القمة الأوروبية التي عقدت في بروكسل في الاسبوع الماضي اصدرت قرارا بوقف المفاوضات التي كانت تجري مع تركيا للانضمام الي الاتحاد الاوروبي! والسبب هو رفض تركيا فتح موانيها أمام السفن والطائرات القبرصية. وكان رد الفعل السريع من جانب الطيب أردوجان رئيس وزراء تركيا هو أن البعض يحاول ان يجعل من الاتحاد الاوروبي مجرد ناد للمسيحيين، كما أعلن أيضا تمسكه وإصراره علي التحاق تركيا بالاتحاد. والواقع انه ومنذ قرار القمة الاوروبية السابق - منذ حوالي 15 شهرا - بفتح الحوار مع تركيا للانضمام الي الاتحاد الاوروبي في أكتوبر 2005، وهناك قائمة طويلة من المطالب الاوروبية لتأهيل تركيا للعضوية منها المطالبة باعتذار تركي رسمي عن المجازر البشرية التي ذهب بعض المؤرخين بأن القوات التركية قامت بها ضد أرمينيا في الحرب العالمية الثانية وراح ضحيتها مئات الآلاف. وكان الأمر صعبا ومعقدا لحكومة الطيب أردوجان التي كسبت الانتخابات تحت شعارات اسلامية ان تقدم الكثير من التنازلات خاصة تلك التي تتعلق بتعديل بعض القوانين التي يتصور البعض انها جزء لا يتجزأ من الشريعة الاسلامية مثل المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، بما في ذلك المساواة في الميراث وفي حق الزواج والطلاق، وآخرها كان قانون "الزنا" الذي اضطر البرلمان التركي الي ادخال تعديلات جوهرية عليه وفقا للمشيئة الأوروبية واصدر الفقهاء الاتراك فتوي شرعية تبرر ما قام به أردوجان لأنه في صالح الشعب التركي. وفيما أكد رئيس الوزراء التركي أن بلاده قدمت كثيرا من التنازلات بما فيه الكفاية بحثا عن أرضية مشتركة مع دول الاتحاد وانه ليس علي استعداد لتلبية مطالب جديدة خرجت قضية فتح المواني التركية امام السفن والطائرات القبرصية لتوقف القطار التركي المندفع نحو محطة الاتحاد الاوروبي. وتركيا كانت من اوائل الدول التي طرقت أبواب الاتحاد الاوروبي بل والسوق الاوروبية المشتركة من قبل، منطلقة من حقيقة يفرضها واقع الجيوبولتيك من ان هناك جزءاً مهماً من تركيا يقع في أوروبا، إضافة الي ان تركيا تشرف علي معابر شرق ووسط أوروبا إلي البحر المتوسط من خلال مضيقي البوسفور والدردنيل. كما ان تركيا وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية ارتبطت ومن البداية بالنظم الدفاعية الغربية حين انضمت الي حلف الاطلنطي في بداية الخمسينيات جنبا الي جنب مع فرنساوالمانيا وايطاليا وانجلترا واليونان، وعدد آخر من دول غرب أوروبا التي تشكل الكتلة الرئيسية للاتحاد الاوروبي ومنذ ذلك التاريخ اصبحت تركيا إحدي قلاع الغرب الرئيسية في مواجهة المعسكر الآخر الذي كان متمثلا في الاتحاد السوفييتي ومعسكر دول حلف وارسو. وإذا كانت عوامل الجغرافيا السياسية والامن الاوروبي تمثل عوامل دافعة لانضمام تركيا الي الاتحاد الاوروبي فان البعد التاريخي لتركيا العثمانية كان ومازال يمثل ندوبا غائرة علي طريق الانضمام التركي، فقد كانت الامبراطورية العثمانية اكبر قوة في التاريخ تقوم بغزو الاعماق الاوروبية. ومنذ الاستيلاء علي القسطنطينية في اواسط القرن الخامس عشر شمل الغزو العثماني والسيطرة التركية منطقة واسعة من شرق ووسط أوروبا وشملت دولا مثل رومانيا وبلغاريا ويوغوسلافيا والمجر واليونان بل ان القوات التركية العثمانية حاصرت فيينا عاصمة أوروبا في ذلك الوقت لفترة امتدت ستة شهور، وتواصل الاحتلال التركي علي مدي قرون طويلة. ومن يقرأ رواية جسر علي نهر درنبا الشهيرة يستطيع ان يدرك عمق الجراح التي خلفها الاستعمار التركي العثماني لبعض الدول الاوروبية، خاصة شعوب وسط وشرق اوروبا، بل هناك تعبير سائد في كل اللغات الأوروبية الحديثة - أنت تركي - بما يعني صفات سلبية