منذ نحو 30 عاما أو يزيد عرفت البنوك عملية "التوريق" وفي شرحها لمفهوم التوريق تقول مجلة "تايم" انك إذا أردت الحصول علي قرض مصرفي لشراء منزل أو سيارة أو دفع مصاريف تعليم ابنائك فإن البنك سيعطيك القرض ثم يقوم بتحزيم قرضك مع مجموعة من القروض الأخري ويحولها الي "سند" وهو ورقة مالية ذات سعر فائدة ثابت لفترة طويلة نسبيا ويقبل المستثمرون علي شراء هذه السندات لانها تضمن لهم دخلا نقديا ثابتا يتم تحويله من أقساط سداد ما علي الناس من قروض ومقابل هذه العملية تتوافر للبنك نقود اضافية يمكنه توظيفها في منح مزيد من القروض.. وهكذا دواليك.. وتنتعش عملية التوريق عادة في أوقات الرواج المالي والاقتصادي ولكن قد يأتي يوم يتأزم فيه النظام المالي العالمي وتتوقف عملية التوريق وتتوقف معها بالتالي قدرة البنوك علي تقديم القروض لمن يحتاجون إليها.. وهذا هو علي وجه التحديد جوهر أزمة الائتمان العالمية التي بدأت في امريكا عام 2008 وانتشرت بعد ذلك في مختلف ارجاء الاقتصاد العالمي واستلزمت حتي الآن من الحكومات انفاق تريليونات الدولارات من أجل انقاذ الموقف. والحقيقة ان "التوريق" عندما بدأ -كما قلنا منذ نحو ثلاثة عقود أو أكثر- كان فكرة مدهشة فلم يعد مطلوبا ان ننتظر حتي يتم سداد القروض القائمة لكي تقوم البنوك بتقديم قروض اضافية لأن "التوريق" اتاح مزيدا من الأموال القابلة للاقراض وأصبحت البنوك قادرة علي ضخ الأموال في الاقتصاد بسرعة أكبر علي نحو يحقق استمرار النمو الاقتصادي. ولكن بمرور الوقت أدخلت علي "التوريق" أساليب مالية فنية ذات مستويات مخاطر متعددة واستخدمت في ذلك، وفي أمريكا بالذات باعتبارها مسقط رأس عملية توريق البرامج الكمبيوترية وتوسعت عملية التوريق لتشمل كل قروض الرهن العقاري وحلت محل السندات البسيطة والمفهومة السابق الاشارة إليها سندات اكثر تعقيدا واستعصاء علي الاذهان ويمكن القول بأن هذه الادوات الائتمانية المبتكرة قد انهارت في السوق الامريكية تحت وطأة حجمها الكبير وثقلها البالغ الي جانب عدد من الاقتراضات الخاطئة ومن هذه الافتراضات علي سبيل المثال المبالغة في قدرة المقترضين علي السداد وهنا يقول جوان اوكامبو أحد خبراء ماكنزي السابقين الذي اسهم خلال ثمانينيات القرن الماضي في الترويج لنظام التوريق انك يمكن ان تبني محطة كهرباء نووية عالية الكفاءة ولكن هذه المحطة يمكن أيضا ان تنفجر إذا اسأت ادارتها وجريا علي منوال هذا التشبيه يمكن القول بأن العالم يواجه الآن "تشرنوبل مالية" وان التوريق قد تحول الي مصدر للاشعاع الذري المميت ففي الأشهر التسعة الماضية من عام 2008 هبطت قيمة الدولار في السندات المرتبطة بقروض السيارات في الولاياتالمتحدة بنسبة 40% وكانت نسبة هبوط قيمة الدولار في السندات المرتبطة بالقروض الطلابية 42% وبلغت نسبة الهبوط 21% في السندات الجديدة المرتبطة بقروض بطاقات الائتمان وهذا معناه ان النقود المتاحة بعقد قروض جديدة لشراء السيارات قد قلت وان نفس الامر ينطبق علي النقود المتاحة لاقراض الطلاب او التوسع في منح بطاقات الائتمان وكان الوضع في سوق الرهن العقاري أسوأ والدمار اوسع حيث حدث توقف بنسبة 98% في عمليات التوريق الخاصة بهذه السوق وبعد ان كان حجم الاصدارات الجديدة لعملية توريق قروض الرهن العقاري الخاصة يناهز ال750 مليار دولار عام 2006 انخفض الرقم الي الصفر تقريبا. وتقول مجلة "تايم" ان ثمة جهودا كبيرة بذلت في سوق الاسكان الامريكية من أجل استرداد ثقة المستثمرين في عملية التوريق وان البنك المركزي الامريكي اشتري ما قيمته نصف تريليون دولار من السندات التي فقدت قيمتها ورصد 200 مليار دولار اخري لتمويل الجهات التي تريد المساندة في هذه العملية ولكن الانهيار كان اكثر وعورة ورغم ان تقريرا دوليا قد صدر في ديسمبر تحت عنوان "استرداد الثقة في اسواق التوريق" إلا انه كان مطلوبا لكي تكون هذه الثقة حقيقية ان تحدد أولا حجم "التوريق" الذي نريده ويقول التقرير الصادر عن منتدي التوريق الامريكي ونظرائه في أوروبا واستراليا ان خسائر انفجار عملية "التوريق" كانت بمئات المليارات من الدولارات.. وان عملية التوريق قد انفرط عقدها وانفلت عيارها حتي انه لم يعد ممكنا السيطرة علي حجم التوريق أو ادارة مخاطره أو حتي فهمه ومراقبته بشكل كامل ويؤكد التقرير ان المهمة الجوهرية الآن في كل اسواق العالم هي تحديد مهمة التوريق ومن ثم حجمه حتي لا يعود الي الانفجار المفاجئ والمدمر من جديد. وعامة يمكن القول بأن التوريق أداة مفيدة وانها نشأت في سبعينيات القرن الماضي لتنشيط الاقراض في أسواق الرهن العقاري ولكن المحامين والرجال البارعين في بنوك الاستثمار اكتشفوا للتوريق بمضي السنين استخدامات جديدة عديدة وقالوا ان كل شيء يدر ايرادات منتظمة يمكن توريقه بما في ذلك حتي فواتير المرافق.. وبهذا تغلغل التوريق في كل القطاعات الاقتصادية تقريبا وجري استخدامه كوسيلة لتوفير الائتمان الرخيص ودخلت سنداته ضمن سوق المشتقات في كل اسواق المال العالمية وتضخمت بعض صوره بسرعة رهيبة حتي ان سندات القروض قصيرة الأجل المضمونة بأوراق مالية CDOs. ASF تبين وجود اجماع بين الخبراء علي ان عمليات التوريق البسيطة ستعود الي الارتفاع خلال العام الحالي اما عمليات التوريق الاكثر تعقيدا فسيتأخر تعافيها حتي عام 2010 والمهم كما قلنا ان تتسم عملية التوريق بالشفافية والضبط.