في السنوات الخمس الممتدة بين مطلع عام 2004 ونهاية عام 2008 حققت اقتصادات بلدان امريكا اللاتينية معدل نمو يناهز ال 5% سنويا في المتوسط كما ان معدل التضخم فيها ظل منخفضا بشكل عام بينما توسع الائتمان وازدهرت الصادرات.. وتقول مجلة "الايكونوميست" إن هذا كله أدي إلي انخفاض نسبة الناس الذين يعيشون تحت خط الفقر من 44% عام 2002 إلي 33% عام 2008 وذلك حسب التقديرات التي صدرت منذ اسابيع قليلة عن اللجنة الاقتصادية لمنطقة امريكا اللاتينية والكاريبي التابعة للأمم المتحدة: أما الآن فإن المهمة التي تواجه صناع السياسة في هذه المنطقة هي الحد من الدمار الذي يمكن ان يسبب لهم الركود العالمي. لقد كانت بلدان امريكا اللاتينية حتي شهر سبتمبر الماضي تأمل في قدرتها علي تحاشي الآثار الاكثر سوءا للازمة الاقتصادية العالمية. فإقتصاد البرازيل علي سبيل المثال حقق معدل نمو قدره 6.8% سنويا في الربع الثالث من العام الماضي مقارنة بنفس الربع من عام 2007 أما اقتصاد بيرو فقد نما بمعدل 10% في الاثني عشر شهرا حتي سبتمبر الماضي ولكن شهري اكتوبر ونوفمبر شهدا تطورات سيئة ومتسارعة فبورصات تهشمت وعملاتها تذبذبت قيمتها ولحق الجفاف بأسواق الائتمان في هذه البلدان. وقد تزامن هذا كله مع تراجع في الصادرات وانخفاض في اسعار المواد الخام التي تبيعها للعالم الخارجي. واكثر من ذلك ،فقد هبطت تحويلات العاملين في الخارج إلي ذويهم من سكان البلدان اللاتينية. وأمام هذه التطورات السلبية سارع الاقتصاديون لخفض توقعاتهم من اجل المستقبل مرة بعد مرة. ففي شهر اكتوبر الماضي كان صندوق النقد الدولي يتوقع ان تحقق المنطقة 3.2% كمعدل نمو في العام الجديد 2009 ولكن الصندوق عاد في أوائل ديسمبر بخفض هذا التوقع إلي 2.1% فقط. وفي نفس الوقت، قال فريق البحث الخاص بأمريكا اللاتينية في بنك الاستثمار مورجان ستانلي إن معدل النمو في اكبر 7 دول بالقارة لن يتجاوز ال 1.5% العام الحالي بل ان الامر قد يتحول إلي نمو سالب بنسبة 0.4% في هذه الدول خلال العام الجديد. وجدير بالذكر ان هذا المتوسط يخفي تنوعا واسعا بين دول امريكا اللاتينية. فالحكومة البرازيلية لاتزال تتوقع تحقيق معدل نمو يناهز ال 4% سنويا خلال العام الجديد علي الرغم من ان هذا يبدو مبالغة في التفاؤل. أما المكسيك التي تربطها علاقات أوثق بالاقتصاد الامريكي فسيكون حالها أسوأ ومع ذلك فهي قد تحقق معدل نمو في نطاق 0.4% حسب توقعات البنك المركزي المكسيكي. وهناك امران يقبعان خلف هذه النظرة القاتمة اولها هو استمرار هبوط اسعار المواد الخام تحت وطأة المخاوف من جمود الاقتصاد الصيني. ومعروف ان المواد الخام من البترول الفنزويلي والمعادن البيروفية وفول الصويا الارجنتيني وخام الحديد وعصير البرتقال البرازيلي تمثل كلها جزءا كبيرا من صادرات تلك الدول. أما الامر الثاني في المثبط فهو التزام بنوك امريكا اللاتينية جانب الحيطة والحذر وقيام كثير من البنوك الاجنبية بالغاء خطوط الائتمان التي كانت تمد بها المنطقة أو تجديدها لفترات أقصر أو زيادة معدل الفائدة عليها. وإذا كانت البنوك الاجنبية معذورة بسبب ما تعانيه مراكزها الرئيسية من مشاكل فإن البنوك المحلية لا عذر لها.. ويقول جراي نيومان خبير مورجان ستانلي إننا كنا نري حتي وقت قريب ان الائتمان يلعب دوره في امتصاص الصدمات كما اننا اكتشفنا ان الروابط بين امريكا اللاتينية والعالم لاتزال قوية جدا. وإذا كان المستثمرون يخافون من المخاطر فإنه حتي الائتمان الحكومي قد ضاقت قنواته هو الآخر. وتقول مجلة "الايكونوميست" إن حكومات العالم تتسابق لضخ دماء الحياة في شرايين اقتصاداتها ولكن الامر بالنسبة لصناع السياسات في القارة اللاتينية هو مدي قدرتهم علي القيام بهذه المهمة. والحقيقة انهم يستطيعون القيام بجهد مماثل، فكثير من الاقتصادات اللاتينية الكبري دخلت الركود وهي تتمتع بموازنات قوية وموازين مدفوعات جيدة عما كانت عليه من قبل. وتمكنت حكوماتها من خفض ما عليها من ديون وتحويل معظمها إلي ديون بالعملة المحلية وهذا معناه ان خفض العملة لن يؤدي أوتوماتيكيا إلي زيادة أعباء الدين. وبجانب ذلك فإن معظم البنوك المركزية اللاتينية قامت برفع اسعار الفائدة للسيطرة علي التضخم الناجم عن ارتفاع اسعار المواد الغذائية والبترول وهو ما لم تكن قد فعلته البنوك المركزية في الدول الغنية بدرجة كافية. وخلاصة القول إنه توجد مساحة كافية ولو علي الورق لاتخاذ اجراءات مالية ونقدية من اجل محاربة الركود ولكن الامر في الواقع يتطلب قدرا عاليا من المهارة، ففي كثير من الدول اللاتينية يتعين علي السياسة النقدية وهي تحارب التضخم ان تضع عينيها علي العملة حتي لا تصاب بظاهرة الدولرة خاصة ان الناس تعودوا علي اللجوء إلي الدولار عند كل أزمة. بجانب ذلك فإن انخفاض الاسعار العالمية سيؤدي إلي انخفاض معدل التضخم وهو ما سيتيح هذا العام امكانية خفض اسعار الفائدة ومع ذلك فليس مؤكدا ان ينعكس أو يتحول التراجع في اسعار الفائدة إلي ازدهار لحركة الائتمان. وإذا كانت دول مثل شيلي وبيرو والمكسيك يمكنها زيادة الانفاق العام فإن باقي دول القارة قد لا تكون في وضع يمكنها من تحقيق هذا الهدف. وإذا وضعنا في الاعتبار عالمية الازمة وعدم قدرة هذه الحكومات علي جمع الاموال من الاسواق العالمية كما كان يحدث في السنوات الخمس الماضية فإن علي البنك وصندوق النقد الدوليين وكذلك بنك التنمية لدول امريكا اللاتينية ان تستعد لتزويد تلك الحكومات بما قد تحتاجه من قروض لتمويل انشاء وتوسيع الشركات الصغيرة والمتوسطة. ويبقي ان نقول إن معظم المتنبئين يرون إن امريكا اللاتينية ستبدأ التعافي من ازمتها في عام 2010 ولكن عليها ان تلتزم الاحتراس والا تندفع في تطيح سياسات بما سبق ان جاهدت لتحقيقه من استقرار اقتصادي.