في البداية قدمت اَسيا للاقتصاد العالمي العمالة المدربة رخيصة الثمن وهي توشك في غضون عقدين من الاَن أن تقدم أيضا أسواق المستهلكين وعلي العالم أن يستعد لذلك دون إبطاء.. وتقول مجلة "نيوزويك" إن الصين والهند ستكونان قلب ثورة الاستهلاك القادمة.. صحيح أن كلا من البلدين تمثل قصة نمو مختلفة ولكن النتيجة ستكون واحدة، فالصين عرفت بأنها مصنع العالم في حين بنت الهند ثروتها الجديدة علي الخدمات في المقام الأول ولكن الرواج الاستهلاكي في البلدين سيكون واحدا وسيعيد تشكيل الأسواق العالمية. وفي غضون السنوات العشرين القادمة سوف تتمتع 213 مليون أسرة صينية إلي جانب 123 مليون أسرة هندية بمستويات دخل متميزة، وهذا يعني أن هناك قرابة ال 1.2 مليار شخص سيدخلون أسواق الاستهلاك العالمية فيما يمكن وصفه بأنه فورة استهلاك تاريخية. وإذا استمر البلدان الصين والهند علي طريق نموهما الراهن فسوف نشهد مولد سوق استهلاكي كثيف وجديد إلي جانب انخفاض غير مسبوق في معدلات الفقر.. بل إن سرعة هذا النمو ستفوق المعجزة الاقتصادية اليابانية في خمسينيات وسبعينيات القرن العشرين وكذلك معجزة الصعود الكوري الجنوبي ولكن في إطار حجم سكاني يتراوح بين 10 و30 ضعف تعداد اليابان وكوريا الجنوبية. وفي الصين ستؤدي زيادة الدخول المحتملة إلي افتكاك أكثر من 100 مليون نسمة من ربقة الفقر.. وللأرقام هنا دلالتها ففي عام 1985 كان 99% من سكان مدن الصين يعيشون بدخل يقل عن 3 دولارات في اليوم للأسرة ومع حلول عام 2005 انخفضت هذه النسبة إلي 57% فقط.. ونحن نتصور أن الدخول الصينية سوف ترتفع خلال السنوات العشرين القادمة إلي 8 أضعاف ما هي عليه الاَن وبذلك ستنخفض نسبة الصينيين الذين يعيشون تحت خط الفقر إلي 16% فقط. وتشير الأرقام الهندية إلي نتائج مشابهة ففي عام 1985 كان 93% من سكان الهند يعيشون بأقل من دولار واحد في اليوم ثم انخفضت هذه النسبة في عام 2005 لتصبح 54% فقط وينتظر أن تنخفض مرة أخري في عام 2025 لتصبح 22% علي الأكثر.. وإذا استمرت اتجاهات النمو علي ما هي عليه الاَن في كل من الصين والهند عشرين سنة أخري فهذا سيعني خروج 1.8 مليار نسمة من تحت خط الفقر العالمي منذ بدأ البلدان عمليات الإصلاح الاقتصادي في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.. وسوف تنشأ في البلدين طبقة متوسطة كثيفة.. وستصبح الصين ثالث أكبر سوق استهلاكي في العالم بعد اليابان والولايات المتحدة تليهم أوروبا في المركز الرابع ثم تحتل الهند المركز الخامس. والحقيقة أن الشركات العالمية التي تريد أن تستفيد من هذا التحول الكبير سوف تواجه عددا من التحديات.. وعلي رأس هذه التحديات هو أن كل 100 ألف يوان أو 500 ألف روبية يمكنها أن تصنع حياة مريحة لأسرة من الطبقة المتوسطة في كل من الصين والهند علي التوالي "وهي تساوي 50 ألف دولار أو 60 ألف دولار بمعيار تعادل القوة الشرائية" ولكن إذا حولت هذه المبالغ في سوق الصرف فإن قيمتها سوف تنخفض إلي 11 ألف دولار ثم 12 ألف دولار علي التوالي ولاحظ أنك لا تستطيع أن تودع في البنك دولارات بمعيار تعادل القوة الشرائية وإنما لابد أن تودع دولارات حقيقية.. وهنا سيكون علي الشركات العالمية أن تتكيف في سوقي الصين والهند ليس فقط مع الأذواق وإنما أيضا مع الميزانيات المحلية للمستهلكين. وتقول مجلة "نيوزويك" إن هناك تحديات أخري بعضها جغرافي والبعض الاَخر متعلق بعملية التوزيع.. ففي الصين سيتعين علي الشركات العالمية المفاضلة في اختيار مقارها للإنتاج والتوزيع بين 177 مدينة وهي جملة المدن التي يزيد تعداد الواحدة منها علي مليون نسمة في الصين. أما في الهند فلا توجد سلاسل متاجر كبري لتوزيع الطعام والمنتجات الغذائية إلي جانب متاهة الجمارك الداخلية ونقاط التفتيش وهذا كله معناه أن أي شركة ستحتاج إلي أيام ليمكنها نقل سلعها حتي لمسافات قصيرة.. وبجانب ما تقدم فإن الشركات الأجنبية ستواجه بالتأكيد منافسة من الشركات المحلية المماثلة. ولابد أن نضع في الاعتبار أن هذه الأسواق الهندية والصينية ليس مؤكدا أنها سوق تتطور، فالمحافظة علي معدلات النمو العالية ستدفع كلا البلدين إلي مواجهة مشكلات متماثلة.. ومن ذلك أولا أن الخدمات والمرافق العامة لاتزال ضعيفة رغم نمو ثروة كل من البلدين. كما أن أرباب الأسر يميلون إلي زيادة مدخراتهم لعدم ثقتهم في قدرة الحكومة علي تقديم خدمات جيدة في مجالات الصحة والتعليم والمعاشات.. ولذلك فإن تحسين الخدمات الحكومية سيعني تحويل جزء من هذه المدخرات إلي الاستهلاك وهو ما سوف يساعد علي حدوث مزيد من النمو، ومن ناحية ثانية فإن الأنظمة المالية في البلدين تعاني من عدم التحديث ومن التدخل الحكومي الزائد علي أساس سياسي وهو ما يؤثر بالسلب علي قوة النقود وتخصيص الموارد. وفي بحث أجرته MGI اتضح أن إصلاح النظام المالي سيزيد إجمالي الناتج المحلي في الصين 17% وفي الهند 7%، ومن التحديات الماثلة أيضا وجود مجاهيل كثيرة مثل أثر عجز البنية الأساسية الهندية علي النمو.. وأثر قضايا تلوث البيئة في الصين علي ازدهارها الصناعي، وأثر تصاعد العداء للعولمة وما تنتجه من عدم مساواة في البلدين علي مسار النمو فيهما.. وحتي لو تغلبت الصين والهند علي هذه التحديات والمجاهيل فإن السؤال يظل قائما: هل استعد العالم لفورة الاستهلاك في البلدين؟ أو بالأحري هل استعدت الشركات العالمية لهذا التطور الذي صار يلوح في الأفق؟ هذه هي القضية.