تعانق لون الشجر الأخضر مع لون الغروب الشفقي في شارع عمر بن الخطاب بمصر الجديدة، وكان الزمن يشير إلي التاسع من مارس من عام ،1969 وكنت أجلس مع صديقي الفنان بسمي ميلاد الفنان المرموق عاشق موسيقي الالوان، وكانت شقته عبارة عن دور سفلي تحت الارض تقريبا مكون من خمس حجرات وكنا نطلق عليه "القصر"، وبينما كان بسمي يحضر أدوات الرسم ويدير الجرامافون لنسمع الموسيقي، وكنت أجلس علي منضدة السفرة فاتحا حقيبتي لأواصل صياغة رواية "عناق الأزرق والأخضر" عن فنان الاسكندرية الاشهر سيف وانلي، هنا دق جرس الباب ليدخل العميد عدلي شريف نائب مدير المخابرات الحربية في ذلك الوقت والذي كان يرأس فيه الادارة التي يعمل فيها الفنان بسمي وهي إدارة الاتصال بين الصليب الأحمر والحكومة المصرية، وكانت ملامح عدلي شريف توحي بمأساة هائلة. خفت ان تكون هناك إصابات هائلة بين المقاتلين من أعضاء فريق الفدائيين تحت قيادة المقاتل الذي لا نظير له إبراهيم الرفاعي، وهو من كان يعبر بشكل شبه يومي إلي سيناءالمحتلة ويذيق قوات إسرائيل خسائر تفوق خيالها ثمنا لاحتلالها سيناء في ذلك الوقت. ولأن عيون العميد عدلي شريف كانت تكتم دموعا حقيقية، لذلك إنتابني قلق جسيم وبصوت مخنوق أعلن لنا عدلي الشريف نبأ استشهاد عبدالمنعم رياض ولم نصدق الخبر رغم ان من نطق به كان واحدا من تلامذة عبدالمنعم رياض. وأخبرنا بطريقة الاستشهاد قمت إلي التليفون لأسأل اللواء زغلول كامل وهو واحد من كبار العاملين بمكتب الرئيس جمال عبدالناصر، فأكد الخبر غاضبا لانه لم يكن علي الشهيد ان يتحرك في عربة قيادة وهو يزور موقع المعدية رقم 6 التي أطلق عليها الاسرائيليون النار بكثافة هائلة، مثلما فعل فيهم عبدالمنعم رياض قبل ذلك حين تصور مستطيل من الهواء ضفة القناة الاخري، وملأه بالنيران فتم تفريغ الهواء بهذا المستطيل وطارت أجساد الاسرائيليين متناثرة نتيجة تفريغ ضغط الهواء. تركت مصر الجديدة متجها إلي منزل عبدالرحمن الابنودي لأجده وقد برقت عيونه بأحزان وداع الشهيد. ولا أحد يعرف قيمة عبدالمنعم رياض مثل من عاشوا في عصر اعادة تكوينه للجيش المصري حين قام بمراجعة ملفات جميع ضباط القوات المسلحة الصالحون للقتال، وقضي أكثر من شهر في تلك المهمة كما رصدها اللواء إبراهيم شكيب بالمجلد الذي أصدرته القوات المسلحة بمناسبة مرور 25 عاما علي حرب أكتوبر. وكلما جاء التاسع من مارس، كلما عاد مشهد الشجن المزدحم بالكبرياء والثقة والأمل في ان الانتصار قادم. أتذكر ذلك في أيامنا تلك التي نرهق فيها قواتنا المسلحة في تفاصيل حياتنا اليومية، وكأننا نضن علي أنفسنا بالثقة في أنفسنا لنواجه مشكلات حياتنا ونترك إدارة الخطوط العريضة للمجلس الاعلي لهذا الجيش النبيل. هل نعي درس إحترام أصحاب المهام الكبيرة فنتفاني قليلا بعيدا عن هذا الضجيج الذي يزدحم به هواء هذا الوطن؟ منير عامر