رغم سريان اتفاق التهدئة بين حماس وإسرائيل في غزة منذ 19 من الشهر الحالي إلا أن ردود الفعل الفلسطينية مازالت تتراوح بين التفاؤل والحذر والتشاؤم، فإذا حدث والتزمت اسرائيل حرفياً بها فإن ذلك الالتزام يمكن ان يمنح الحياة لها ويمكن البناء عليه عندئذ لأكثر من ستة أشهر. بيد ان الواقع مازال يشكك في نوايا اسرائيل تجاه التهدئة مع حجم الالغام المزروعة في طريقها ولم ينبع التخوف من فراغ وانما جاء قياساً علي السوابق حيث إن اسرائيل لا تحترم أية اتفاقيات، وبالتالي هناك شعور لدي البعض بأن التهدئة قد لا تعمر طويلا وقد تكون مجرد فرصة لالتقاط الأنفاس لتبدأ إسرائيل بعدها باجتياح غزة لاسيما ان استمرار العدوان والاستيطان في الضفة من شأنه ان يهدد التهدئة التي رافق اعلانها تلميحات اسرائيلية علي أن باب العمل العسكري يظل مفتوحا ضد أي تجاوز من قبل الفلسطينيين وهو أمر غير مستبعد مع تواصل العمليات الاسرائيلية حاليا في الضفة الغربية. لماذا قبلت إسرائيل بالتهدئة؟ قبول اسرائيل بالتهدئة جاء من أجل مصلحتها وعليه فقد تنتهي بانتهاء هذه المصلحة وتعود اسرائيل إلي ذرائعها من جديد ولهذا رأينا ساسة اسرائيل أمثال باراك يتحدثون عن أن التهدئة ستكون هشة ولكن اسرائيل ستعطيها فرصة لفتح الباب امام مفاوضات مكثفة لاطلاق سراح جلعاد شاليت وكأن هذا هو أحد الأهداف الرئيسية وراء قبول اسرائيل لطرح التهدئة وهو ما أعلنه أولمرت جهراً، بل ان اسرائيل تذهب إلي ان البند الثاني من الاتفاق يضمن اطلاق سراح شاليت رغم ان حماس تؤكد أن هذه القضية منفصلة عن التهدئة، وعامة فإن نجاح حماس في الفصل بين ملف التهدئة وملف الافراج عن شاليت من شأنه ان يساهم بصورة كبيرة في تحريك ملف شاليت، كي يفتح الباب بشكل أوسع لتحقيق اختراقات كمية ونوعية في حجم الصفقة المأمولة للافراج عن أسري فلسطينيين. إقصاء الضفة..؟! ولاشك ان إصرار اسرائيل علي أن تحصر التهدئة في غزة بحيث لا تمتد إلي الضفة هو الأخطر في هذا الاتفاق وكأن اسرائيل بذلك رسخت عملية الفصل السياسي والجغرافي بين غزة والضفة، ورسخت في نفس الوقت الخلاف والانقسام بين حماس وسلطة رام الله، ومن ثم أرادت أن تبدد أية فرصة لرأب الصدع بين الطرفين حتي لا يتم العود إلي اطار الوحدة الفلسطينية، ولذا وبالتزامن مع بدء سريان التهدئة تحرشت اسرائيل بالضفة وبادر المستوطنون بحرق الممتلكات وعشرات الدونامات التابعة للفلسطينيين، بل ان استمرار اسرائيل في عدوانها علي الضفة من شأنه ان يحرك الفصائل الفلسطينية نحو التمسك بحقها في الرد علي أي عدوان اسرائيلي وبالتالي لن تقف مكتوفة الأيدي ازاء أي خدمة خاصة إذا استغلت اسرائيل أحادية التطبيق في غزة للاعتداء علي الضفة. الوحدة الفلسطينية؟ يتعين علي الفلسطينيين اليوم فتح الأبواب للوصول إلي وحدة فلسطينية بشكل أسرع ولرأب أي صدع بين حماس وفتح فلا يمكن ان تعطي الفرصة لاسرائيل كي تتفاوض علي حدة مع حماس أو مع سلطة رام الله وعليه يجب اعادة اللحمة بين الطرفين لاسيما وان اسرائيل لن تتخلي عن هدفها الاستراتيجي الاساسي وهو التخلص من حماس علي المدي البعيد، وهنا يوجه اللوم إلي وفد فتح الذي زار غزة مؤخراً واستنكف ان يجتمع مع قيادة حماس وكان الأجدر به أن يفعل ذلك تطبيقا لمبادرة الحوار التي طرحها عباس من أجل نبذ الخلافات واعادة اللحمة بين غزة والضفة وتعميق العمل المشترك حتي لا تستفيد اسرائيل من وضع التهدئة في غزة دون الضفة حيث ان هذا يحقق لها تعزيز الانقسام الفلسطيني الداخلي والفصل بين الشعب الواحد في الضفة وغزة. مصر واتفاق التهدئة بطبيعة الحال فإن مصر التي قامت برعاية مبادرة التهدئة لا تملك تقديم أية ضمانات بالنسبة للمنهج الذي ستتخذه اسرائيل بعد قبولها للتهدئة، كما انها لا تملك ان تلزم اسرائيل بوقف عدوانها ووقف عمليات الاغتيال التي تقوم بها. لقد انحصر دور مصر في اقناع الطرفين فقط بالقبول بالمبادرة ولكنها لا تستطيع ضمان أي شيء ما يخشاه المرء ان تستثمر اسرائيل فترة التهدئة في غزة للقيام بعمليات في الضفة وهذا بالقطع هو الفخ الكبير الذي يمكن لها ان تنصبه للفلسطينيين. لغة القوة لقد ثبت ان لغة القوة هي التي تفرض واقعاً جديداً علي المحتل للتعامل مع الشعب الفلسطيني واعادة الحقوق له، ولاشك ان اتفاق التهدئة جاء ليحطم عقدة الرفض لدي اسرائيل في التعامل مع حماس، فالاتفاق يعني اعترافا مجانيا بحماس كرب بيت شرعي لغزة، والاتفاق فرصة لالتقاط الأنفاس بالنسبة لمليون ونصف المليون فلسطيني في غزة فعبره سيحصلون علي الحد الأدني من احتياجاتهم من دواء وغذاء ووقود توطئة لجولة جديدة من المقاومة والتي هي حتما تظل قائمة طالما وجد الاحتلال. وعامة فإن محصلة ما تم مؤخرا تعد درسا لمن يركض وراء سراب السلام وكأنها تقول له بأن لغة القوة هي التي تؤتي الثمار ويكفي ان الحصار التجويعي الضاري الذي فرض علي فلسطيني غزة طوال عام كامل قد فشل في دفع حماس لتقديم تنازلات سياسية كما فشل في عزلها عن العالم الخارجي وجاء الاتفاق ليثبت ان لحماس تأثيرا فعالا وتستطيع ان تتعامل مع اسرائيل بندية أكثر من الدول العربية مجتمعة. ولا غرابة ان بادرت اسرائيل وشرعت في اجراء اتصالات مكثفة مع نحو سبعين دولة حتي لا تقيم علاقات مع حركة حماس بسبب اتفاق التهدئة، فلقد جاء الاتفاق ليعلي من شأن حماس ويتوجها كحركة لها ثقلها ووزنها في المجتمع الدولي وككيان مقاوم لا يمكن تجاهله بعد ان ثابر وصمد في مجابهته لاسرائيل، ويكفي صموده البطولي أمام الحصار التجويعي الجائر الذي فرض عليه طوال عام كامل.