لقد ظل العجز في الميزان الحسابي الأمريكي يلقي بظلاله لسنوات طويلة علي قرارات المستثمرين في مختلف أنحاء العالم، ولكن الاهتزاز الأخير الذي أصاب البورصات العالمية من مانهاتن حتي مومباي للمرة الثانية خلال أقل من شهر لم يكن هذا العجز من بين أسبابه وإنما كانت له أسباب أخري أمريكية أيضا أثارت مخاوف المستثمرين، نذكر منها علي سبيل المثال ما أصاب مبيعات التجزئة من تراجع وما حدث من انخفاض عريض في حجم الائتمان وإنفاق المستهلكين. وتقول مجلة "الإيكونوميست" إن الأرقام الجديدة التي أعلنت يوم 14 مارس الحالي أوضحت أن الأمريكيين أنفقوا في عام 2006 زيادة عما أنتجوه بمقدار 857 مليار دولار أي بنسبة 6.5% تقريبا من إجمالي الناتج المحلي، إلي جانب أنه يعتبر رقما قياسيا جديدا في إنفاق الأمريكيين أكثر من إنتاجهم.. كذلك بينت هذه الأرقام أن الفائض التجاري الصيني في فبراير كان قياسيا هو الاَخر وأنه بلغ في الشهرين الأولين من عام 2006 أكثر من 40 مليار دولار أي ثلاثة أضعاف ما كان عليه منذ عام واحد مضي. ومع ذلك، فمن الواضح أن الاقتصاد العالمي قد بدأ يصحح اختلالاته وفي مقدمتها العجز في الحساب الجاري الأمريكي.. فالحكومة الصينية التي تعد من أفضل مقرضي أمريكا أعلنت أخيرا أنها تبحث عن عائد أفضل لاحتياطياتها من العملة الأجنبية.. وأنها في سبيلها لإقامة وكالة جديدة للاستثمار تكون مهمتها تنويع بعض ما يمتلكه البنك المركزي الصيني من أصول بالتخلص من جزء من سندات الخزانة الأمريكية التي تعد المكون الأكبر لمحفظة هذا البنك في الوقت الراهن. ولكن تأثير مثل هذه الأنباء علي قيمة الدولار كان محدودا للغاية حيث إن قيمته التجارية لم تنخفض إلا بنسبة 0.04% منذ بدء الاهتزازات التصحيحية في مختلف البورصات العالمية يوم 27 فبراير الماضي.. كذلك فإن المستثمرين وصناع السياسة معا لم يعودوا يلقون بالا للعجز في الميزان الحسابي الأمريكي ليس لمجرد اعتباره حقيقة واقعة وإنما لأنه بدأ بالفعل يتراجع. وقد اتفق وزراء مالية ومحافظو البنوك المركزية في الدول السبع الغنية خلال اجتماعهم منذ عام تقريبا علي ضرورة تصحيح الاختلالات القائمة بين كبارالمدخرين في العالم، خاصة الصين واليابان والبلدان المصدرة للبترول من جانب وبين المقترضين وخاصة أمريكا من جانب اَخر، وأنهم سيتخذون خطوات قوية ونشيطة من أجل تحقيق هذا الهدف.. بل إن صندوق النقد الدولي حاول أن يجعل من نفسه راعيا لهذه الصفقة الاقتصادية الكبري ولكن العملية برمتها لم تنجح. ولم يكن هناك سوي مردود محدود للحوارات التي دارت تحت إشراف الصندوق بين كل من الصين واليابان والسعودية وأمريكا والاتحاد الأوروبي ومن المحتمل أن يتم نسيان هذه العملية كليا دون ضجة. وترجع هذه اللامبالاة في جزء منها إلي أن العالم كما قلنا قد بدأ بالفعل يصحح اختلالاته، فالدولار هبطت قيمته الحقيقية منذ الذروة التي كان قد وصل إليها عام 2002 وبلغت نسبة الهبوط 16%. وفي الربع الأخير من عام 2006 هبط العجز في الحساب الجاري الأمريكي عن الذروة التي كان قد وصل إليها في الربع الثالث من العام نفسه بل هذا العجز كان أقل من 200 مليار دولار في الربع الأخير من عام 2006 وذلك لأول مرة منذ أكثر من عام.. ولاشك أن جزءا من هذا التراجع في عجز الحساب الجاري الأمريكي يرجع إلي انخفاض أسعار البترول.. ولكن حتي لو استبعدنا أثر البترول فسوف نجد أن هناك نوعا من الاستقرار في الميزان التجاري الأمريكي حيث تنتعش الصادرات وتتباطأ الواردات. وتقول مجلة "الإيكونوميست" إنه لم يمكننا علي أية حال أن نتجاهل أن العالم صار أقل قلقا بشأن ما يعتري الاقتصاد الدولي من اختلالات وإن هذا يظهر أيضا في الدراسات الأكاديمية، فمنذ سنوات قليلة كان الأكاديميون يرون أن العجز الأمريكي سوف يتزايد وأن هذه المأساة ناجمة عن تبذير الأمريكيين وأن الأموال سوف تتجه للتدفق من الأغنياء إلي الفقراء وليس من الأغنياء إلي أيدي الأمريكيين المبذرين وأن وصول العجز إلي 5% من إجمالي الناتج المحلي سيوجد مشكلة حقيقية أمام الولاياتالمتحدةالأمريكية. ولكن هذه الدراسات التجريبية ثبت أنها لم تكن علي صواب فالعجز زاد إلي 6.5% كما سبق أن أوضحنا دون أن تحدث كارثة، كما أن الأموال لاتزال تتدفق علي أمريكا دون انقطاع والأهم من هذا وذاك أن العجز في الحساب الجاري الأمريكي قد بدأ أخيرا في الانخفاض كنتيجة طبيعية لزيادة الصادرات وتراجع الواردات وحدوث درجة من التوازن في الميزان التجاري نفسه.. ومع الوعي بأن النظم المالية لا تنضج بين عشية وضحاها فإن الأمر سيحتاج إلي وقت لكي يتم التخلص كليا من هذه الاختلالات بعد أن بدأت بالفعل في التراجع.