في أول أيام شهر رمضان تلقي صديقي المستثمر الزراعي اتصالا هاتفيا من وكيله يستأذنه في دفع أو عدم دفع رشوة قيمتها ألفا جنيه لموظف في احدي الهيئات العامة. كان الموظف قد ذهب للمعاينة وكتابة التقرير التمهيدي والضروري لكي توافق هيئته علي تملك المستثمر مساحة خصصتها الدولة للاستصلاح والاستثمار الزراعي. ولأن هذا المستثمر رجل جاد ويعتقد أنه ذو حيثية في الوقت نفسه فقد رفض أن يخضع للابتزاز مادام ملتزما بالقانون, ولكن تفكيره هداه إلي أن يطلب من وكيله سؤال الموظف عما إذا كان صائما إذا كان مسلما, فأجاب الموظف: نعم أنا صائم والحمدلله, فطلب صديقي من وكيلهأن يسأل الموظف وكيف تكون صائما وتطلب رشوة؟! كان الرجل ووكيله يظنان أنهما أفحما الموظف, ولكن الذي حدث أن الموظف هو الذي أفحمهما وأجبرهما علي دفع الرشوة واسترضائه, إذ تناول الموظف الهاتف المحمول من وكيل المستثمر, وقال له ألم تسمع بأن الفقهاء اتفقوا, أو اتفق عدد كبير منهم علي أن عموم البلاء يبيح ما ليس في الأصل مباحا, وخذ مثالا علي ذلك مسألة خلو الرجل في مساكن الايجارات القديمة والأراضي الزراعية التي كانت خاضعة ايجاريا لقانون الايجارات الزراعية السابق قبل الغائه, فهل عاد أحد يتساءل إلا قليلين عما إذا كان اقتسام ساكن الشقة وفقا لقانون الايجارات القديم لثمنها في حالة البيع أو لخلو الرجل مع المالك حراما أم حلالا؟ أليس ذلك تسليما بعموم البلاء, وهل الساكن الذي سوف يدفع خلوا لشقة جديدة يصبح آثما إذا تقاضي خلوا في الشقة التي سوف يتركها؟! رد المستثمر الزراعي متسائلا: وما علاقة هذا بموضوعنا ؟ فرد عليه الموظف المفوه: ياسيدي هل في مصر الآن أحد لا ينتفع أو لا يحاول الانتفاع بمزايا اضافية, أو لنكن صرحاء ونسمه دخلا أو كسبا اضافيا من موقعه, أو نفوذه, أو معارفه, إنك تجد موظفا زميلي بنفس المؤهل, ونفس الدرجة ويتقاضي مزايا اضافية تجعلني فقيرا بالنسبة له لأنه انتدب إلي هذا المكتب أو ذاك من مكاتب الإدارة العليا في هيئتي ناهيك عن استئثار هذه الإدارة العليا في كل مكان بنصيب الأسد, وتجد وزيرا يمنح أقاربه, ومعارفه, والمتعاملين معه أو معهم مزايا هنا وهناك, وتجد نوابا يستغلون مواقعهم لإجراء جراحات تجميل تحت بند علاج المحتاجين علي نفقة الدولة, وتجد مستوردين يحصلون علي اعفاءات بالاحتيال والالتفاف والنفوذ, وهناك المهنيون الذين لا ضابط ولا رابط لأجورهم وأتعابهم وضرائبهم إذا دفعوا ضرائب من الأصل, بمن في ذلك الدروس الخصوصية من الإبتدائي حتي الجامعة ثم خذ رجال الأعمال كلهم, فهم إما انهم يدفعون لتسهيل أعمالهم, وإما انهم يستغلون نفوذهم لدرء المخاطر علي مصالحهم, فهل إذا حاول موظف صغير مثلي أن يزيد دخله القليل أصلا بمثل ما يفعل كل هؤلاء تذكرون الحلال والحرام والصلاة والصيام؟ ثم ياسيدي إن معظم هؤلاء الذين ذكرتهم لك يصلون ويصومون ويحجون ويعتمرون بل ويتصدقون ويقيمون موائد الرحمن. خلاصة الحكاية أن صديقي المستثمر اضطر إلي دفع الرشوة ليس اقتناعا كاملابفتوي الموظف, ولكن لأنه اكتشف أن كلمة واحدة غير أمينة يكتبها هذا الموظف قي تقريره سوف تضيع الأرض ومعها جهود واستثمارات عدة سنوات, وهذا ما حدث مع موظف آخر من هيئة أخري في اليوم التالي ولكن دون الدخول في جدل حول الحلال والحرام. بطبيعة الحال فإن الرأي الشرعي في فتوي الموظف المرتشي متروك لأهل الذكر من الفقهاء وعلماء