الأوروبية وستمثل عبئاً علي اقتصاديات الاتحاد، فمتوسط الدخل في تركيا مازال أقل بكثير من متوسطات الدخل والإنتاج في الدول الأوروبية الفقيرة مثل اليونان والبرتغال وأيرلندا، كما أن تركيا في السنوات الخمس القادمة ستصبح من الناحية العملية أكبر دولة من حيث عدد السكان مقارنة بالدول الأوروبية الأمر الذي يمكن أن يعطيها ثقلاً خاصاً في الاتحاد. في كل الأحوال فقد نجح أردغان التركي الذي جاء بشعارات إسلامية في أن يفتح الباب لاحتواء تركيا داخل الاتحاد الأوروبي حتي ولو كان ذلك بعد أكثر من عشر سنوات. وهو أمر يغري الكثيرين، خاصة الولاياتالمتحدةالأمريكية، باستخدام واستثمار تيارات الإسلام السياسي المعتدل لصالحها.