هناك سؤال كثيرا ما يطرح علي ولا أخفي أنه "ينرفزني": "أنت تونسية أم مصرية؟!".. وباطن السؤال المتخفي وراء دبلوماسية مصطنعة يطرح فكرة الانتماء ومدي توافرها اكثر في "نصفي" الاول أو الثاني، وكأن هناك معركة وننتظر لمن ستكون الغلبة! والحقيقة ان الاجابة عن هذا السؤال لم تستغرقني لحظة، طيلة أيام حياتي التي قضيتها في مصر وتناهز العشرين عاما. كانت السنوات الاولي في هذه الرحلة معجونة بالتحدي، فلم يكن اقرب الناس الي قلبي من افراد اسرتي واصدقائي علي نفس درجة حماسي لهذه التجربة العاطفية التي قادت خطواتي الي "ام الدنيا" ولكني تربيت وتعلمت منذ طفولتي علي تحمل مسئولية قراري، اذا ما تعنت وعندت وتمسكت به. لذلك كان لابد ان انجح.. وان اثبت لمن حولي ولمن يحبوني، ولنفسي من قبلهم اني سأنجح، فألغيت من قاموسي المستحيل ودافعت عن احلامي واختياري بارادة فولاذية لا تعترف بالفشل، ساعدني في ذلك الكثير من حماس الشباب وعاطفة المراهقة الجميلة واستعنت بالصبر عند الصعوبات وإيماني بالله اللا محدود. وعندما انظر ورائي الي تلك الايام اشعر اني كنت اعيشها واخوضها بسلوك المحاربين وعقلية العسكريين، والذي طبع كثيرا من تصرفاتي. ولم اشك لحظة في المكان الذي ابني فيه حياتي ومستقبلي، لاني أؤمن بان الاخلاص لابد ان يكلل الخطي بالنجاح بتوفيق من الله طبعا. ومرت السنوات وشعرت بان البلد الذي احتضنني وفتح لي ابواب الرزق، وفرص الارتقاء يزيد رصيده داخل قلبي كل لحظة.. لكنه وفي نفس الوقت، لم يكن ذلك علي حساب المساحة التي يحتلها بلدي ومسقط رأسي تونس، بل ان مشاعر الحنين للأرض وللناس الذين علموني منذ نعومة أظافري جميع المبادئ التي سرت عليها كانت تكبر معي كل يوم. ولم اشعر بازدواجية قط في حبي لمصر ولتونس، بل دائما ما كنت مزهوة بتناغم العاطفتين الجياشتين بداخلي وفخورة باني امتلك تميزا ربما يحسدني عليه اخرون نابعا من ان الناس يملكون بلدا واحدا اما انا فلي بلدان. ولم يطرأ اي خصام او منافسة بين انتمائي الشديد لبلديّ.. حتي في المباريات الرياضية وخاصة كرة القدم، التي تتحول فيها مشاعر المشجعين الي غباء احمق.. لم اكن اعاني، ربما لاني لست من المتعصبين رياضيا، وربما ايضا لان ما يصيبنا في مباراة واحدة من احتقانات تظل السياسة والدبلوماسية تركض لتداويه في سنوات. لذلك كله.. اصبحت املك اجابة علي ذلك السؤال الذي كان يرهقني نفسيا.. بان الانتماء لا يتجزأ وان الاخلاص والايجابية في العمل يمكن ان تنبت زهورا تنور وتفوح عطرا في اي ارض تزرع فيها وظللت كالشجرة التي ترمي بالجذور في الاعماق اريد ان اشرب من ماء نهر النيل، ومن ماء نهر مجردة. وظللت ايضا علي عهدي مع بلدي الاول مع شعور مضاعف معه بالتقصير، عقدة اضطهاد ذاتية، "تراني" دائما اقل من المأمول منها، واتوق ان اقدم لها المزيد عرفانا بفضلها علي وما اكتسبته من حصانة وقوة وعزيمة جعلتني قادرة علي مواجهة اي مجتمعات اخري، وانا بعيدة عن حضنها.. ظل هذا الشعور يؤرقني حتي جاءني الخبر الذي بدأ يصالحني علي نفسي: حصولي علي وسام الاستحقاق الثقافي من الرئيس زين العابدين بن علي. وكان الوسام واللفتة السامية بمثابة اليد التي ربتت علي كتفي في حنو.. وكأنني كنت في شتاء مع النفس، فغمرني بالدفء، وهدأت عواصفي "الداخلية".. فهذا هو الربيع بعد شتاء! كنت دائما اقول لنفسي "البعيد عن العين بعيد عن القلب".. ولأول مرة وكأن الرئيس بن علي يقول لي "شخصيا": لا، أنت لست بعيدة عن العين، ولست بعيدة عن القلب!! إن لمسات الرئيس بن علي التي تشمل بالرعاية ابناء تونس في الداخل والخارج تعيد فيهم الثقة بكل القناعات الوطنية التي قد يكونوا حفظوها علي "دكة" الفصل الدراسي او سمعوها في خطبة سياسية، ان معني الوطن كائن حي يتنفس وينمو ومثل هذا الوسام جعل مفهوم الوطن يتنفس اكثر وينمو اكثر فأكثر. واعتبر هذا الوسام قبل ان يكون لشخصي فهو لكل زملائي سواء في تونس او في مصر الذين ساعدوني علي الحفاظ علي انتمائي ومنحوني معني مضاعفا للانتماء ومنحوني ثقتهم ايضا وساهموا معي في التواصل بين شطري القلب: تونس ومصر. فإليهم جميعا أقول: شكرا!