شهدت مصر خلال السنوات الأخيرة ولاتزال جدالاً محتدما حول دور الصحافة في تغطية الأخبار والقضايا الاقتصادية والسياسية، وتأثير مواقف وسائل الإعلام علي الرأي العام ومواقفه تجاه هذه القضايا، وعلي سلوك ومواقف المستثمرين المحليين والأجانب تجاه الاستثمار في مصر، ودعم مناخ الثقة أو التشكك تجاه الاقتصاد المصري. وغني عن البيان أنه مع ازدياد تعقد أوجه النشاط الاقتصادي، وتشابك عناصرها المحلية والدولة في إطار العولمة، أصبحت الحاجة إلي المعلومات "والأخبار" وإلي تحليل دلالة هذه المعلومات "أو الأخبار" وتأثيراتها المحتملة علي اتجاهات تطور الاقتصاد، ضرورة متزايدة الأهمية لاتخاذ أي قرار اقتصادي في أي مجال من المجالات.. وبالتالي فإن الحاجة تصبح أكثر إلحاحا من أي وقت مضي إلي الصحافة "ومختلف وسائل الإعلام" الاقتصادية بالنسبة لرجال الأعمال والمستثمرين.. للمنتجين أو المستوردين والمصدرين.. للخبراء أو صانعي القرار.. وصولا إلي المستثمر الصغير في البورصة أو المواطن الباحث عن وعاء ادخاري مناسب يضع فيه مدخراته المتواضعة. ونظرا للتوسع الكبير الذي شهدته الصحافة الاقتصادية سواء في صورة تزايد عدد ومساحة الصفحات والملاحق المتخصصة، أو في ظهور صحف اقتصادية متخصصة نعتز بأن جريدتنا "العالم اليوم" كانت أول صحيفة يومية بينها.. ولاتزال أهمها وأكبرها منذ ظهورها في سبتمبر 1991.. ونظرا لحساسية المواد والقضايا التي تتناولها الصحافة الاقتصادية وانعكاسها المباشر علي البورصة خصوصا وعلي السوق ومختلف أوجه النشاط الاقتصادي عموما.. فقد كان من الطبيعي أن تتجه الدراسات الأكاديمية إليها بمزيد من الاهتمام لدراسة موادها والعناصر المؤثرة في صياغة توجهاتها "كالملكية والعلاقة برجال الأعمال، ودور الإعلان فيها، ومستوي التأهيل العلمي المتخصص لصحفييها.. إلخ).. ومن ثم لاستخلاص الاستنتاجات العلمية الضرورية لضبط وتطوير أدائها، ورفع المستوي العلمي والمهني لمحرريها. *** وقد كان ل"العالم اليوم" مساهمتها المهمة في هذا الصدد فقدأعدت زميلتناالمتميزة أميمة مجدي رسالة ماجستير تتضمن دراسة مقارنة لمواد عدد من الصحف المحلية بينها "العالم اليوم" والدولية حول قضايا الإصلاح الاقتصادي، وناقشتها بنجاح مؤخرا، وحصلت علي درجة الماجستير من كلية الإعلام قسم صحافة بتقدير امتياز وعنوان الرسالة هو: "أطر معالجة قضايا الاقتصاد المصري في الصحافة المحلية والدولية: دراسة مقارنة في الفترة من يوليو 2004 حتي يوليو 2007". الرسالة أشرف عليها كل من د.ايناس أبو يوسف الاستاذ المساعد بقسم الصحافة ود.هناء فاروق الاستاذ المساعد بقسم الصحافة، وقام بمناقشتها د.جودة عبدالخالق أستاذ الاقتصاد ووزير التضامن السابق ود.أمل السيد الاستاذ المساعد بقسم الصحافة. تناولت الدراسة أطر التغطية الصحفية التي قدمتها صحف العالم اليوم، والأهرام الاقتصادي، والوفد، والأهالي، الفاينانشيال تايمز، والايكنومست، والنيويورك تايمز لقضايا الإصلاح الاقتصادي في مصر في الفترة من يوليو 2004 حتي يوليو ،2007 لأن بداية الفترة الزمنية للدراسة تمثل بداية المرحلة الثالثة من برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي أعلنت عنه الدولة آنذاك، ونهاية الفترة الزمنية للدراسة بداية لخطة خمسية جديدة وضعتها الحكومة آنذاك. أظهرت نتائج التحليل اتفاق رؤية الصحف المحلية والدولية في تأييد الاتجاه اليميني للإصلاح الاقتصادي في مصر، بينما انفردت جريدة الأهالي بالتغريد خارج السرب، عندما تبنت وجهة نظر يسارية في رفض الإصلاح كما كان الحزب الحاكم يطبقه، فيما تراوحت باقي الصحف بين الترحيب بالإصلاح والخصخصة، أو انتقاد بعض التفاصيل، لكن التوجه اليميني كان القاسم المشترك للجميع. وانصبت معالجات الصحف المحلية والدولية "باستثناء الأهالي" علي الدعوة إلي انتهاج سياسة اقتصادية ليبرالية تدفع بمصالح رجال الأعمال والقطاع