مثل القسوة والغباء. وارتبط التاريخ الاستعماري لتركيا في اوروبا بالصراع الديني الذي كان قائما وبالمذابح التي اتهم العثمانيون باقامتها في المجر ويوغوسلافيا وارمينيا الامر الذي جعل قطاعا من شعوب تلك المنطقة يعارضون بشدة دخول تركيا وقد بان ذلك بوضوح في التصويت الذي جري في البرلمان الاوروبي حول انضمام تركيا الي الاتحاد. وتركيا المعاصرة مثل تركيا التاريخية دولة مفصلية مهمة ومؤثرة جسدها في آسيا وقلبها في أوروبا، وجمع تاريخها في صفحاته الكثير من التناقضات الغربية، فهي الدولة الاسلامية الوحيدة العضو في حلف الاطلنطي وهي ايضا الدولة الاسلامية الوحيدة التي تعقد معاهدات استراتيجية مع اسرائيل. وتركيا المعاصرة مثل تركيا التاريخية هي بالفعل بلد الثنائيات المتناقضة، فالقسطنطينية عاصمة الامبراطورية الرومانية الشرقية ومركز المسيحية العالمية هي نفسها استانبول عاصمة الخلافة الاسلامية العثمانية حتي اوائل القرن العشرين. وبعد ثورة كمال أتاتورك علي امبراطورية آل عثمان، تصور ان التحديث يعني فقط تغيير اللافتات والشعارات وذلك باصدار فرمانات من أعلي ولذلك جاءت العلمانية التي أعلنها مفتقدة للمضمون والجوهر مثل الخلافة التي الغاها وكلاهما كان وسيظل مجرد هيكل شكلي للهيمنة والسيطرة، فلا الخلافة العثمانية كانت خلافة اسلامية حقيقية، ولا علمانية أتاتورك تمثل العلمانية العقلانية الحقة. وفي الداخل ترفع تركيا شعار الديمقراطية والتعددية، ولكنها ديمقراطية من طراز خاص يعطي للجيش وللقيادة العسكرية الحق في التدخل لتصحيح الاوضاع اذا رأي أن السياسات التي تجري تمس الامن القومي التركي من وجهة نظره، وقد حدث ذلك ثلاث مرات في العقود الاربعة الماضية كان آخرها اسقاط حكومة نجم الدين أربكان بتوجهاتها الاسلامية سنة 1997، والغريب في الامر ان الطيب اردوجان رئيس الوزراء الحالي كان عضوا مهما في وزارة أربكان. وهكذا ظلت تركيا تعيش صراعا محتدما بين الماضي والحاضر اما المستقبل فقد ظل محاصرا وهامشيا لا يحلم به سوي بعض الجماعات من المثقفين والكتاب والشعراء الذين طالتهم يد السلطة الغليظة. وإذا كانت الجغرافيا تساند والتاريخ يباعد فإن الثقافة أو ما يسمي بصراع الثقافات تلعب دورا مهما في الاتحاد الاوروبي وعلاقته بتركيا وبان ذلك عند مناقشة مشروع الدستور الاوروبي الجديد حيث جري صراع حاد بين بعض بلدان شرق أوروبا وخاصة بولندا وبلغاريا وسلوفانيا وايطاليا الذين كانوا يسعون الي اضافة بند في الدستور يؤكد ان المسيحية هي الدين الرسمي للاتحاد، بينما رفضت دول علمانية ذلك مثل انجلتراوفرنساوالمانيا. وهناك مشاكل اخري مازالت تمثل مشكلة امام الالتحاق التركي بالركب الاوروبي منها العامل الاقتصادي اذ ان تركيا تعتبر دولة نامية فقيرة بالمعايير الاوروبية ومن الممكن ان تمثل عبئا علي اقتصادات الاتحاد فمازالت متوسطات الدخل والانتاج في تركيا اقل بكثير من متوسطات الدول الاوروبية الفقيرة نسبيا مثل اليونان والبرتغال وايرلندا. كما ان تركيا ستصبح في السنوات الخمس القادمة أكبر دولة من حيث السكان مقارنة حتي بالدول الأوروبية الكبيرة مثل المانياوفرنساوانجلترا وايطاليا الامر الذي يعطيها في حالة انضمامها للاتحاد الاوروبي ثقلا خاصا حيث يرتبط تمثيل البلدان في البرلمان والمفوضية الاوروبية وفقا لعدد السكان مثلما ينص مشروع الدستور الجديد. ولاشك أن مسيرة انضمام تركيا للاتحاد الاوروبي مازالت طويلة وتواجهها الكثير من العقبات والمشكلات بابعادها التاريخية والجغرافية والثقافية، تري هل يقوم الطيب اردوجان رئيس الحكومة التركية الذي وصل الي الحكم بشعارات اسلامية بتقديم تنازلات جديدة لفتح باب الاتحاد الاوروبي أمامه.. مرة أخري.