الدين, ولكن يهمني هنا السياق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي كون فيه هذا الموظف وأمثاله الكثيرون رأيهم في مسألة الرشوة والأجر ومزايا أو ريع المناصب والنفوذ, ولأنها ظاهرة عامة, وقضية أكبر من هذا الموظف أو ذاك, وأكبر من هذه الهيئة أو تلك, فإنني حجبت اسم الهيئة أو الهيئات, ولم أتطرق بالتفصيل لكيفية التلاعب البيروقراطي في التقارير حتي لا يعاقب هذا الموظف وحده, أو تلك الهيئة بعينها ولو من الرأي العام, في حين أن المصيبة أكبر والبلاء أعم. كذلك إن أسباب وصولنا إلي هذه النقطة من التردي في الفساد الإداري وغيره قديمة وكثيرة, وعليه فان وسائل الإصلاح إذا أردنا هي الأخري كثيرة وطويلة, ولكن اجتهادي المتواضع هو أن إعادة هيكلة الأجور في الجهاز الإداري للدولة تصلح نقطة بدء جيدة, وما أقصده بإعادة الهيكلة أوسع بكثير من زيادة الأجور والرواتب, أو بما يسمي ربط الأجر بالانتاج, ولكن القصد هو إصلاح الخلل في جداول الأجور والبدلات والمزايا, إلي أخره من سائر المسميات داخل الجهة الواحدة, وبين الجهة الواحدة والجهات الأخري, وبين الإدارة الدنيا والوسطي والعليا, وسد منافذ تحايل الإدارة العليا علي اللوائح لجعل سلطة المنع والمنح شخصية بحتة. أذكر أن وزيرا مرموقا من وزراء المجموعة الاقتصادية الحالية, وهو معروف بصراحته وحدته أحيانا كان يضرب المثل علي عدم معقولية احتجاجات الموظفين المصريين في كثير من الأحيان, فقال متحدثا إلينا علي مائدة غداء إنه وافق علي رفع أجور وبدلات موظفي إحدي المصالح في وزارته لنجاحهم في زيادة الايرادات ولضمان مناعتهم ضد الرشوة التي سوف تقلل الايرادات, ففوجيء بموظفي مصلحة أخري تتبع الوزارة نفسها يطالبون بزيادة مماثلة, وإلا أضربوا عن العمل, وكان سؤاله لهم: ماذا قد تم من جهد زائد لكي تطالبوا بزيادة الأجور؟ وهنا سألت السيد الوزير: هل هناك جهد زائد مطلوب منهم, وتأخروا عنه؟ فإذا لم يكن الأمر كذلك فهل هناك تقصير منهم؟ فقال السيد الوزير: هم يقومون بواجبهم علي أكمل وجه, فتساءلت مرة أخري أمام عدد محدد من كبار الكتاب والصحفيين: هل المصلحة التي يعملون بها وكان قد ذكر اسمها مهمة أم غير مهمة لعمل الوزارة, فقال إنها بالغة الأهمية, ولكنها لاتدر دخلا, فعدت أسأل وماذنب هؤلاء الموظفين المهمين جدا إذا كانت وزارتك قد وضعتهم في مكان مهم لكن لايدر دخلا, ووضعت أخر في مكان أقل أهمية, ولكن يدر دخلا, فيعيش هؤلاء الآخرون في بحبوحة, ويعيش أولئك الأولون في ضنك, وهم في وزارة واحدة, في نفس الدولة, فأجاب الوزير بشجاعة يحسد عليها إن ما تتحدث عنه هو جزء من عشوائية الأجور في مصر, فاقترحت عليه وهو الوزير النافذ أنيتكون تحويل هذه العشوائية في الأجور إلي نظام رشيد وعادل من أولي مهامه في الحكومة, ووعد الرجل خيرا... وإنا لمنتظرون. ملاحظة ختامية: لم أذكر أسم الوزير لأن الحديث في الأصل لم يكن للنشر, ولكن هذه مناسبة لكي أذكره, بوعده, وأدعو كل من له دور في وضع السياسة العامة للبلاد إلي مساندته... حتي لا نجد بيننا في يوم من الأيام من يفتي بجواز السرقة والسطو, كما أفتي الموظف إياه بجواز الرشوة لعموم البلاء, وتذكروا أن هناك من يؤمن بالحلال علي قول ضعيف, فما بالنا بقول قوي كالمنسوب للصحابي أبي ذر الغفاري, عجبت لمن لا يجد قوت يومه, كيف لا يخرج علي الناس شاهرا سيفه؟!. المزيد من مقالات عبدالعظيم حماد