يعتبر الكثيرون، ومنهم كتاب أمريكيون كبار، أن صعود وسقوط جورج بوش ومجموعته اليمينية المحافظة في الولاياتالمتحدة يعبر عن انتهاء مرحلة انتقالية كانت فيها أمريكا هي القطب الأوحد علي السقف العالمي. وقد امتدت تلك الفترة حوالي عشرين عاما منذ انهداد سور برلين وتفكيك الاتحاد السوفيتي في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات حتي سلسلة الحماقات السياسية والدولية التي ارتكبها الرئيس الأمريكي وجماعته ومحاولة فرض السيطرة والهيمنة علي العالم كله. وبداية النهاية تمثلت في كثير من الشواهد أبرزها قيام الشعب الأمريكي نفسه بسحب الثقة من تلك المجموعة الخطرة. وذلك في الانتخابات الأخيرة التي دفعت بالحزب الديمقراطي المعارض إلي اعتلاء منصة الكونجرس الأمريكي بمجلسيه الشيوخ والنواب واحتلال مقاعد حكام الولايات في نسبة كبيرة، وهناك من يعملون الآن في دراسات مطولة علي المقارنة بين دور جورباتشوف في انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، ودور جورج بوش في إنهاء الزعامة الأمريكية العالمية المنفردة. وفيما كانت سياسات الإدارة الأمريكية المحافظة تغرق في أوحال سياسة غطرسة القوة وهي تشعل ثلاث حروب في أقل من خمس سنوات في أفغانستان والعراق ولبنان تحت دعوة محاربة الإرهاب والتي أدت في واقع الأمر إلي زيادة الإرهاب وإلي زيادة المخاطر الأمنية للولايات المتحدة وبقية دول العالم، كانت هناك وعلي الضفة الأخري من النهر نجاحات كبيرة يحققها معسكر الدول الكبري الأخري خاصة في الصين وروسيا. فالصين التي حققت إنجازات اقتصادية هائلة في العقدين الماضيين ووصلت إلي معدلات للنمو غير مسبوقة، بدأت تؤكد حضورها السياسي علي الساحة العالمية بعد سنوات طويلة من سياسات الحياد ودور المراقب الصامت الذي اتخذته في الفترة السابقة، والمنتدي الصيني الإفريقي الذي عقد مؤخرا في بكين وحضره 48 من قادة وحكام القارة السمراء هو أحد المؤشرات المهمة في هذا الصدد، خاصة بعد صدور إعلان بكين الذي يدفع التعاون الاقتصادي والتنموي بين الصين وإفريقيا دون قيود أو شروط أو مطالب. كما أن الجولات الواسعة التي يقوم بها الرئيس الصيني الشاب هو جنتياو في إفريقيا وأمريكا اللاتيتية وروسيا، وفي الهند وباكستان ووسط آسيا، والاتفاقيات الاقتصادية المتعددة بين الصين وتلك البلدان، هي ولاشك مؤشرات قوية للدور العالمي الذي بدأت تلعبه الصين كقطب آخر لابد وأن تعمل له الولاياتالمتحدة ألف حساب. وجاءت الهيمنة الديمقراطية الاشتراكية في أمريكا اللاتينية والتي تعد بمثابة الفناء الخلفي للولايات المتحدة، وصعوداً قوياً وقيادات سياسية تعادي سياسة الهيمنة والسيطرة للولايات المتحدة، في البرازيل والأرجنتين وشيلي وبوليفيا وفنزويلا وأطراف لتسحب كثيرا من الرصيد الدولي للأخ الشرس الرابط في الشمال. وهناك كُتاب وباحثون أمريكيون عبروا في دراسات أخيرة لهم أن فشل سياسة المحافظين الجدد قد فتحت الطريق أمام نهاية العصر الأمريكي منهم ماكس بوت الذي كان من أشد المتحمسين لاستخدام القوة العسكرية الأمريكية لفرض السلام الأمريكي علي العالم كله، وقد وصل ماكس بوت إلي هذه النتيجة بعد الفشل العسكري الأمريكي في الحروب الثلاث التي