لعل أكثر ما يستدعي الحديث عن الفساد المشاعر التي يعانيها كل من تعامل مع الأجهزة الحكومية ولعل أكثرنا يسمع تعبير الدرج المفتوح الذي يتلقي ما يسمي إكرامية أو القهوة ويسمع حكمة وسع مخك وسلك أمورك. الشخص العادي ينصب سخطه علي الموظف المرتشي ويبكي أو يتباكي علي الأخلاق وقليل من يسأل كيف يعيش موظف صغير أو حتي متوسط وفي بعض الأحيان حتي موظف كبير هذه الأيام. يقدر بعض الدارسين أن ما يحتاجه رب عائلة مكونة منه وزوجته وطفلين للطعام الأقل من العادي الذي لا يتناول اللحم إلا مرة في الأسبوع وبالطبع لا يوفر بيضة لكل طفل يوميا أو كوب لبن، قدروا ما يحتاجه لغذائه وعائلته ما يزيد علي خمسائة جنيه شهريا. ونتحدث عن الغذاء فقط وليس عن الملبس أو العلاج أو المواصلات أو التعليم.. إلخ إلخ. سعر البيضة الآن ستون قرشاً وسعر كيلو اللحم تجاوز الثلاثين جنيه بل الأربعين جنيها. كم يبلغ مرتب خريج الجامعة الذي لديه مدة خدمة تصل إلي خمسة عشر عاما؟ إنه حوالي 300 جنيه أو أكثر قليلا في المتوسط. هذا ليس في الوظائف الادارية بل حتي الوظائف المتميزة كطبيب أخصائي. هل نتحدث عن صغار الموظفين؟ أظن أنه لا داعي لتقليب المواجع. ما الذي جعل القدرة الشرائية للمرتبات والأجور تنخفض وبعد أن كانت تكفي لتوفير احتياجات كل حسب قدرته ومستواه المهني، لم تعد تكفي حد الكفاف لعل أول ما يتبادر للذهن هو ارتفاع الأسعار ويقدر بعض الدارسين أن الأسعار ارتفعت في الثلاثين عاما الماضية بما يزيد علي خمسين ضعفا بل يقدر بعضهم انها زادت بما يناهز المائة ضعف بالنسبة لبعض السلع علي الأقل. دعنا من تعبيرات الاقتصاديين عما يسمي التضخم ودعنا من تلك الدراسات في الاقتصاديات المتقدمة عن سعر الفائدة في البنك التي ترفعها للحد من الائتمان والحدمن التوسع النقدي وارتفاع الاسعار ببساطة يعني أن الإنتاج السلعي البضاعة لا يزيد بالقدر الذي يتم به التوسع في اصدار النقد. في مصر حدثت تطورات عرضية خطيرة في غضون السنوات الثلاثين الماضية، الإنتاج السلعي يتراجع ولعل أوضح أمثلته صناعة النسيج انحدار صناعة النسيج أخذ أشكالا غريبة من أول تثبيت أسعار المنتجات في بداية الانفتاح بزعم الدفاع عن المستهلك ثم خسارة شركات النسيج مع تحرير تجارة القطن وبداية خلل الهياكل المالية لتلك الشركات والسحب علي المكشوف من البنوك وتوقف التوسعات ثم توقف الاحلال والتجديد وأخيراً توقف الصيانة وخراب الشركات هل اهدار الطاقات الإًنتاجية في تلك الشركات مرتبط بأنها قطاع عام وحتي إذا أردنا التحول من القطاع العام إلي اقتصاد السوق لماذا لا تباع هذه الشركات لمستثمرين مصريين وهي بحالة جيدة؟! الواقع أن خصخصة مشروعات كثيرة (كمصانع الأسمنت مثلا) أو فتح المجال للبنوك الأجنبية أو خصخصة بنوك وطنية كلها أمور سمحت بتدفق ثرواتنا الوطنية إلي الخارج دون تحقيق تنمية في بلادنا أو توطين تكنولوجيات جديدة ذات أهمية. كما أصبحت مجالات كالمضاربة في البورصة علي أسس غير شفافة أو منضبطة قانونيا سبيلا للاستحواذ علي أموال طائلة دون أي جهد إنتاجي. أيا كانت الأهداف من الخصخصة والحديث عن كفاءة اقتصاديات السوق فإن الخصخصة بصورتها الحالية لم تدعم الرأسمالية المصرية ولم تدعم دورها في الاستثمار المنتج للقيمة الخصخصة مع فتح السوق لرأس المال الأجنبي وتمكينه من السيطرة علي مواقع متزايدة من الطاقة الإنتاجية في مصر لم يقو الرأسمالية المصرية ومن ناحية أخري فإن القطاع العام كان وحتي عقد السبعينيات أهم مصادرالتمويل سواء لميزانية الدولة أو لإحداث استثمارات إنتاجية جديدة. وأدي حرمان الاقتصاد المصري من أرباح القطاع العام وقدراه علي تمويل استثمارات جديدة إلي أضعاف القدرة الوطنية علي التنمية الاقتصادية الأمر الذي أدي بدوره إلي زيادة البطالة. ومن ناحية أخري فإن أرباح المواقع الإنتاجية التي انتقلت إلي رأس المال الأجنبي يتم نزحها للخارج أي أن الاقتصاد المصري الضعيف يساهم في تمويل الرأسمالية العالمية أو العولمة ونموذج الاسمنت الذي يحقق معدلات مهولة للربح يوضح خطورة عملية نزح الأرباح للخارج. ** الغريب أن ذلك يتم في الوقت الذي ترتفع الصرخات والمؤتمرات والوفود لجذب الاستثمار الأجنبي لدعم الاقتصاد المصري!! مقاييس التفوق الاجتماعي في اقتصاد يتحقق الربح دون إنتاج أي دون اضافة قيمة فإنه بالضرورة أن يحدث تآكل في القيم الاجتماعية والأخلاقية. في مصر حاليا نجد أن النشاطات المالية غير المحدثة للقيمة هي أكثر النشاطات المحققة لزيادة الثروة.