الخاص إلي الواجهة، بينما يقتصر دور الدولة علي الإشراف والرقابة دعت الصحف أيضا إلي حرية الاستثمار والتجارة والمنافسة علي الجانب الآخر دعت "الأهالي" وبعض الأصوات المعارضة الأخري إلي ارساء عدالة في توزيع الدخل ووضع نظام ضريبي عادل وسياسة إنفاق عام تساعد علي تخفيف أعباء المعيشة عن الطبقات الفقيرة وتوفر لها الخدمات الأساسية، بالإضافة إلي منع الاحتكار. في الوقت نفسه، دأبت الصحافة الدولية علي المطالبة بإصلاح سياسي مواز للإصلاح الاقتصادي، وأعربت عن خوفها من ضياع كل المكاسب الاقتصادية في حالة استمرار النظام السياسي المستبد، وفي ظل وجود حراك سياسي يدعو للتغيير يتجاهله الحزب الحاكم الذي كان يسعي إلي تمرير مشروع التوريث دون تقديم إصلاحات تصل إلي البسطاء مما قد يخلخل الاستقرار الاقتصادي والمالي. كما كشفت نتائج الدراسة عن اهتمام الصحافة المحلية بمناقشة قضايا الإصلاح السياسي بمعزل عن التطورات الاقتصادية، بينما أكدت الصحف الدولية أن الإصلاح السياسي هو الضمان الأساسي لنجاح الخطط الاقتصادية. وافتقرت التغطية الصحفية سواء المحلية أو الدولية دائما إلي الاهتمام بقضايا التنمية الاقتصادية علي وجه العموم، وكانت مشغولة بالتعبير عن وجهة نظر الحكومة فيما يجري، وبرءوس الموضوعات التي تحددها للنقاش، دون بذل أدني مجهود في مراقبة مسار التنمية، لتصحيحه وتوجيهه لصالح الشعب. بحيث ظل خطاب الصحف بمثابة دعوة التطوير والترشيد والاكتفاء الذاتي في بعض المجالات، لكنه لم يقدم أي إجراءات مالية ونقدية أو اقتصادية كلية لتحقيق أهداف محددة. واتفق الصحفيون في المقابلات علي أن الحكومة والدولة كانت المتحكم الأول في مصادر المعلومات، وكانت تحجب كثيرا من المعلومات عن الصحفيين خاصة في الصحف الحزبية والدولية بسبب المعارضة المستمرة، ويرجع ذلك فيما يرجع إلي غياب قانون المعلومات الذي يلزم المسئول بالإفراج عن المعلومات.كشفت نتائج التحليل عن تأييد كل من صحيفة العالم اليوم والأهرام الاقتصادي لبرنامج الإصلاح الاقتصادي المصري وتقديم المعارضة الهادئة لبعض السياسات التي قامت بها الدولة، وهو ما يثير اشكالية تبعية تلك الصحف للنظام الحاكم وسيطرة وجهة النظر الحكومية من خلال شراء صفحات إعلانية أو استخدام سلطاتها علي الصحف القومية كما يثير اشكالية احتكار الدولة لمصادر المعلومات مما أدي إلي سعي الصحف القومية لتجميل وجه الحكومة التي تملك القرار في بقاء أو عدم بقاء القائمين علي المؤسسات ومن هنا ركزت الصحف القومية علي الانجازات أكثر من ميلها للتقويم الموضوعي للأداء الاقتصادي الحكومي بما فيه من سلبيات وايجابيات. كشفت النتائج عن بروز قدر من التشابه بين الصحف الدولية والحزبية المحلية في معارضة النظام والتقليل من أهمية الإصلاحات الاقتصادية المقدمة، بينما سعت كل من العالم اليوم والأهرام الاقتصادي إلي ابراز الصور الايجابية لهذه الإصلاحات ويمكن ايجاز أهم نقاط التشابه والاختلاف بين تلك الصحف علي النحو التالي: - اتفقت الصحف الحزبية والدولية علي ربط برنامج الإصلاح الاقتصادي بالبرنامج الانتخابي للرئيس مبارك والتأكيد علي أنه محاولة لتجميل وجهه بعد سنوات من الاخفاق، ومحاولة عملية لتنفيذ مشروع التوريث. - اتفقت صحيفتا "العالم اليوم" و"الأهرام الاقتصادي" في ربط الصورة الايجابية للإصلاح الاقتصادي بالبرنامج الانتخابي للرئيس مبارك، واعتباره برنامجا حقيقيا وعلميا لمعالجة مشاكل الاقتصاد المصري وهو ما يثير تبعية الصحف القومية للسلطة الحاكمة، بالاضافة إلي لجوء الصحف المستقلة إلي المهادنة ومسايرة السلطة لضمان استمراريتها. - تنبأت الصحف الدولية والحزبية بامكانية قيام ثورة جراء استمرار تجاهل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، واستخدمت في ذلك المقارنة مع دول مشابهة شهدت أحوالها اقتصادية متدنية حيث وصفت "الفاينانشيال تايمز" حال