أشعلتها الإدارة اليمينية المحافظة في أفغانستان والعراق ولبنان. وتوماس فريدمان القريب من أجهزة القرار الأمريكي يقول بوضوح في مقال أخير له إن الحرب الباردة قد بدأت بالفعل بعد الدور الصيني المتنامي سياسيا واقتصاديا بل وعسكريا، ويعتقد الكاتب ان الصين هي المسئولة بشكل مباشر عن تزويد كوريا الشمالية بالقدرة النووية والدفاع عن حق إيران في امتلاك تلك الخبرة. ويشير هؤلاء إلي معاهدة الصداقة والتحالف الاستراتيجي التي عقدت بين الصين وروسيا والهند وباكستان التي يشملها ما يسمي بمجمومة دول مجموعة شنغهاي والتي تضم بالإضافة إلي العملاقين الصين وروسيا خمساً من دول الكومنولس في وسط آسيا، ويحضرها كمراقب ومرشح كل من الهند وباكستان. هذا التحالف الجديد يشير في بيانه الأخير إلي قضيتين أساسيتين أولهما معارضة المزاعم التي ترددها أي دولة بالقيام بدور القائد الوحيد المطلق للعالم، مع إدانة واضحة لسياسة اشعال الحروب ومحاولات الهيمنة والسيطرة، وثانيتهما ان الدول الأعضاء في تجمع شنغهاي لها نفس الحقوق المتساوية سواء كانت كبيرة أم صغيرة وانه لا يحق لأي بلد ان تعطي لنفسها دور رجل البوليس الدولي والتدخل في شئون الدول الأخري تحت أية دعوي. ويبدو واضحا ان نبوءة الكاتب والمفكر الأمريكي الجنسية والبريطاني الأصل بول كيندي في طريقها للتحقيق، وكندي هو صاحب الكتاب المشهور "صعود وسقوط القوي العظمي" الذي صدر سنة 1985 وتنبأ فيه بانهيار الامبراطوريتين السوفيتية والأمريكية، منطلقا من الاتفاق العسكري الضخم الذي يقوم به القطبان.. واصرارهما علي ان يلعبا دور رجل البوليس الدولي وانفاق أكثر من ثلث الميزانية علي برامج تتعلق بالتسليح والرغبة في الهيمنة والسيطرة مما يجعل الدولتين معرضتين لأزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية. وتحول الكتاب إلي نبوءة علمية حين سقط وانهار الاتحاد السوفيتي سنة ،1991 وعاد بول كيندي في كتاب آخر صدر سنة 2000 تحت عنوان أمريكا علي مشارف القرن الواحد والعشرين قال فيه بوضوح إن النجاح النسبي الذي حققته الولاياتالمتحدة طوال السنوات الماضية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي تهدده اخطار حقيقية لو جاءت إلي البيت الأبيض إدارة تمثل اليمين الجمهوري المتطرف والتي تسعي إلي الهيمنة والسيطرة وانعاش الصناعات العسكرية والدخول في مغامرات عسكرية في الخارج. وكأنما كان الكاتب يتنبأ بالمستقبل ويستطلع كف الولاياتالمتحدة فبعد عام واحد من صدور الكتاب وصلت إدارة الرئيس بوش إلي البيت الأبيض ومعه مجموعة الصقور اليمينية المتطرفة في الحزب الجمهوري الذين يرفعون شعار أمريكا فوق الجميع. وقامت هذه الإدارة الأصولية المشوبة بتعصب ديني بكل الموجعات التي حذر منها بول كيندي، فضاعفت من الميزانية العسكرية حتي أصبحت تفوق الميزانيات العسكرية لأكثر من 15 دولة كبري منها فرنسا وانجلترا والصين وروسيا وألمانيا واليابان وإيطاليا، كما دخلت في ثلاث حروب عسكرية فاشلة، واعتبرها الرأي العام العالمي بنسب تتراوح بين 70 إلي 80% دولة عدوانية تريد فرض سيطرتها بالقوة. وكان ذلك بداية لتحقيق الجزء الثاني من النبوءة العلمية للمفكر الأمريكي وبداية النهاية للعصر الأمريكي.