المصريين بنهاية سنوات الاتحاد السوفيتي، وتناولت "الايكونومست" تأثير النظم الاستبدادية علي الشعوب. - في إطار الحديث عن قضية تداول السلطة وماذا يمكن أن يحدث في مصر بعد رحيل مبارك اهتم خطاب الصحف الدولية منذ بداية عام 2004 بالحديث عن دور المؤسسة العسكرية والتحذير الدائم من تدخلها في الحكم وهو ما يؤكد علي قدرة الصحفيين في الصحف الدولية علي تقديم تفسيرات وتوقعات مستقبلية، في حين يترك الصحفي المحلي بلا أي تدريب يساعده علي أداء أدواره من خلال التحليل والتفسير والتوقع وكشف القضايا. - اختلفت أساليب معالجة الصحف المحلية عن أساليب الصحف الدولية بشكل كبير وجاءت علي النحو التالي: - ركزت الصحف المحلية "العالم اليوم والأهرام الاقتصادي" علي أساليب الدفاع وإصلاح الصورة الرسمية، من خلال استخدام انكار أن الدولة ممثلة في وزرائها والحكومة ضد محدودي الدخل وتقدم البرنامج الاقتصادي لفئة بعينها، وانكار وجود احتكار في سوق الحديد.. إلخ. - بينما ركزت الصحف المحلية الحزبية علي آليات الهجوم علي الحكومة وسياساتها غير الرشيدة التي تتجاهل حقوق محدودي الدخل والطبقات الوسطي. - وركزت الصحف الدولية علي آليات الوصف من خلال تقديم صورة شاملة لسياسات الحكومة في القرارات الحكومية والاقتصادية والسياسية، بالاضافة إلي عرض مطالب المعارضة وكيفية تعامل القيادة السياسية معها والاهتمام بتقديم شرح تفصيلي عن القوانين المنظمة للحياة الاقتصادية وللاعبين في الحياة السياسية والقوي الجديدة من المجتمع المدني والحركات الاحتجاجية وعددهم، والتعداد السكاني لمصر، ومكانة مصر الجغرافية والتاريخية. وأثارت هذه الدراسة العديد من الاشكاليات والأفكار البحثية لعل أهمها: - اشكالية العلاقة بين الصحافة والسلطة الحاكمة التي تحتكر جميع مصادر المعلومات وهذا الكم الكبير من قضايا الفساد التي تم اكتشافها خلال الفترة الزمنية للدراسة، يؤكد علي تراجع وظائف الصحافة في الكشف عن قضايا جديدة ولعب دور في الرقابة علي مؤسسات الدولة، مما يستدعي مراجعة قوانين عمل الصحافة التي تحمي الصحفي من المساءلة أو الزج به في السجون حتي يتمكن من الكشف عن قضايا الفساد. - تراجعت وظائف مثل الشرح والتفسير التحليلي وتقديم رؤية مستقبلية في صحف الدراسة فرغم أن لغة الاقتصاد هي رقمية وتحتوي علي العديد من المصطلحات فلا توجد جهود تذكر لتيسير هذه اللغة للقراء، فالتقارير المنشورة في صحف الدراسة المحلية تنشر دون أدني تعليق أو تعريف بأبرز المصطلحات التي يحتويها التقرير، بالاضافة إلي غياب موضوعات عن الأنشطة الاقتصادية من تجارة وصناعة في المحافظات، وهو ما يثير اشكالية عرض مشاكل الاقتصاد بشكل كلي دون التركيز علي العاصمة فقط، مما يستدعي قيام نقابة الصحفيين بتوفير تدريب لشعبة الصحفيين الاقتصاديين ليؤهلوا للتعامل مع المصطلحات الاقتصادية. - التحول في الاقتصاد المصري من نظام قائم علي التخطيط المركزي إلي سوق حرة، أدي إلي تغلغل في نفوذ رجال الأعمال علي الصحف الاقتصادية، مما استقطب صحفيين للدفاع عن قضاياهم ومصالحهم ويقع عاتق حل تلك المشكلة علي إدارة المؤسسات الصحفية ونقابة الصحفيين في تحسين الصحافة ضد إغراءات المال. - كشفت الدراسة عن تدني أوضاع القائمين بالاتصال في الصحافة المصرية ومستوي تأهيلهم المهني وما يتعرضون له من ضغوط مهنية وإدارية ومجتمعية. كما كشفت الدراسة عن تراجع الدولة سواء بشخصيتها الاعتبارية أو بحكومتها أو وزرائها أو مؤسساتها المختلفة عن كثير من الوعود التي صرحت بها في بداية المرحلة الثالثة للإصلاح أو من خلال الحملة الانتخابية لمرشح الحزب الوطني الديمقراطي، بالاضافة إلي زيادة الضغوط الخارجية بعد اندلاع الأزمة المالية العالمية. - كشفت نتائج الدراسة عن هشاشة البرنامج الاقتصادي الذي استندت عليه الحكومة المصرية في ،2004 حيث لم يطرح أي مشروعات توجد طاقات إنتاجية جديدة.